مئوية جيل دولوز الذي جاء إلى الفلسفة من خارجها

تعلمنا منه سبل الاشتباك مع الواقع

Axel Rangel Garcia - AlMajalla
Axel Rangel Garcia - AlMajalla

مئوية جيل دولوز الذي جاء إلى الفلسفة من خارجها

حلت قبل يومين (18 يناير/ كانون الثاني) الذكرى المئوية لميلاد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995). ربما ليست فلسفة دولوز من الموضوعات التي لا يتم الرجوع إليها إلا عند حلول مناسبة من المناسبات، أو إحياؤها في ذكرى من الذكريات. ليس دولوز فيلسوف مناسبات. إنه من نوع الفلاسفة الذين لا تفتأ تذكرهم وتستحضرهم، ليس في ما تكتب عنهم، وإنما أثناء تفكيرك الشخصي. وهو في هذا شبيه بمعلمَيه نيتشه وسبينوزا الذي قال عنه برغسون: "لكل فيلسوف فلسفتان، فلسفته هو، وفلسفة سبينوزا"، وهو شبيه في ذلك أيضا بمعظم أصدقائه مثل م. فوكو، وج. دريدا، وف. شاتلي. جل هؤلاء يتعذر عليك الكتابة عنهم، وتحويلهم إلى نص منغلق على ذاته، لكنك لا تفتأ ترجع إليهم وتفكر معهم وبهم، ولا يمكنك، في أحسن الأحوال، إلا أن توظف استراتيجيتهم في التفكير والكتابة. فهم، كما قال دولوز نفسه، لا يشكلون مدرسة، وإنما يشكلون مناخا فكريا وهواء جديدا. إنهم من الفلاسفة الذين يحضرون معك بغيابهم كل لحظة، ويصاحبونك عند التفكير في معظم قضايا العصر.

شبكة الفلسفة

عندما سئل دولوز في "الأبجدية" عما إذا كان فكره يشكل مدرسة، أو على الأقل، ما إذا كان هو يلتئم، مع آخرين، في مدرسة واحدة؟ أجاب أنه، بالكاد، يمكن أن يُعتبر منخرطا في شبكة Réseau. ما يميز الشبكة عن التيار والمذهب والمدرسة، هو ما يفصل الخطوط المتقاطعة عن الدوائر المنغلقة. الشبكة هي تلك "الروح" التي تسود فضاء فكريا يغتني بمساهمات عدد من المفكرين الذين يعملون جميعهم، كما عبر عن ذلك هايدغر، على "قول الشيء نفسه" le même الذي ليس تطابقا l’identique. "الشيء نفسه" لا يعني، في طبيعة الحال إجماعا يوحد مفكرين، وإنما يعني "مدارا" يستقطبهم، و"رهانا فكريا" يشغلهم. لا يعني ذلك أن هؤلاء المفكرين متطابقون في أقوالهم، بل إن اختلافهم يكون خدمة لـ"الشيء نفسه". فنحن هنا أمام "تركيبات جغرافية، وليس إزاء نشأة تاريخية". على هذا النحو فإن الانخراط في الشبكات ليس فحسب رفضا للمذهبية، ولا تمردا ضد الانضواء العقائدي، وإنما هو مقاومة لميتافيزيقا اليمين واليسار، وثيولوجيا الخير والشر.

الشبكة هي تلك "الروح" التي تسود فضاء فكريا يغتني بمساهمات عدد من المفكرين الذين يعملون جميعهم، كما عبّر عن ذلك هايدغر، على "قول الشيء نفسه"

لعل هذه المقاومة هي ما دفعت دولوز وأمثاله إلى أن يتمردوا على الكيفية التي كانت تمارس بها الفلسفة، والتي ظلت مهيمنة حتى خمسينات القرن الماضي حيث كان الفلاسفة، كما كتب هو نفسه: "في فترة تحرير باريس، ظللنا سجناء تاريخ الفلسفة. كنا نكتفي باقتحام فلسفات هيغل وهوسرل وهايدغر. كنا، ككلاب صغيرة، نتهافت وراء نزعة مدرسية سكولائية أدهى من تلك التي عرفتها القرون الوسطى".

