في كل مقابلة صحافية أو ندوة فكرية أو حديث يطرح السؤال الدائم واللازب: هل ثمة نقد عربي اليوم؟ السؤال متعدد الجوانب، يبدأ بمسألة اقتباس النقد العربي اتجاهات غير عربية وينتهي أو لا ينتهي بفاعليته. نظن أننا يجب البحث أولا عن مكان النقد. أي المكان الذي تمارس فيه كتابته: الجامعات، المعاهد، المختبرات، المجلات المتخصصة، الصحف الطيارة، المجلدات، والكتب...
من هذه الأمكنة، يمكن إلى حد كبير تحديد ملامح هذا النقد.
المسألة الأساسية التي يواجهها النقد عدم تواصل هذه الأمكنة التي يمارس فيها، وتاليا عدم ترابط الظواهر النقدية المختلفة، ومستوياتها وتأثراتها ومفاهيمها ومدارسها. والنتيجة أن لغات نقدية عدة تتعايش معا ولا تتلاقى، ولا تنصهر ولا تغتني من بعضها. وهذا ما يؤدي إلى تنافرها وتناقرها، وتصادمها بدلا من اكتمالها في بعضها.
في الجامعة الخاصة أو الرسمية مثلا، وإذا أخذنا خريطة تقريبية لما يحدث في عالم النقد، نجد أولا غربة تتجلى في صور متعددة، منها: تحصن بعض الجامعات من خلال خضوعها للأنظمة الصارمة السائدة، بكل تابوهاتها التاريخية وغير التاريخية ضد كل ما هو جديد، أو ضد كل ما هو موروث. والحكمة السائدة تكمن في إبعاد ما هو جديد وخطر شعرا وفنا وفكرة ورواية، وفلسفة عن منصات الجامعة، والتمسك بما هو آمن وسليم ومعافى، مما كرس تراثا مخضرما أو قاطعا، ومتراكما. إن هذه الجامعات والمؤسسات وضدها تلقن المعارف والمناهج تلقينا ببغائيا، منقوصا.
وإذا عرفنا أن المناهج والبرامج تخضع لظروف سياسية أو أمنية أو أيديولوجية، فسيتأكد لنا كمْ أن الانتقائية تبدو مناهضة للروح النقدية الحقيقية في حرية الاختيار والتناول. فالنقد الجاهز في هذه الأمكنة، يبدو بلا نقد ولا حرية أي بلا دور... أي عندما تستقيل الجامعات من دورها "التأهيلي" الأكاديمي المفتوح. وانقطاعها هذا يقوقعها في أفكار ماضوية، إذ ماذا تنفع جامعة تنفصل عن الحاضر؟
فالجامعات الأجنبية في أوروبا وفي أميركا، تلعب دورا محركا للاتجاهات والمدارس النقدية والفنية والأدبية. كأنها مختبرات حية لكل الأفكار الحية والاقتراحات الجديدة: تدخلها في صلب مناهجها وفي صلب الممارسة التفكيرية لطلابها. بل يمكن القول إن معظم الاتجاهات النقدية الحديثة- كالبنيوية والألسنية وتفرعاتهما- نمت وتطورت أبحاثها وتطبيقاتها في الجامعات وعلى أيدي مفكرين جامعيين كبار. فالنقد هو شكل من أشكال الإبداع. والإبداع في دوره شكل من أشكال التجدد واكتساب الحساسية النقدية هو اكتساب لحساسية إبداعية وتطويرها.
تبدو أحيانا الاتجاهات الجديدة، مصوبة نقديا على ما هو موروث أو قديم، فتقع في الفخ الذي وقعت فيه الاتجاهات الجديدة، والتي تنفي تاريخها
وهنا الجامعات والمؤسسات، إما أن تشحذ هذه الحساسية، أو لا تكون. فالحساسية النقدية تصبح طريقة تفكير، وطريقة تلق، وطريقة استيعاب وطريقة مواجهة النص. ويعني ذلك، في العمق طريقة اختيار، أي طريقة ممارسة حرية. النقد حرية قبل كل شيء. حرية تكسر كل سقوف مفتعلة فوقها، سواء كانت سلطوية تاريخية أم سلطوية سياسية أو أيديولوجية أو طائفية. والاقتراب من النص، أي نص، هو اقتراب بفضاء مليء بالاحتمالات. هو اكتشاف. والنقد أداة هذا الاكتشاف، لا يمكن أن يقنن سلفا وأبديا، بما هو جاهز ومفروض. الجامعات عندنا، باعتبارها (عموما) امتدادا لواقع المؤسسات السائدة، تحاول أن تمارس دور هذه المؤسسات، كسلطة تحرس التابوهات التاريخية والخرافية والأيديولوجية نفسها، وتحدد مسافة الحرية "الممنوحة" والمفترضة، وتحاصر دور العقل الناقد، المنقب، الهاتك المفكك مكتشف العلاقات الدفينة والداخلية حتى أقصى حدودها "المحرمة" أو غير المحرمة. على هذا الأساس تبدو العلاقة بين المؤسسات والنص، علاقة مشوبة ومترددة وخائفة، حتى عندما تتبنى هذه المؤسسات الجامعية نظريات واتجاهات نقدية وإبداعية جديدة، إنما تتبناها مجزوءة، مفصولة عن مناهجها الكلية، تتبنى شكلياتها، ثم تحاول عزلها عن مناخات التكامل التي ينبغي أن تتحرك فيها. والأخطر أن هذه الجامعات، عندما تسمح بإدخال هذا الجديد إلى "حرمها" المصون، تنزع عنه احتمالاته النقدية نفسها. فيصبح الاتجاه "النقدي" الجديد نافيا النقد، ومتخليا عن أدواته، وعن بديهياته، ثم تتم عملية إلحاقه بمتاع السائد، فيكون أن يتحول النقد المفترض أنه طليعي ومتقدم إلى أداة جديدة تحمي البائد وتروج له، وتشوه الإمكانيات التي يكتنزها هذا النقد. وهذا يعني فصل الأداة عن أهدافها الأساسية، واستبدال دورها، وتعطيلها. فالجامعات عندنا يتعطل فيها النقد المتراكم المحافظ لأنه عادة لا يستجيب لتطور الواقع الثقافي والإبداعي، ويتعطل فيها كذلك النقد الجديد لأنه يجرد من أساسياته.
