في تفسير التغيير المفاجئ بسوريا ولبنان

التغيير السوري واللبناني توازى مع تعمق حالة الاستعصاء الفلسطيني

في تفسير التغيير المفاجئ بسوريا ولبنان

ما حصل في سوريا ولبنان هو بمثابة انقلاب تاريخي كبير ومفاجئ، فهو لا يقف عند حدود التغيير السياسي المتمثل في إسقاط النظام في البلدين المذكورين، فقط، على أهمية ذلك، خاصة بالنسبة للسوريين الذين حكمهم وتحكّم بهم، جملة وتفصيلا، نظام الأسد المافيوي (الأب والابن)، لـ55 عاما، وإنما لأنه غيّر الخريطة السياسية للشرق الأوسط، أيضا، بشكل جذري، إذ إنه أنهى أو جرف دفعة واحدة نفوذ النظام الإيراني في المشرق العربي، ما يشمل بمفاعيله على الأرجح العراق عاجلا أم آجلا.

ثمة مسائل عدة تميّز عملية التغيير الهائلة التي حصلت في سوريا، والتي كانت مقدمة لازمة للتغيير في لبنان، إذ أنجزت بطريقة سلسة وناعمة وهادئة، على خلاف معظم التجارب التاريخية، وضمنها تجربة "الربيع العربي"، بنأيها عن العنف، على أية خلفية كانت، طائفية أو هوياتية أو ثأرية، والذي لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع حدوثه، بالنظر لثقل المرحلة الماضية، مع الظلم والسحق والتهميش الرهيب، الذي اتسم به نظام الاستبداد "الأسدي" الشامل.

طبعا، لم يسلم الأمر من مشاعر تشفٍ، وارتكابات، مؤسفة ومحزنة ومؤلمة، لكن تلك الحالات لم تعبر، من الناحية العملية، وفي الحياة المجتمعية، عن روح جمعية عند السوريين، ولا عن توجهات الجهة التي استلمت السلطة. وبالطبع، فإن تلك المشاعر والارتكابات لم تغط الشعور بالارتياح لدى معظم السوريين- كما اللبنانيين- بالخلاص من النظام السابق، وإن شاب ذلك بعض القلق الناجم عن عدم التيقن مما سيأتي؛ بالقياس للتجارب المريرة السابقة.

من جهة أخرى، وللتذكير، فإن التغيير الحاصل في سوريا، بالسهولة التي تم بها، والتي بينت العطب المعشعش بالنظام، تؤكد أن ذلك كان يمكن أن يحصل قبل عشرة أعوام، أي منذ اندلاع الثورة السورية (2011)، الأمر الذي لو تم لجنّب السوريين الأثمان الباهظة والمؤلمة التي دفعوها، وضمنها مشاعر الخوف والكراهية إزاء الآخر التي أشعلها النظام.

يستنتج من ذلك أن نظام الأسد لم يسقط قبل ذلك بفضل سببين، أولهما، التدخل العسكري الخارجي لصالحه، من قبل النظام الإيراني وميليشياته الطائفية المسلحة على الأرض، وفي مقدمتها "حزب الله" اللبناني، ومن قبل الجيش الروسي عبر سلاح الجو بقدراته التدميرية، أي إن النظامين الإيراني والروسي كانا شريكي النظام في التوحش، من دون أي تحفظ، ما تسبب في تشريد ملايين السوريين، داخل بلدهم وخارجه، وتدمير عمرانه وبناه التحتية.

إن الإدارات الأميركية، ومعها إسرائيل، كانت تراهن على الاستثمار في سياسات إيران التدخلية في البلدان العربية، وبخاصة في المشرق العربي واليمن، وهي السياسات التي أدت إلى تقويض بنى الدولة والمجتمع

أما السبب الثاني، فيتمثل في ممانعة الإدارات الأميركية السماح بذلك، أو عدم تمكين السوريين من ذلك، لارتهانها، ومراهنتها، سياسيا على مسألتين، الأولى، ارتباط السياسة الأميركية، في أغلب الأحوال، بما تريده إسرائيل في الشرق الأوسط، إذ هي التي كبحت أي توجه عند الإدارة الأميركية باتجاه التخلص من النظام، باعتبار أن النظام الذي تعرفه، وتثق في سياساته، أفضل من النظام الذي لا تعرفه، بواقع أنه لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل من الجبهة السورية، منذ نصف قرن، عدا عن أن وجود نظام من طبيعة نظام الأسد تجعله في مشكلة دائمة مع شعبه، وهذا وضع مريح لإسرائيل. والثانية، أن الإدارات الأميركية، ومعها إسرائيل، كانت تراهن، منذ حرب الخليج الثانية (2003) على الاستثمار في سياسات إيران التدخلية في البلدان العربية، وبخاصة في المشرق العربي واليمن، وهي السياسات التي أدت إلى تقويض بنى الدولة والمجتمع، على خلفية طائفية ومذهبية، مع دعم ميليشيات مسلحة، وكل ذلك مع توظيف القضية الفلسطينية لإضفاء شرعية على تلك السياسات، ما أفاد إسرائيل وأضر بقضية فلسطين، كما أضر بإجماعات السوريين واللبنانيين والعراقيين.