Fritz Eschen / ullstein bild via Getty Images
مارتن هايدغر

وقتها كان تاريخ الفلسفة يعمل كسلطة في الفلسفة، بل وحتى في الفكر. "فهو لعب على الدوام دورا قمعيا: كيف يمكنكم أن تفكروا من غير أن تكونوا قرأتم أفلاطون وديكارت وكانط وهايدغر، وكذا كتاب فلان أو فلان عنهم؟ إنها مدرسة جبارة للتخويف تنتج اختصاصيين في الفكر، ولكنها تعمل أيضا على أن يمتثل من يظلون خارجها أقوى امتثال لهذا التخصص الذي يسخرون منه. لقد تشكلت تاريخيا صورة عن الفكر تدعى فلسفة، تحول بين الناس والتفكير.

كان دولوز يرى في الفلسفة ذاتها ما يعيق "الخروج"، فقد شكل تاريخ الفلسفة وكيفية ممارسته عائقا يحول دون التفكير الفلسفي، ومن هنا روح النضال التي اتخذها فكره

إن علاقة الفلسفة بالدولة لا تتأتى فحسب، ومنذ ماضٍ قريب، من كون معظم الفلاسفة كانوا أساتذة عموميين. إن منشأ تلك العلاقة أبعد من ذلك. إنها تكمن في كون الفكر صار يستمد شكله الفلسفي من الدولة كجوهر متقوقع على ذاته. إنه يبتدع دولة روحية، دولة مطلقة، دولة لا توجد في الحلم فحسب، ما دامت تعمل ذهنيا. من هنا الأهمية التي تتخذها في اللغة الفلسفية مفهومات الشمولية والمنهج والسؤال والجواب، والأخذ والرد، والحكم، والاعتراف، والأفكار الصائبة، والحرص على أن نكون دوما جهة الأفكار المحقة. من هنا أيضا الأهمية التي تتخذها موضوعات "جمهورية العقلاء"، والبحث والتقصي (شأن التقصي البوليسي) الذي يقوم به الذهن، ومحكمة العقل، و"الحق" في التفكير، مع ما يستلزمه كل ذلك من وزراء للداخلية وموظفي الفكر الخالص. غمر الفلسفة سعيٌ نحو أن تغدو لغة رسمية لدولة خالصة. وهكذا أخذ الفكر يعمل وفق أهداف دولة حقيقية، وفق دلالات سائدة، وفق متطلبات الوضع القائم".

Marc GANTIER/Gamma-Rapho via Getty Images
جيل دولوز وفيليكس غيتاري في فرنسا

الخروج

كان دولوز يعيب على الفلاسفة التقليديين أنهم "حتى عندما كانوا يتحدثون عن السياسة، وحتى عندما كانوا يتحدثون عن النزهة والهواء النقي، لم يكونوا يصلون الفكر بالخارج. إذ لا يكفي الحديث عن الهواء النقي، ولا الحديث عن الخارج كي نوصل الفكر مع الخارج بكيفية مباشرة ومن غير توسط". هذا "الخروج" هو ما أخذه أساسا عن معلمه نيتشه: "عندما نفتح نصا لنيتشه كيفما اتفق، فتلك واحدة من المرات الأولى التي لن نمر فيها عبر الدواخل، سواء أتعلق الأمر بداخل النفس أم داخل الشعور، داخل الماهية أو داخل المفهوم، أعني كل ما شكّل مبدأ الفلسفة على الدوام. ما يحدد أسلوب الفلسفة التقليدية، هو أن العلاقة مع الخارج فيها لا بد أن تمر عبر وساطة وتذوب عن طريق داخل، أو في داخل من الدواخل. أما نيتشه، فإنه، على العكس من ذلك، يقيم الفكر والكتابة في علاقة مباشرة مع الخارج".

