أميركا تتصدر توريد الغاز إلى أوروبا... "كش قيصر"

كانت روسيا تورد 40% من استهلاكها وتركيا تعزز مكانتها على الخريطة ولا قدرة عربية لتعويض النقص حاليا

رويترز
رويترز
خط أنابيب الغاز يورنغوي-بوماري-أوزغورود، بالقرب من مدينة كورسك في جنوب غرب روسيا

أميركا تتصدر توريد الغاز إلى أوروبا... "كش قيصر"

ينتظر أن تستحوذ أميركا على حصة روسيا في سوق الغاز الطبيعي في وسط أوروبا، بعد قرار أوكرانيا وقف عبور الغاز الروسي عبر أراضيها، وهو تطور قد يعزز أيضا طموحات تركيا في أن تصبح مركزا أساسيا لعبور الطاقة إلى القارة العجوز، بحسب خبراء في شؤون أسواق الطاقة.

أما الدول العربية الرئيسة المصدرة للغاز الطبيعي - قطر والجزائر والإمارات العربية المتحدة – فهي تفتقر حاليا إلى طاقة إنتاجية إضافية تمكنها من ملء الفراغ الذي خلفه توقف صادرات الغاز الروسية عبر أوكرانيا بشكل سريع. فالزيادات المقررة في إنتاج قطر ستبدأ بحلول نهاية السنة الجارية أو أوائل العام المقبل، وتلك المقررة في الإمارات ستبدأ في عام 2028 وستكون وجهتها ألمانيا.

جدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية هي من أكبر الدول المنتجة للغاز، إلا أنها تحتفظ بهذه الطاقة الأقل تلويثا من النفط، لغرض توليد الكهرباء وكلقيم لصناعة البتروكيماويات، كما أن لديها خططا للتصدير في المستقبل، نظرا للنمو الكبير في الطلب على الغاز في آسيا.

shutterstock

وكانت أوكرانيا قد أعلنت عدم تجديد اتفاق يسمح للغاز الروسي بالتدفق عبر خطوط أنابيب عابرة لأراضيها بداية عام 2025، والذي كان مزودا للنمسا ومولدوفا وسلوفاكيا بشكل أساسي، وبدرجة أقل للمجر وإيطاليا.

أميركا الوحيدة القادرة على تعويض النقص

شكل الغاز الروسي العابر لأوكرانيا نحو 5 في المئة فقط من الإمدادات الإجمالية للغاز في أوروبا - أو 15 مليار متر مكعب من الغاز من أصل نحو 320 مليار متر مكعب استهلكتها أوروبا في عام 2024، وفقا لمركز سياسة الطاقة العالمية (CGEP) التابع لجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة.

وتقول الباحثة في الشؤون العالمية في المركز آن-صوفي كوربو "إن الولايات المتحدة هي حاليا الدولة الوحيدة التي لديها القدرة على تعويض النقص" في كميات الغاز الناتج من قرار أوكرانيا، مشيرة إلى الإنتاج الإضافي الذي بدأ في ديسمبر/كانون الأول وبداية السنة من منشآت الغاز الطبيعي المسال في بلاكمين، في ولاية لويزيانا، وكوربوس كريستي، في ولاية تكساس.

شكل الغاز الروسي العابر من أوكرانيا نحو 5 في المئة فقط من إمدادات الغاز في أوروبا عام 2024

يجري تبريد الغاز الطبيعي ليصبح وقودا سائلا في منشآت خاصة، من أجل تحميله على متن سفن ونقله عبر البحار ليصل الى وجهات غير مرتبطة بخطوط أنابيب في مصادر الانتاج. وعند وصوله إلى وجهته، يعاد تحويل الوقود السائل إلى غاز، في ما يعرف بعملية التغويز، ليتم نقله بعد ذلك في شبكات الغاز الوطنية. هذه الشبكات مترابطة في ما بينها إلى حد كبير في الدول الأوروبية، حيث يصبح بالإمكان إرسال الغاز من بلد إلى آخر بموجب اتفاقات تجارية.  

صارت الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم في عام 2023، بفضل مكامن الوقود الصخري، متجاوزة كلا من أوستراليا وقطر. أما من حيث إجمالي إنتاج الغاز، فتحتل الولايات المتحدة أيضا المرتبة الأولى عالميا، تليها روسيا وإيران، وفقا لإدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA).

المزيد من العقوبات على روسيا

من جهتها، عملت أوروبا على تطوير قدرتها على استيراد الغاز الطبيعي المسال بعد غزو أوكرانيا لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي المنقول بالأنابيب، ووسعت طاقتها لإعادة التغويز بمقدار الثلث منذ عام 2021، وفقا لإدارة معلومات الطاقة. 

