في "القدر المتلازم"... السينمائي المصري خيري بشارة شاعرا

هوية تتأرجح على نصل سكين

Tim P. Whitby/Getty Images for The Red Sea International Film Festival
Tim P. Whitby/Getty Images for The Red Sea International Film Festival
خيري بشارة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي

في "القدر المتلازم"... السينمائي المصري خيري بشارة شاعرا

يتلقى الطفل المصري جواز سفر أجنبيا، مكتسبا هوية مزدوجة، وفيما الأم الأوروبية تضحك مبتهجة بالعثور على موضع قدم لهويتها المقموعة في أنحاء ابنها، يبكي الطفل، مخفورا بقهقهات العائلة، أمام سؤال ارتباك الهوية الذي سيكافح كي يقدم له إجابة تبرر الدمع: لأنني بولندي، ولكنني لا أتكلم البولندية. هذه أجواء سردية سحيقة ابتعثتها بئر الطفولة واستردت رفاتها من تربة الأصداء، تؤطر فضاء الاغتراب الكلي لـ"القدر المتلازم"، المجموعة الشعرية الأولى للمخرج السينمائي المصري خيري بشارة، والصادرة أخيرا عن "دار الشروق" بالقاهرة.

بلا مواربة، يحتل سؤال الهوية متن الفضاء الشعري، وتتوزع ظلاله على القصائد الخمس والخمسين التي تؤلف ديوانا من 104 صفحات. نحن أمام ذات لا تكف عن التساؤل عن موقعها، قبالة الآخر؛ كل آخر، سواء مثلته الجماعة (التي تغدو قطيعا أعمى، فيما تناوئ بكل ما أوتيت من قوة محاولات الذات الفردية للانفلات من أسر القيم المكرسة)، أو مثلته فردية أخرى، في صورة المرأة المستحيلة التي تطمح الذات عبثا إلى الاتحاد بها وفق تصور صوفي مقموع، وفي الأخير، قبالة العالم الذي تختصر فاجعته صورة مهولة تشيدها نشرات الأخبار في سرديات لا تخييلية، فينضم سؤال المصير الإنساني لكل عنصر مقموع، كالفلسطينيين، إلى سؤال الذات الخاص.

ذات تقدّم، عبر قصيدة النثر بالذات، خطابا يحتفي بالقطيعة، واضعا قدمين فوق "إرث الأسلاف" بغية التأسيس لـ"إرث شخصي"، غاية تأسيسه هذه المرة هي المحو، لا التكريس.

الأسلاف: إرث التقويض والمحو

لم يدرك الطفل انقسام هويته من اغتراب اللغة في جواز سفره الجديد فحسب، بل من الهوة بين الصورة واللغة، ففيما ظلت صورته كما هي، اختلفت الكلمات: "لم أفهم ماذا تعني الجنسية المزدوجة/ ولكني فرحت لرؤية صورتي". إنه يتعرف نفسه انطلاقا من الشكل اللا لغوي، فيما يفقد تلك المعرفة في اللحظة ذاتها، في متاهة العلامة المدونة، بإدراك أن الصورة الواحدة يمكن أن تنتج هويتين نقيضتين (أليس هذا نفسه أحد أدوار الشعر؟).

انطلاقا من الطفل ذاته، ستحضر صورة الأب في كابوس آخر، فبينما سرّبت الأم الى طفلها هويتها المغتربة في اليقظة، يمرر الأب الى طفله هويته الممحوة في المنام: "قرأت في دفاتر أبي/ وصفا لأحد كوابيسه:/ في يوم قائظ الحرارة/ أكلت ثلاث قطع من السمك المقلي/ ثم استسلمت لنوم القيلولة/ في الدقائق الأخيرة من النوم الثقيل/ كانت هناك تقارير غامضة عن الأرقام والمعرفة/ وأسرار الحياة/ عن الفرح والألم/ والمشاريع الطموحة/ وكان يبدو أن ذلك كله يخصني وحدي/ وأنها كل المعلومات التي أمتلكها في الدنيا/ ... وضعت التقارير الغامضة في الحقيبة السوداء/ وفي الثواني الأخيرة/ من الحلم الثقيل/ كانت الحقيبة قد سرقت/ واستيقظت من النوم لأكتشف/ أني تجردت من كل المعلومات الضرورية/ التي تبقيني على قيد الحياة/ كان ذلك هو كابوس أبي،/ وأخاف أن يأتيني أنا أيضا".

