مع وقف إطلاق النار في غزة... إسرائيل تفتح "صندوق شرودنغر"

لن تنزع "حماس" سلاحها، ولن تتخلى عن غزة

أ ف ب
أ ف ب
اطفال في مخيم النصيرات في وسط قطاع غزة قبل قليل من سريان اتفاق وقف اطلاق النار في 19 يناير

مع وقف إطلاق النار في غزة... إسرائيل تفتح "صندوق شرودنغر"

خلال خمسة عشر شهرا ومنذ بداية الحرب، شعر الإسرائيليون بعدم اليقين بشأن عدد من القضايا الحرجة: هل سيتمكن الرهائن الذين كانوا يأملون بعودتهم إلى إسرائيل من الرجوع في وقت ما، وهل سيرجعون أحياء أم أمواتا، وهل حققت إسرائيل "النصر الكامل" الذي وعد به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهل ستنجو حكومته بعد نهاية الحرب– وهل كان بإمكانه في الواقع الالتزام بصفقة تنطوي على إنهاء دائم للحرب؟

خلال خمسة عشر شهرا، بدت كل هذه الأسئلة الجوهرية أشبه بقطة شرودنغر، تلك القطة المحيرة التي لا يمكن لأحد أن يحدد ما إذا كانت حية أم ميتة. إن وقف إطلاق النار في غزة يعني أن الإسرائيليين قادرون أخيرا على فتح الصندوق، ويبدو مفهوما أنهم يرزحون تحت وطأة الرعب والتفاؤل في الوقت نفسه مما ينتظرهم.

أ ف ب
نازحون فلسطينيون يعبرون عن ابتهاجهم بعودتهم الى رفح جنوب قطاع غزة بعد ساعات من سريان وقف اطلاق النار في 19 يناير

ويدور السؤال الأقسى حول وضع الرهائن. فخلال خمسة عشر شهرا من المفاوضات، رفضت "حماس" باستمرار تقديم معلومات متجددة عن حالة الرهائن وما إذا كانوا على قيد الحياة أم لا. وتشير التقديرات في إسرائيل إلى أن معظم الرهائن الـ33 الذين سوف يُطلق سراحهم في المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار ما زالوا على قيد الحياةـ ولكن هذا يعني أن العشرات منهم سيعودون كي يُدفنوا وحسب. ومن بين المئة رهينة، أكدت إسرائيل أن عددا كبيرا منهم قد لقي حتفه، وأن آخرين يُعتبرون في عداد الأموات، ومن بين الرهائن المتبقين البالغ عددهم 65 رهينة الذين سيفرج عنهم في المراحل التالية، هناك افتراض قوي بأن معظمهم في عداد الأموات. ما يعني أن إطلاق سراح الرهائن سوف يكون لحظة مؤلمة بالنسبة لأسر الرهائن، الذين ظلوا عالقين في انتظار عودة أحبائهم، وهم يصلون كي يتجاوزوا هذه المحنة ويخرجوا منها أحياء.

إيقاف الحرب أم استمرارها؟

السؤال الحاسم الثاني الذي أثار حفيظة القيادة السياسية الإسرائيلية في الأيام التي سبقت توقيع الاتفاق، هو ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصبح دائما أم لا. أصر حلفاء نتنياهو من أقصى اليمين، كوزير المالية بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، على أن الحرب لا ينبغي أن تتوقف. وطالب سموتريتش نتنياهو بتقديم ضمانات بأن إسرائيل ستستأنف القتال بعد المرحلة الأولى، بينما أصدر بن غفير بيانا عاما أشار فيه إلى أنه سيترك الائتلاف الذي يقوده نتنياهو إذا سُمح للاتفاق أن يقود إلى وقف دائم لإطلاق النار. وكان نتنياهو نفسه قد زعم أنه لن يوافق على صفقة تضع نهاية للحرب، وسيستمر في القتال حتى تحقيق "النصر الكامل".