لكن في المقابل تبدو أحيانا الاتجاهات الجديدة، مصوبة نقديا على ما هو موروث أو قديم، فتقع في الفخ الذي وقعت فيه الاتجاهات الجديدة، والتي تنفي تاريخها، وقد رفع بعض شعراء الحداثة شعارات منها "اجتثاث التراث" و"اغتصاب اللغة" وسواهما، أي جعل ما هو جديد بلا أصل ولا نصل ولا جذور يتيما... فشِعر ينقض الماضي لا يكون "جديدا"، بل إنه "ناقص" أو غريب ومتآكل.
إزاء هذا الواقع واجهت الصحف والمجلات الأدبية والفكرية والفنية مهمة عسيرة. فالظواهر الجديدة من ناحية أغلقت عنها المؤسسات الأكاديمية المحافظة، وكذلك واجه هؤلاء المرتبطون بالموروث أزمة كبيرة. فالاتجاهات النقدية الوافدة منها وغير الوافدة كالبنيوية والألسنية، واللغوية، وسواها، بمدارسها المتعددة أدت لدى تبنيها غربة، ككل نظرية تفرض على الأدب والفلسفة والفكر. فهذه الظواهر (ككل ظاهرة جديدة جاهزة) أصابت النقدين الأكاديمي والحر، في مشكلة كأنما بين أيديولوجيا طاغية، وآراء أخرى مفتوحة. فازداد الالتباس، سواء في الجامعات أو في المجلات الأدبية والأقسام الثقافية في الصحف، فالمصطلحات النقدية زرعت في غير أماكنها وأزمت الأمور بدلا من حلها، من ناحية أخرى فإن هذه المجلات الثقافية، وهي الطاغية باتت تُفقد النص الإبداعي أو سواه من التوغل في ما وراء النص أو في تشعباته وغموضه وخلفياته، وحتى تعابيره.
المطلوب قبل كل شيء فتح القنوات النقدية على بعضها (واعتبارها وسائل لا أهدافا)، أو تحريرها من مختلف الرواسب والتابوهات والسقوف
لكن إلى هذا تحاول هذه المنشورات من خلال هذه الانفصالات والانقطاعات أن تتقدم كأدوات تغييرية، أو جديدة، لكنها تقع في هذا الدوار العميق أي التناقض بين عالمين: الأكاديمي والمتحرر، في تشوش، والأهم تبدو أنها ورثت اللعبة القديمة، خصوصا عندما تنادي أنها باتت بديلا من الاتجاهات النقدية التي سبقتها، أي بديلا من الأماكن الأكاديمية... فيتظاهر أثرها، ويتحول أداة ترويج سطحي لفظي غامض أو غير سوي، أي إلى مجرد وسيلة إعلامية لا تميز بين لغة سياسية أو ثقافية، من دون أن ننسى انزياحاتها هذه بسبب ارتباطاتها بالكتاب والمؤسسات أو دور النشر. وهنا تنعدم كل منهجية وجدية وقراءة موضوعية.
ومن هذا المنطلق، نقول إن بعض هذه الأدوات الإعلامية شوهت النصوص، وكذلك المرجعيات النقدية الجديدة والقديمة... خصوصا عندما تتخذ مواقف جاهزة من هذا النص الفكري والأدبي. هنا تنتفي كل مقاربة جدية أو صحيحة؛ فتصبح كل هذه الأمكنة النقدية، مادة مشوهة، وفوضوية، وخطيرة.
ولا بد من التنويه ببعض النقاد العرب الذين جمعوا بين الموروث النقدي القديم والجديد وانطلقوا من معطيات النصوص، واستخدموا هذه الأدوات، لا بدائل من النص، بل لتفكيكه والتوغل في أعماقه، وأسراره، أي ما بعد النص، وما في مواده، وتشاكيله، ومعطياته.
المطلوب قبل كل شيء فتح القنوات النقدية على بعضها (واعتبارها وسائل لا أهدافا)، أو تحريرها من مختلف الرواسب والتابوهات والسقوف واعتبار أن النقد أيا كان مستواه هو فعل حرية، واحتفال بالعقل، والذائقة ونشاط تغييري متصل بمجمل الظواهر الأخرى، وهو أي النقد مهما بدا تجريبيا أو تجريديا فإنه في الأساس فعل تاريخي وفردي واجتماعي، يطرح أول ما يطرح مسألة تحرر الإنسان من كل ما هو جاهز وسابق لعملية النقد؛ وأن النقد في جوهره لا تحده حدود مفتعلة، ولا تحاصره عوامل غير محسوبة، أو يقينيات ثابتة، أو قسرية أو انفعالية، إنه سلاح العقل والحرية يخضع النصوص برمتها إلى سلطته وأدواته وتنوعاته... وفي ذلك يكون كشفا ضد الإبداع، وفي هذا فقط يخترق النص إلى أقصى أنواعه... وتعددياته.