لم يدرك الطفل انقسام هويته من اغتراب اللغة في جواز سفره الجديد فحسب، بل من الهوة بين الصورة واللغة، ففيما ظلت صورته كما هي، اختلفت الكلمات

بين ازدواج الهوية والعصف بها، تنهض ذات عالقة، غير قادرة على القبض على ماهية منسجمة، ماهية واحدة من جهة، وغير قابلة للتقويض أو الاندثار من جهة أخرى، لكن كيف السبيل إلى ذلك إن كانت الهوية على هذه الشاكلة هي الإرث الوحيد الممكن؟ أين طوق النجاة من وجود يعمل كممحاة عوض أن يعمل كقلم؟

 من خيط الأحلام، تقبض الذات الشاعرة على خيط يغور في عالم أشد ميتافيزيقية، فالأم تعاود الظهور من العالم الآخر، كأنما لتفكك منطق الصورة نفسه الذي أبهج الطفل قديما، مقدمة خطابا معتما عن فناء الشكل نفسه، بصوت شعري آت من الموت: "أود يا ولدي أن تعلم"، هذا هو عنوان النص الذي يشتبك مباشرة مع الوصايا المألوفة للأمهات في آخر الحياة، لكنه هنا يأتي من أول الموت: "قالت أمي/ أود يا ولدي أن تعلم/ أنه حين غادرت روحي الجسد/ لتتحد مع الكون غير المرئي/ دهشت حين رأيت دون عينين/ أن جسدي يتحلل وصار ترابا/ ولم يعد هناك وجود لوجه أمك/ الذي عرفته على الأرض/ إلا في الصور التي تحتفظ بها/ داخل أجهزتك الإلكترونية/ أو تلك القديمة التي وضعتها/ داخل ألبوم أنيق/ ما يحزن روحي ولا يمكنني أن أتخيله/ أنك يوما ستلاقي نفس المصير".

"القدر المتلازم"

حضور الأم: زمن الطفولة المفقود

من الملحوظ أن الأم كذات شعرية تقدم دائما على النقيض من الأفق الدلالي المألوف لصورة الأم. الأم هنا لا تحيل للسكينة أو التطمين، بل تؤسس، كذات حاضرة/ غائبة، لخلخلة الهوية سواء في الحياة أو العالم الآخر. ربما هذا ما يفضي بالذات الشاعرة إلى النهوض بنص تحل فيه الأم كمخاطب، في مناجاة تجمع التضرع بالغضب: "أريد أن أصرخ يا أمي/ لأني أشعر بألم شديد داخلي/ وأعرف أن الصراخ لن يشفيني/ ولكني أريد أن أصرخ".

