الكويت وسوريا... تاريخ واستثمارات وشجون تنتظر حكم القانون

خسارة نصف قرن... وفسحة أمل لتعويض ما ضاع خلال حكم الأسدين

غيتي
غيتي
رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني يستقبلان وفدا خليجيا برئاسة وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيى والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي في قصر الشعب في دمشق، 30 ديسمبر 2024

الكويت وسوريا... تاريخ واستثمارات وشجون تنتظر حكم القانون

أثار سقوط نظام الحكم الديكتاتوري المستبد في سوريا الشجون حول العلاقات بين سوريا والكويت. معلوم أن الكويتيين يتمتعون بعلاقات مميزة مع سوريا ومنذ زمن طويل. اعتاد الكثيرون على زيارة سوريا في الصيف منذ خمسينات القرن الماضي ومنهم من اشترى شققاً ومنازل في دمشق وبلودان والزبداني، والبعض اختار حلب، وآخرون ذهبوا أبعد من ذلك واقتنوا مساكن في اللاذقية وكسب.

ما دفعني الى كتابة هذا المقال هي الذاكرة التي أعادتني إلى ما قبل خمسين عاما. في بداية 1975 انتقلت من عملي في الإدارة المركزية للإحصاء في الكويت التابعة لمجلس التخطيط، آنذاك، إلى العمل في المجموعة الاستثمارية العقارية الكويتية التي تأسست بمعرفة الراحل عبد الرحمن سالم العتيقي، وزير المالية آنذاك، بعد الصدمة النفطية الأولى، لإدارة استثمارات عقارية في عدد من الدول العربية نيابة عن الحكومة الكويتية. تأسست المجموعة بالشراكة بين وزارة المالية، حيث لم تكن الهيئة العامة للاستثمار قد تأسست بعد، وعدد من الشركات العقارية الكويتية. ترأس مجلس إدارتها الراحل أحمد علي الدعيج الذي شغل منصب المدير العام لمجلس التخطيط قبل ذلك. عرض عليَّ الدعيج وعلى زملاء آخرين الانتقال للعمل معه في المجموعة. وهكذا بدأت الزيارات إلى مصر وسوريا واليمن وتونس والمغرب والأردن بحثا عن فرص الاستثمار العقاري.

كانت سوريا بلدا معتمدا على آليات السوق والمبادرات الخاصة وتأسس فيها العديد من الشركات العائلية والخاصة قبل الوحدة المصرية السورية في عام 1958 وقبل عمليات التأميم ومصادرة الملكية الخاصة

انطلقنا إلى دمشق في عام 1975 بوفد برئاسة الدعيج، ومدير المجموعة في ذلك الوقت الراحل عبد اللطيف خالد الحمد، ودخلنا في رحلة مفاوضات مع المسؤولين الاقتصاديين في الحكومة السورية. كان الهدف في سوريا أن تقوم المجموعة بالنيابة عن الحكومة الكويتية باستثمار 200 مليون دولار في مشاريع عقارية وسياحية بشرط قيام الإدارة السورية بتحديد أفضل المواقع في دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من مدن سورية، يمكن أن تمثل حصصا عينية للجانب السوري في هذه المشاريع.

استثمارات وطموحات كويتية قابلتها عراقيل سورية

كذلك كان الهدف أن تقوم المجموعة ببناء مساكن شعبية لصالح المواطنين السوريين في المناطق التي يحددها الجانب السوري. لم تسر المفاوضات على ما يرام وتعثرت نتيجة للمطالب غير الواقعية التي تقدم بها الجانب السوري. لم تتعطل أعمال المجموعة في سوريا، وإن لم تكن على مستوى الطموحات التي قدم لأجلها الكويتيون إلى سوريا. لكن على الرغم من ذلك، أقيمت بعض المشاريع في سوريا بأموال كويتية. فقد سبق المجموعة الاستثمارية العقارية الكويتية عدد من رجال الأعمال الذين تحمسوا للاستثمار في سوريا بدوافع نزعاتهم القومية ورغبتهم بتوظيف الأموال في الدول العربية. كان من أبرز هؤلاء المستثمرين الراحل عبد الرزاق زيد الخالد الذي أقدم على إقامة مبنى كبير في وسط العاصمة دمشق. لم ينل الخالد نتائج استثماره العقاري في سوريا حيث دخل في نزاعات مع السلطات هناك. وتم الاستيلاء على العقار الذي تحول في ثمانينات القرن الماضي إلى فندق "الشام" مملوكا من شركة سورية.

وظف كثير من الكويتيين أموالا في مشاريع صغيرة في سوريا لكنهم لم يجنوا ثمارا. تأسست شركات عدة للاستثمار منها الشركة الكويتية السورية القابضة في عام 2002 وهي استهدفت الاستثمار في مختلف القطاعات وبأدوات استثمارية مختلفة، ومنها تملك الأسهم في الشركات السورية أو القيام باستثمارات مباشرة. وقد بلغ رأس مال الشركة 30 مليون دينار كويتي، أو نحو 100 مليون دولار، وأدرجت في سوق الكويت للأوراق المالية. واجهت هذه الشركة مشاكل مالية وهيكلية خلال السنوات الأخيرة، مما عرضها لوقف أعمالها بعد نشوب النزاع الأهلي في سوريا في عام 2011.

أ.ف.ب
صور جوية لمنازل تم بناؤها للنازحين بالقرب من بلدة قباسين السورية الواقعة شمال شرق مدينة الباب على بعد نحو 30 كيلومترا من حلب في 28 مايو 2024.

