يتلقى الطفل المصري جواز سفر أجنبيا، مكتسبا هوية مزدوجة، وفيما الأم الأوروبية تضحك مبتهجة بالعثور على موضع قدم لهويتها المقموعة في أنحاء ابنها، يبكي الطفل، مخفورا بقهقهات العائلة، أمام سؤال ارتباك الهوية الذي سيكافح كي يقدم له إجابة تبرر الدمع: لأنني بولندي، ولكنني لا أتكلم البولندية. هذه أجواء سردية سحيقة ابتعثتها بئر الطفولة واستردت رفاتها من تربة الأصداء، تؤطر فضاء الاغتراب الكلي لـ"القدر المتلازم"، المجموعة الشعرية الأولى للمخرج السينمائي المصري خيري بشارة، والصادرة أخيرا عن "دار الشروق" بالقاهرة.
بلا مواربة، يحتل سؤال الهوية متن الفضاء الشعري، وتتوزع ظلاله على القصائد الخمس والخمسين التي تؤلف ديوانا من 104 صفحات. نحن أمام ذات لا تكف عن التساؤل عن موقعها، قبالة الآخر؛ كل آخر، سواء مثلته الجماعة (التي تغدو قطيعا أعمى، فيما تناوئ بكل ما أوتيت من قوة محاولات الذات الفردية للانفلات من أسر القيم المكرسة)، أو مثلته فردية أخرى، في صورة المرأة المستحيلة التي تطمح الذات عبثا إلى الاتحاد بها وفق تصور صوفي مقموع، وفي الأخير، قبالة العالم الذي تختصر فاجعته صورة مهولة تشيدها نشرات الأخبار في سرديات لا تخييلية، فينضم سؤال المصير الإنساني لكل عنصر مقموع، كالفلسطينيين، إلى سؤال الذات الخاص.
ذات تقدّم، عبر قصيدة النثر بالذات، خطابا يحتفي بالقطيعة، واضعا قدمين فوق "إرث الأسلاف" بغية التأسيس لـ"إرث شخصي"، غاية تأسيسه هذه المرة هي المحو، لا التكريس.
الأسلاف: إرث التقويض والمحو
لم يدرك الطفل انقسام هويته من اغتراب اللغة في جواز سفره الجديد فحسب، بل من الهوة بين الصورة واللغة، ففيما ظلت صورته كما هي، اختلفت الكلمات: "لم أفهم ماذا تعني الجنسية المزدوجة/ ولكني فرحت لرؤية صورتي". إنه يتعرف نفسه انطلاقا من الشكل اللا لغوي، فيما يفقد تلك المعرفة في اللحظة ذاتها، في متاهة العلامة المدونة، بإدراك أن الصورة الواحدة يمكن أن تنتج هويتين نقيضتين (أليس هذا نفسه أحد أدوار الشعر؟).
انطلاقا من الطفل ذاته، ستحضر صورة الأب في كابوس آخر، فبينما سرّبت الأم الى طفلها هويتها المغتربة في اليقظة، يمرر الأب الى طفله هويته الممحوة في المنام: "قرأت في دفاتر أبي/ وصفا لأحد كوابيسه:/ في يوم قائظ الحرارة/ أكلت ثلاث قطع من السمك المقلي/ ثم استسلمت لنوم القيلولة/ في الدقائق الأخيرة من النوم الثقيل/ كانت هناك تقارير غامضة عن الأرقام والمعرفة/ وأسرار الحياة/ عن الفرح والألم/ والمشاريع الطموحة/ وكان يبدو أن ذلك كله يخصني وحدي/ وأنها كل المعلومات التي أمتلكها في الدنيا/ ... وضعت التقارير الغامضة في الحقيبة السوداء/ وفي الثواني الأخيرة/ من الحلم الثقيل/ كانت الحقيبة قد سرقت/ واستيقظت من النوم لأكتشف/ أني تجردت من كل المعلومات الضرورية/ التي تبقيني على قيد الحياة/ كان ذلك هو كابوس أبي،/ وأخاف أن يأتيني أنا أيضا".