في الحقيقة، فإن الطفل في التجربة الشعرية لخيري بشارة، يرجع أصداء الطفل "البروستي"، حيث الزمن المفقود هو ما يدشن الحاضر ويشكل قوامه الهجين المستعصي على الانضواء تحت لافتة نقية للهوية، وحيث فعل التذكر هو نفسه فعل ترميم الوجود التجريبي الباحث عن مرجع، والمتشكك، بالقوة نفسها، في كون الذاكرة وعاء موثوقا به لهوية لا سبيل إلى التشكيك في صدقها، إذ أن كل ما يمضي يغدو قابلا للتحريف، ورغم ذلك، وهنا مكمن المفارقة المؤلم، لا مرجع غير هذا الماضي المموّه يمكن الاستناد إليه لتعريف الذات استنادا إلى منابع تشكلها، ولتفكيك الشفرات الأساسية. وبالقوة نفسها، فإن صوت الشيخوخة - الصوت الذي أنتج الخطاب الشعري - يبدو مشتبكا مع نمط اغتراب قدمته قصيدة كفافيس، حتى أن مناخاته الرثائية في قصائد مثل "المدينة"و"الشموع" و"النوافذ" و"في انتظار البرابرة"، تحل في تناصات رهيفة: "سواء دخلت أو خرجت/ لن يدوم ما عرفته وتعلمته/ وستظل عالقا إلى الأبد/ ولن تدرك الجوهر الحقيقي للأشياء".

لا وجود للمرأة كذات منتمية الى الحاضر، فهي إما ذكرى تجسدها أطلال علاقة مضت كاشفة عن أشلاء ملتصقة لذات غائبة، وإما استشراف مستقبلي يجسده حلم مستحيل

من هذا المنطلق، تتمكن الذات الشاعرة من تقمص ذوات أخرى ربما لا يربطها بها سوى خيط الشعور، بضمير المتكلم نفسه، فيحل الطفل (الفلسطيني مثلا) الذي يتشبث بالأنقاض في فاجعة مفارقة - لأنه لن يغادر دون قطته - يحل في وعي الذات المباشر بالعالم، بل وبصوت الطفل لا الناضج. إنها نظرة شمولية الى العالم ترى الكليات، والمحكيات الكبرى كافة، عبر التفاصيل الأشد هامشية، والتي ربما لا تكون مرئية للجماعة. ثمة ذوات بديلة إذن، في وسعها أن تدعم إعادة تعريف الذات لنفسها، كمرايا استعارية، تزحزح صورة الذات من الكنائي المباشر، المحكوم بالزمن والمكان، إلى رحابة الوجودي، لتغدو الذات المنقسمة، في الأخير، ذاتا جامعة.

وبالتقاطع مع الضمير الأول للذات الشاعرة، الذي يبرز الأنا في نسق غنائي، ينهض الاستناد إلى ضمير المخاطب في غير موضع، لتواجه الذات الشاعرة الآخر دون وسيط، كأن الآخر يتجاوز ماهيته كموضوع متمترسا في ماهيته كمتلق، في فعل مواجهة مباشر: "كم أمقت حكمتكم/ يا من انشغلتم في مباراة الإقصاء/ طوال العقود الماضية". هذا النمط من الخطاب سيتكرر، في أكثر من صيغة، متلونا في كل مرة بطيف جديد يلون طبيعة المواجهة، من الوجودي الى لسياسي، ومن التاريخي الى الآني المعيش.

Ammar ABD RABBO / Red Sea Film Festival / AFP
خيري بشارة

الحبيبة: جفوة الواقع وهوة الحلم

تحتل المرأة مساحة كبيرة من فضاء خيري بشارة الشعري: حبيبة مصادرة، لا يلتئم الوصال بها أبدا. على وجه التقريب، لا وجود للمرأة كذات منتمية الى الحاضر، فهي إما ذكرى تجسدها أطلال علاقة مضت كاشفة عن أشلاء ملتصقة لذات غائبة، وإما استشراف مستقبلي يجسده حلم مستحيل بالعثور على "القدر المتلازم".

المرأة مكتملة فقط كموجود ذهني، مكانه الرأس: "يوما ما سأحكي عنك/ لأننا لم نتلاق على الأرض/ ولم تكوني سوى شخصية خيالية/ وكأنك هبطت من كوكب آخر/ ليطيب مقامك داخل رأسي". الاقتحام الحقيقي من رجل لامرأة، يتحقق كفعل ذهني، لا سبيل لتحقيقه إلا عبر ذات طيفية أو جسد هو بالكاد صورة خفيفة لقوام شبح، يلج الجسد المشتهى عبر "التصور"، فيما يبقى باب الجسد الواقعي موصدا. ولا يقتصر فعل الاقتحام على طرف دون الآخر، فكلا الرجل والمرأة يقومان بالفعل نفسه، واقفين عند عتبة ذاك الحد "الطيفي": "صاحت في غضب/ لماذا تقتحم أحلامي دون دعوة/ وتعربد في جسدي دون رغبة مني؟".