ومما لا شك فيه، أن العديد من الأنشطة الاقتصادية في سوريا تعرضت للانهيار أو التراجع الشديد خلال هذه الفترة العصيبة التي مرت بها البلاد، وشكلت الأوضاع السياسية الصعبة عبئا على أعمال مختلف القطاعات والشركات القائمة، سواء كانت مملوكة من سوريين أو غيرهم.

ما هي آفاق العلاقات الكويتية السورية المستقبلية؟

لكن ما هي آفاق العلاقات الاقتصادية بين الكويت وسوريا خلال السنوات المقبلة؟ لا بد من التعرف الى معالم الاقتصاد السوري والفرص الاستثمارية الملائمة التي يمكن المستثمرين الكويتيين وغيرهم ولوجها والانتفاع بها في مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد. أشار تقرير للبنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في سوريا كان 67,5 مليار دولار في عام 2011 أي في العام الذي بدأت فيه حركة التمرد على النظام، لكن هذا الناتج انكمش إلى 8,9 مليارات دولار فقط في عام 2023.

تراجعت الليرة السورية حيث كان سعر الصرف 54,5 ليرة للدولار وحاليا يعادل الدولار 13,000 ليرة، ومن هنا يمكن احتساب مدى تدهور قيمة الاستثمارات الأجنبية في سوريا التي وظفت قبل عام 2011.

في مقابل ذلك، هناك ميزات في سوريا قد لا تكون متوافرة في دول عربية أو نامية أخرى. لا يزيد عدد سكان سوريا حاليا على 23 مليون نسمة، ويتميز السوريون بالمبادرة في الأعمال والمهنية، وهناك طبقة رجال الأعمال الذين امتهنوا العديد من الأنشطة وتوارثوها منذ زمن بعيد.

حكم القانون وعدالة القضاء أولا

كانت سوريا بلدا معتمدا على آليات السوق والمبادرات الخاصة وتأسس فيها العديد من الشركات العائلية والخاصة قبل الوحدة المصرية السورية في عام 1958 وقبل عمليات التأميم ومصادرة الملكية الخاصة. كان من أهــم الشركات "الشركة الخماسية"، التي أسستها عام 1945 خمس عائلات في دمشق. كان الاسم الرسمي للشركة "الشركة التجارية الصناعية المتحدة المساهمة المقفلة" في دمشق، "الخماسية" للغزل والنسيج والصباغة والطباعة والتجهيز، وقد حدد رأس مال الشركة بـ10 ملايين ليرة سورية. بعد الوحدة المصرية السورية تم تأميم الشركة في عام 1961 أسوة بالشركات المماثلة في مصر والتي عملت أيضا في صناعة النسيج.

تعرفت الكويت الى السوريين الذين عملوا في الكويت وكثيرون منهم امتهنوا التجارة والأعمال الحرة بدلا من التوظف في الدوائر الحكومية. شارك الكويتيون عددا من رجال الأعمال السوريين في أنشطة داخل الكويت وانتعشت أعمالهم بفضل المهنية وحسن الاتقان لدى هؤلاء السوريين. 

الكويتيون يتطلعون إلى نظام قانوني وقضائي عادل في سوريا لحماية استثماراتهم وممتلكاتهم الخاصة وإعادة الحقوق التي سلبت خلال السنوات المنصرمة

لا شك أن سوريا الآن في حاجة إلى إعادة إعمار، وهناك العديد من المؤسسات الصناعية والسياحية والعقارية والخدمية التي تتطلب الترميم وتوظيف رؤوس أموال مناسبة لإعادة تشغيلها وإحياء أعمالها وتمكينها من توفير فرص عمل للمواطنين السوريين. وفي تقديري أن الكويت، إذا أرادت أن تدعم الاقتصاد السوري، يجب أن تدعم المبادرات الخاصة وتعزز الشراكة بين القطاع الخاص الكويتي والقطاع الخاص السوري بعيدا من البيروقراطية الحكومية ومعوقاتها. في طبيعة الحال، فإن إمكان توظيف الأموال في سوريا يقترن باستقرار الأوضاع السياسية والأمنية وتوفر قوانين محفزة للاستثمار وتحفظ حقوق الملكية وتؤدي إلى استقرار سعر صرف العملة الوطنية. غني عن البيان أن الكويتيين يتطلعون إلى نظام قانوني وقضائي عادل في سوريا لحماية استثماراتهم وممتلكاتهم الخاصة وإعادة الحقوق التي سلبت خلال السنوات المنصرمة. 

هناك علاقات اجتماعية مميزة بين السوريين والكويتيين تأصلت خلال القرن الماضي، وتعززت المصاهرة بين العائلات في البلدين. كذلك أمضى كثير من الكويتيين سنوات الدراسة في سوريا حيث التحق الطلبة بمعهد المعلمين منذ بداية ستينات القرن الماضي.

يضاف إلى ذلك أن السوريين ساهموا في النهضة التعليمية حيث عمل المدرسون في تعليم أبناء الكويت في مدارس التعليم الأساسي منذ خمسينات القرن الماضي وساهم عدد آخر في تعليم طلبة جامعة الكويت منذ افتتاحها في عام 1966. لا بد من البناء على هذه العلاقات لتطوير علاقات أكثر إيجابية تحفز على الاستثمار المباشر وخلق الشراكات المفيدة في القطاعات الحيوية التي تتميز بالجودة في الاقتصاد السوري. وقد تشهد السنوات المقبلة علاقات اقتصادية مفيدة بين البلدين.

font change

مقالات ذات صلة