من المرجح أن تدفع إسرائيل بمطالب من العيار الثقيل كجزء من تلك المفاوضات، كأن تطالب مثلا بنزع سلاح "حماس" بالكامل ونفي البقية الباقية من كبار قادتها

وهذا أمر بالغ الأهمية ويشير إلى احتمال انهيار الاتفاق بعد المرحلة الأولى. فوفقا لمعايير الصفقة، تنقسم الاتفاقية إلى ثلاث مراحل مميزة: خلال المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، ستتفاوض إسرائيل و"حماس" على معايير اتفاق "الهدوء المستدام" (وقف دائم لإطلاق النار). وسوف يُنفذ هذا الاتفاق خلال المرحلة الثانية. ونتيجة لهذا فالانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية سيكون حاسما، وكذلك ستكون المفاوضات حول معايير وقف إطلاق النار الدائم.

رويترز
دبابة اسرائيلية قرب الحدود بين اسرائيل وقطاع غزة قبل دخول وقف اطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير

ومن المرجح أن تدفع إسرائيل بمطالب من العيار الثقيل كجزء من تلك المفاوضات، كأن تطالب مثلا بنزع سلاح "حماس" بالكامل ونفي البقية الباقية من كبار قادتها. وإذا وافقت "حماس"، فسوف يكون نتنياهو قادرا على الادعاء بأنه أجبر الحركة على "الاستسلام" بشكل قاطع وأنه أنجز بالفعل "نصرا كاملا". وهذا بلا شك أمر بعيد كل البعد. فمن غير المرجح أن ترضخ "حماس" وتستسلم للضغط وتوافق على نزع سلاحها بعد أشهر من القتال. قد تكون الحركة على استعداد للتخلي عن السيطرة المدنية على قطاع غزة: فحتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ألمحت "حماس" إلى أنها على استعداد للسماح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزة، وتولي مسؤولية توفير الاحتياجات الأساسية لملايين الفلسطينيين. اليوم وبعد أن أصبحت المهمة أكثر صعوبة، نظرا لحجم الدمار الذي خلفته الحرب، فمن المرجح أن تسمح "حماس" للآخرين بالتعامل مع العواقب المدنية. ولكن الهدف الرئيس سيكون عودة "حماس" إلى أصلها باعتبارها "حركة تمرد". وبعبارة أخرى، لن تنزع "حماس" سلاحها، ولن تتخلى عن غزة.

المشكلة بالنسبة لكل من سموتريتش وبن غفير هي أنهما أصبحا معتادين على مناصبهما المريحة كوزراء

وهذا يعني أننا أمام خيارين. الأول هو مرحلة طويلة من المفاوضات يستمر خلالها وقف إطلاق النار. ووفقا للرئيس بايدن، ستستمر المرحلة الأولى طالما استمرت المفاوضات. أي إن هذه المرحلة، وما يصاحبها من وقف للأعمال العدائية، يمكن أن تستمر إلى ما بعد الـ42 يوما المتوقعة المحددة في الاتفاق، وهو بالتحديد الوضع الذي سعت إسرائيل إلى تجنبه. حيث تخشى إسرائيل أن تستخدم "حماس" هذه الإمكانية لمواصلة المماطلة، وتجنب تقديم أي نوع من التنازلات. ونتيجة لذلك، من المحتمل جدا أن تكون حكومة نتنياهو قد سعت إلى الحصول على ضمانات من إدارة بايدن بأنها ستكون قادرة على استئناف الحرب إذا أبدت "حماس" ميلا للمماطلة. وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد زعمت أن نتنياهو حصل على مثل هذه الضمانات من بايدن، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو ما إذا كانت إدارة ترمب ستستمر في تقديم مثل هذه الضمانات؟ فبعد كل شيء، يُعزى إلى ترمب الفضل في إجبار نتنياهو على الموافقة على تقديم بعض التنازلات. وكما هو معلوم فالرئيس الأميركي القادم يريد أن يبعد قضية غزة عن جدول أعماله، وقد لا يميل إلى السماح لإسرائيل باستئناف الحرب، حتى لو كان يُنظَر إلى "حماس" على أنها الجهة التي تعيق التوصل إلى اتفاق (وحتى- ولو بقدر أقل بكثير- إذا كانت إسرائيل هي الطرف الذي يتحمل اللوم على عدم إحراز تقدم في المحادثات). ومرة ​​أخرى، سيكون موقف ترمب تجاه نتنياهو أساسيا لمستقبل الصراع في غزة.