المرأة تحيل مباشرة على الاتحاد بالعالم الميتافيزيقي، كبديل لمروية الواقع المغدورة، فتذهب الذات الشاعرة إلى ما وراء الوجود الملموس، بحثا عن العناق المستحيل: "صعدت إلى السماء/ ورأيت ما لم تره روح من قبل/ حوريات لا تعد ولا تحصى/ فلتحذريني أيتها المراوغة/ يا من كنت تقفين كحارسة صلبة/ أمام بوابة الجسد/ وعند منابع الروح".

المهم أن الذات تصفو في النهاية لضوء باطنها الشفيف والجارح، وقد قوضت كل مرجع سالف استندت إليه

الكتابة نفسها أفق آخر بديل لإخفاق الاتحاد في الواقع، بحيث يغدو فعل التدوين، والخطاب الشعري من ثم، واقعا بديلا مكتملا: "أعرف أنني لن أستطيع محوك من الذاكرة/ ولكن سوف تذهلين حين تعلمين/ أن الوحي يداعبني في المنام/ حتى أستيقظ لتدوين أشعاري/ وأنا أتعجب من تدفق الشعر في كهولتي/ التي تشهد كتابة معظم قصائدي".

ثمة تعرية هنا للفعل الشعري نفسه، تجعلنا أمام "ميتا قصيدة"، نص ذاتي الانعكاس، يعري ذاته داخل الخطاب نفسه كاشفا دوافعه وتقنياته وغايته، وبحيث ترتد "الذات الشاعرة"، ذلك القناع الذي يخفي وجه الشاعر، كاشفة عن الشاعر ذاته، ومشيرة حتى للغاية من إنشاء النص الشعري: "هذه هي شفرتي/ قصائد مرسلة في العشق/ مهداة إلى صغيرتي/ التي تكره الشتاء/ وتعشق الكعكة الانجليزية/ وتقويم الأسنان الخزفي".

من الملاحظ أيضا ان غالبية القصائد المكتوبة في باب العشق، تذيل بملحوظة (تاريخ الكتابة مجهول)، فيما عديد القصائد الأخرى مؤرخة باليوم والشهر والسنة. هل هي محض مصادفة؟ أم تأكيد لا واع أن الحب، سواء نجح أو أخفق، يستعصي على التأريخ؟

من الغضب إلى النسيان، تتحقق دورة الذات الشاعرة في علاقتها بالآخر الأنثوي، وإن كانت "الأوقات السعيدة مضت"، فثمة لحظة التطهر "الرومنسية" - في متن شعري لا يخلو من اتصال واضح بأفق القصيدة الرومنسية ويحقق عددا من أبرز شروطها - وثمة لحظة "الكشف"، إذ تكتفي الذات بالاتحاد بنفسها، في انكفاء على الوجود كانعكاس عوض الوجود كمظهر، حيث كل آخر ليس فحسب موجعا أو مؤلما، بل لم يوجد قط: "قررت الصفح عنك/ لأنك ببساطة لم توجدي أصلا".  

"القدر المتلازم" حلم سرابي أكثر منه حقيقة واقعة، ولا مناص من تفكيكه طالما لا سبيل إلى تحققه. المهم أن الذات تصفو في النهاية لضوء باطنها الشفيف والجارح، وقد قوضت كل مرجع سالف استندت إليه، حتى صار كل جدار من خرسانة، جدارا من هواء.

font change

مقالات ذات صلة