في لبنان، أيضا، فإن التغيير السياسي الكبير، الذي تم التعبير عنه بانتخاب رئيس وتكليف للجمهورية رئيس حكومة جديد، من خارج الطبقة السياسية السائدة، كان يفترض أن ينجز مع الهبة الشعبية في مارس/آذار (2005)، أي بعد إخراج الجيش السوري من لبنان، إلا أن ذلك تأخر، منذ ذلك الحين، بسبب نفوذ النظامين السوري والإيراني، في ذلك البلد، إذ سرعان ما تم توكيل "حزب الله" بذلك، بحيث بات بمثابة دولة داخل دولة، والأحرى فوق الدولة، سياسيا واقتصاديا وخدماتيا وعسكريا. ومرة ثانية كان يفترض بالتغيير اللبناني أن ينجز مع انتفاضة 2019-2021 في لبنان، التي أتت ضد النظام القائم على الفساد والطائفية، وضمن الموجة الثانية لـ"الربيع العربي"، لكن المشكلة ظلت تتمثل بهيمنة النظام الإيراني، وتاليا بوجود ميليشيا "حزب الله" كسلطة استطاعت قمع تلك الانتفاضة وقتها.

إن عملية "الطوفان" كانت بمثابة القابلة التي ولّدت كل التغييرات التالية، وضمنه الحسم أميركيا وإسرائيليا بمسألة تقويض نفوذ إيران في المنطقة

ما يمكن لفت الانتباه إليه هنا، أيضا، أن التغيير السوري واللبناني، الذي كسر حالة الاستعصاء السياسي في بلدان المشرق العربي، توازى، بشكل عكسي، مع تعمق حالة الاستعصاء في الوضع الفلسطيني. وفي الواقع فإن عملية "طوفان الأقصى"، التي بادرت إليها "حماس"، على شكل حرب كجيش لجيش، وجدت فيها إسرائيل فرصتها لشن حرب إبادة ضد الفلسطينيين، بخاصة في غزة، وفي مناطق في لبنان، ما أدى إلى تعزيز هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وتقويض القدرات العسكرية لحركة "حماس" و"حزب الله".

لكن تلك العملية التي فاجأت إسرائيل، وشكلت ضربة قوية لها، سياسيا وأمنيا، أدت إلى انتهاء الرهان الأميركي والإسرائيلي على الاستثمار في سياسات النظام الإيراني، أيضا، بمعنى أن عملية "الطوفان" كانت بمثابة القابلة التي ولّدت كل التغييرات التالية، وضمنه الحسم أميركيا وإسرائيليا بمسألة تقويض نفوذ إيران في المنطقة.

بديهي أن تضحيات ونضالات السوريين واللبنانيين، على مدار نصف قرن، وخاصة في العقد الماضي، لعبت دورا أساسيا في إضعاف النظام السوري، وعزله والحط من شرعيته ومكانته، لكنها لم تكف لوحدها لإسقاطه، كما أن مثل تلك النضالات والتضحيات، لم تمكن الفلسطينيين من تحقيق بعض آمالهم، في صراعهم المديد والمكلف والصعب ضد إسرائيل.

والفكرة أن العامل الدولي يلعب دورا أساسيا، وتأسيسيا، في بلداننا، كعامل داخلي، سيما مع وجود إسرائيل، باعتبارها ليست مجرد دولة وإنما، أيضا، بمثابة وضع دولي في الشرق الأوسط، فحتى تركيا ما كان يمكن لها أن تدعم التغيير السوري، بالشكل الذي حصل فيه، لولا تغير السياسة الأميركية باتجاه الانتهاء من النفوذ الإيراني ومن نظام الأسد، بحيث تكامل الشرطان الذاتي والموضوعي، لتشكيل اللازم والكافي للتغيير سورياً ولبنانياً.

وبالطبع فإن ذلك الحسم ليس له علاقة بمحاباة الولايات المتحدة لشعب سوريا أو لبنان، وإنما بانتهاء استثمارها في سياسات إيران، وسعيها تقويض نفوذها، لصالح تعزيز مكانة إسرائيل وضمان أمنها واستقرارها، وتالياً لوضع حد لتدخلات الحوثيين في ممرات التجارة الدولية، وإعادة هندسة الشرق الأوسط. وللتذكير فإن الولايات المتحدة هي التي أسهمت في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، بتسليمها العراق (2003) عبر ميليشياتها الطائفية المسلحة، وسكتت عن تعاظم نفوذها في سوريا، وقبلها في لبنان، ثم هي لم تفعل شيئا للسوريين، الذين عانوا من نظام الفساد والاستبداد والكبتاغون، والذي كان يقتلهم ويشردهم ويخرب عمرانهم بالبراميل المتفجرة وبالصواريخ وبالكيماوي، طوال 13 عاما، بمشاركة إيرانية وروسية.

المهم، أن الوضع الداخلي، والقوة اللازمة سورياً ولبنانياً، التقيا أو تقاطعا في اللحظة المناسبة مع الحسم الدولي.   

font change