هل الحكومة الإسرائيلية حية أم ميتة؟

إن "الصندوق" الآخر الذي ينبغي فتحه هو صندوق الحكومة في إسرائيل. والتحالف بين نتنياهو واليمين المتطرف، الذي يُروَّج له باعتباره الركيزة وراء حكومة "يمينية كاملة" (حكومة لا تضم ​​أي شخصيات يسارية أو وسطية)، لم يكن سهلا. فقد لعبت الحرب دور الغراء الذي جمع بين الأحزاب التي تختلف خلافات واسعة حول قضايا رئيسة أخرى، بما فيها التجنيد العسكري المحتمل لليهود الأرثوذكس المتطرفين. يعرف بن غفير وسموتريتش حق المعرفة أن أنصارهما يعارضون استمرارية الاتفاقية، وكان بن غفير نفسه قد تفاخر بأنه السبب في فشل المفاوضات السابقة، في تصريح صدم معظم الإسرائيليين الذين طال بهم الزمن وهم يأملون في رؤية الرهائن يخرجون من غزة.

ولكن المشكلة بالنسبة لكل من سموتريتش وبن غفير هي أنهما أصبحا معتادين على مناصبهما المريحة كوزراء. حيث إن بن غفير يستمتع بقمع المعارضة داخل الشرطة الإسرائيلية وتشكيلها وفق رؤيته. وهو أمر مثير للسخرية بالنسبة لشخص قضى معظم شبابه في محاولة تفادي الشرطة. كما يعيش سموتريتش حياة مترفة كوزير للمالية، وهي وزارة رئيسة جاءت مع منصب آخر داخل وزارة الدفاع يمنح سموتريتش السيطرة المدنية على الضفة الغربية فعليا.

رغم الصخب المصاحب لتعليقات سموتريتش وبن غفير وقرارهما بالتصويت ضد الاتفاق، فإن أيا منهما لم يستقل حتى الآن

ويرى معتنق الأيديولوجيا اليمينية المتطرفة أن التحدي الحقيقي يكمن في الضفة الغربية: فهو يريد استغلال منصبه لتوسيع الاستيطان، وضم جزء من الضفة الغربية، والتأكد من عدم إمكانية قيام دولة فلسطينية على الإطلاق. وسوف يُنظر إلى ترك الوزارة في الوقت الذي يتولى فيه ترمب السلطة على أنه فرصة مهدرة. رحب سموتريتش بالعام الأول لفترة رئاسة ترمب باعتباره "عام السيادة على يهودا والسامرة" وهو الاسم التوراتي للضفة الغربية. وينوي استغلال منصبه للضغط على نتنياهو للموافقة على ضم الضفة الغربية، مثلما سعى بادئ الأمر خلال ولاية ترمب الأولى، ولكن حال توقيع اتفاقيات إبراهام دون تحقيق مساعيه.

وفي الوقت نفسه، يدرك كل من سموتريتش وبن غفير أنهما إذا تركا الحكومة، فقد لا تتاح لهما فرصة مواتية لسنوات. وفي حال قررا الاستقالة احتجاجا على وقف إطلاق النار، فمن المحتمل أن يفضي هذا إلى إجراء انتخابات جديدة. وسوف يواجه اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل معركة عسيرة، حيث ما زال الشارع الإسرائيلي بغالبيته يلقي باللوم عليهم بسبب فشل السابع من أكتوبر/تشرين الأول وسوء سلوكهم الملحوظ أثناء الحرب. وعلى الرغم من أن نتنياهو تمكن من التعافي بعد الوصول إلى أدنى مستوياته في حياته المهنية، فمن المتوقع أن يخسر الميدان أمام أحزاب أخرى. ويواجه سموتريتش نفسه احتمالا أكثر قتامة: حيث من المتوقع أن يخسر حزبه الأرض لدرجة أنه قد لا يحظى بأي تمثيل في الكنيست المقبل (البرلمان الإسرائيلي).

 أ ف ب
الرئيس الاميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو اثناء الاعلان عن خطة ترمب للسلام في الشرق الاوسط في 20 يناير 2020

ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من الصخب المصاحب لتعليقات سموتريتش وبن غفير وقرارهما بالتصويت ضد الاتفاق، فإن أيا منهما لم يستقل بعد. ويحاول بن غفير إقناع سموتريتش بضرورة القيام بذلك، خاصة إذا تحول الاتفاق بالفعل إلى وقف دائم لإطلاق النار. ولكن ثمة احتمال يلوح في الأفق وهو أن يظلا في منصبيهما، ويشكلا مجموعة بأصوات مرتفعة من المعارضين للاتفاق داخل الحكومة، مع تجنب انهيار حكومة نتنياهو. وقد تأتي لحظة الحقيقة مرة أخرى مع انتقال الاتفاق من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية.