Shutterstock
نصب تذكاري لنيتشه في ناومبورغ، ألمانيا

كان دولوز يرى في الفلسفة ذاتها ما يعيق "الخروج"، فقد شكل تاريخ الفلسفة وكيفية ممارسته عائقا يحول دون التفكير الفلسفي، ومن هنا روح النضال التي اتخذها فكره. وهو نضال لم يكن ليرضخ لجاذبية مركز، أو لسلطة أسماء، ولا ليتقيد بأسوار، أو يقف عند حدود. الأمر الذي جعل صاحبه، حتى في غيابه، حاضرا بيننا، نحن العرب، طيلة العام المنصرم الذي تبينا خلاله أن كثيرا من الأصوات الغربية المتياسرة عجز عن التحرر من مركزيته، فتذكرنا مقالته هو، تلك المقالة التي لا تزال تنضح راهنية، والتي كان كتبها سنة 1988 بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، تحت عنوان "الأحجار"، ونشرت، أولا، باللغة العربية ضمن العدد 29 من "مجلة الكرمل" تحت عنوان: "حيثما يستطيعون رؤيتها"، وفيها يقول: "تدمير القرى، نسف المنازل، طرد السكان، واغتيال الأشخاص: تاريخ مرعب لا يفتأ يعاد على حساب أبرياء جدد. يقال إن الاستخبارات الإسرائيلية تستحوذ على إعجاب العالم كله، ولكن، ما هي هذه الديمقراطية التي تمتزج سياستها بأكثر مما يلزم معه نشاط استخباراتها... كيف ستخرج إسرائيل من هذا، ومن الأراضي المضمومة، والأراضي المحتلة، ومن مستوطنيها ومستوطناتها، ومن حاخاماتها الموتورين؟ احتلال، احتلال، احتلال إلى ما لا نهاية".

Eyad BABA / AFP
طفل ينظر من سياج مقبرة تؤوي عائلات نازحة بسبب الصراع في غزة

المسافة صفر

كان دولوز بيّن في هذه المقالة أن "المسافة صفر"، وهي عبارة أصبحت في ما بعد عنوانا للمقاومة في غزة، هي التي تبعد الفلسطينيين جميعهم عن أرضهم أنى كانوا: "مطرودين من أرضهم، يقيم الفلسطينيون حيثما يستطيعون مواصلة رؤيتها على الأقل، والاحتفاظ بالقدرة على إبصارها في الأحلام. أبدا لن يقدر الإسرائيليون أن يدفعوهم أبعد، أو يقذفوا بهم إلى غياهب الليل، إلى النسيان".

مطرودين من أرضهم، يقيم الفلسطينيون حيثما يستطيعون مواصلة رؤيتها على الأقل، والاحتفاظ بالقدرة على إبصارها في الأحلام

جيل دولوز

إنهم، مهما أبعدوا عن أرضهم وابتعدوا عنها، يظلون دوما على "مسافة صفر" "حيث يستطيعون رؤيتها". الصفر هنا ليس مجرد عدد يقيس مسافة هندسية. إنه حالة نفسية، وموقف أخلاقي، وواقع وجودي. وهو حالة شعورية ولا شعورية، حالة حلم وحالة يقظة. إنه علاقة بالأرض، والتحام بـ"أحجارها". من هنا رمزية "الأحجار" أداة للمقاومة، ومن هنا العنوان الأصلي لمقال دولوز: "إن الأحجار المقذوفة لهي آتية من الداخل، آتية من الشعب الفلسطيني لتأكيد أنه في مكان من العالم، مهما كان صغره، قد انقلب الدين. فما يقذفه الفلسطينيون هو أحجارهم، التي تشكل جزءا من ذواتهم، الأحجار الحية لبلادهم".

font change

مقالات ذات صلة