النصر الكامل؟

وأما صندوق شرودنغر الأخير الذي لا يقل أهمية عن أيّ مما ذكر فهو هزيمة "حماس" المزعومة المتوقَع فتحه في الأسابيع والأشهر المقبلة. فعلى مدى أشهر طويلة، كان نتنياهو يروج بأنه لن يتراجع حتى يحقق "النصر الكامل". ولم يكن الشعار مقنعا لعدة أسباب، بعضها يتعلق بانعدام ثقة الشارع في نتنياهو، غير أن بعضها الآخر يتعلق بوضع جيش الدفاع الإسرائيلي العالق في حلقة مفرغة من الغارات في غزة. فمنذ نهاية هجوم رفح في منتصف عام 2024 تقريبا، يواصل جيش الدفاع الإسرائيلي دخوله وخروجه في أجزاء مختلفة من شمال غزة لطرد "بقايا حماس". وهذه اللعبة من الكر والفر لا تبعث على الثقة في ادعاء نتنياهو بأن "حماس" ستهزم، فيما لو استمرت إسرائيل في الحرب. تشير التقارير التي تستشهد بمعلومات استخباراتية أميركية إلى أن "حماس" تمكنت أيضا من استبدال مقاتليها الذين سقطوا عن طريق الاستمرار في تجنيد سكان غزة.

ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن "حماس" تكبدت هزيمة عسكرية فادحة. فلم تعد الحركة قائمة كقوة عسكرية متماسكة، وهي تنفذ هجمات خاطفة. وقد تراجعت وتيرة هذه الهجمات منذ العام الماضي. وقد يعزز المجندون الجدد أعداد "حماس"، ولكنهم لن يعوضوا خسارة المقاتلين ذوي الخبرة. لكن ولكي تفوز "حماس"، يكفيها أن تبقي جذوة الحياة متقدة بين صفوفها، في حين تحتاج إسرائيل إلى اجتثاث الحركة من جذورها كي تضمن تحقيق نصر حقيقي ودائم. وبالتالي فإن هذا "النصر الكامل" الذي وعد به نتنياهو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا هُمشت "حماس" كحركة، وليس بمجرد هزيمتها كقوة عسكرية. وللوصول إلى هذه الغاية، يتعين على إسرائيل أن تنفذ خطة من شأنها أن تقدم بديلا للفلسطينيين في غزة، وأن تحقق الاستقرار في القطاع.

إن الكثير من سكان غزة يشعرون بغضب عارم تجاه إسرائيل، إنما وفي الوقت نفسه هم غاضبون أيضا من "حماس" بسبب الكارثة التي لحقت بهم. لكن ومع انعدام البديل، سوف يلجأ بعضهم ببساطة إلى الانتقام، الأمر الذي لن يقدمه إلا "حماس".

إن هزيمة "حماس" تستوجب من إسرائيل أن تسمح بتشكيل حكومة فلسطينية مستقرة في غزة، حكومة تعتمد على البديل الفلسطيني الوحيد لـ"حماس"، وهو السلطة الفلسطينية. ليس هذا وحسب، وإنما يتعين عليها أيضا أن تنخرط بجدية أكبر في محادثات السلام، فالسلام، بما يعنيه من آفاق للاستقرار المستدام والتعايش السلمي (بدلا من "الهدوء المستدام") هو البديل الوحيد لما تقترحه "حماس"، معركة بلا نهاية. وهنا يكمن صندوق شرودنغر الأخير. وسوف تكون الأشهر والسنوات المقبلة ضرورية لمعرفة ما إذا كان احتمال السلام، الذي ظل في غيبوبة طويلة، مجرد واحد من بين آلاف الضحايا الذين سقطوا في الحرب، أو ما إذا كان قد نجح بطريقة أو بأخرى في الخروج حيا رغم كل جراحه.

font change

مقالات ذات صلة