ديانا استيفانيا روبيو

وكانت ألمانيا قد أضافت أكبر قدر من طاقة إعادة التغويز في أوروبا، كما عززت كل من هولندا وإسبانيا وإيطاليا وفنلندا وبولندا وفرنسا وبلجيكا واليونان قدراتها في هذا المجال، وفقا لمعهد اقتصادات الطاقة والتحليل المالي.

لم يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على صادرات الغاز الروسية، لكنه ترك الأمر للدول الأعضاء لتنويع صادراتها بشكل فردي لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، بهدف التخلص من الواردات الإجمالية للوقود الأحفوري الروسي بحلول عام 2027.

من جهتها، شددت الحكومة الأميركية في 10 يناير/كانون الثاني العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، بما في ذلك بعض محطات تصدير الغاز الطبيعي المسال وناقلات الغاز، في خطوة من شأنها أن تعزز الحصة الأميركية في سوق الغاز الأوروبي.

تهدف العقوبات الجديدة الى حرمان موسكو من "مصدر رئيس للإيرادات لتمويل حربها الوحشية وغير القانونية على أوكرانيا"، وفقا لبيان صادر عن وزارة الخزانة الأميركية.

يقول فرانسيس بيرين، كبير زملاء المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS)، إن العقوبات الجديدة إذا وافق عليها الرئيس دونالد ترمب عند تنصيبه غدا، فستصعب على روسيا تصدير الغاز، إذ إن "هذه الإجراءات رادعة نوعا ما" للمستوردين الأوروبيين.

لعنة العجز التجاري الأميركي

وكانت روسيا قد زادت صادراتها من الغاز إلى الصين، من طريق خط أنابيب، كما أنها زادت صادراتها من الغاز الطبيعي المسال، واستمرت في تسليم شحنات من هذا الوقود حتى داخل أوروبا. واستحوذت روسيا على 16 في المئة من واردات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا في عام 2024، وفقا لمركز خدمات معلومات السلع المستقل (ICIS) وهو مزود عالمي للمعلومات والتحليلات عن أسواق الطاقة والسلع، ومقره لندن. واستحوذت الولايات المتحدة على 47 في المئة من شحنات الغاز الطبيعي المسال الموردة إلى أوروبا، وقطر على نسبة 11 في المئة.  

أبلغت دول الاتحاد الأوروبي أن عليها تعويض العجز التجاري الهائل للولايات المتحدة مع الاتحاد من خلال شراء النفط والغاز على نطاق واسع، وإلا فسيكون هناك تعريفات بلا حدود

الرئيس الأميركي دونالد ترمب

ويعتبر بيرين أن "لدى الولايات المتحدة قدرة إضافية لإنتاج الغاز، وكذلك لديها الإرادة السياسية لتعزيز حصتها في السوق الأوروبية، كما عبر عن ذلك الرئيس ترمب".

وكان الرئيس الأميركي "العائد" قد حذر الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي من انه سيفرض تعريفات جمركية على صادرات الاتحاد إذا لم تشتر الدول الأعضاء من الولايات المتحدة المزيد من النفط والغاز.

 وقال على منصة "تروث سوشال": "أبلغت دول الاتحاد الأوروبي أن عليها تعويض العجز التجاري الهائل للولايات المتحدة مع الاتحاد من خلال شراء النفط والغاز على نطاق واسع. وإلا فسيكون هناك تعريفات بلا حدود!!". 

ديانا استيفانيا روبيو

وكان الاتحاد الأوروبي قد بدأ بالاستعداد لمعركة تجارية بعد فوز ترمب في الانتخابات، نظرا إلى مواقفه الحمائية المعروفة وإلى حجم العجز التجاري الأميركي للسلع والخدمات مع المجموعة، والذي بلغ 131,3 مليار دولار في عام 2022، وفقا لمكتب الممثل التجاري الأميركي[i].

تركيا تعزز موقعها الجيوستراتيجي

أما من الناحية الجيوستراتيجية، فقد تتمكن تركيا من الاستفادة من الوضع المستجد في خريطة الطاقة الأوروبية لتعزز مكانتها كمركز لعبور الغاز إلى أوروبا الشرقية والوسطى.  

فخط أنابيب "تورك ستريم"، الذي يعبر البحر الأسود من روسيا إلى تركيا، واصل توريد الغاز إلى تركيا وكذلك الى اليونان وبلغاريا ومقدونيا الشمالية وصربيا والمجر. كما أن تركيا تتلقى الغاز من أذربيجان وإيران من طريق خطوط أنابيب، ولديها خطط للحصول على المزيد من الغاز من تركمانستان عبر إيران. وتستورد أيضا الغاز الطبيعي المسال من منتجين مختلفين من بينهم الولايات المتحدة وقطر والجزائر ونيجيريا.  

وفي خطوة تؤكد أهمية "تورك ستريم"، وقعت شركة "غازبروم" الروسية في أكتوبر/تشرين الأول مذكرة تفاهم مع المجر في شأن زيادة محتملة في الإمدادات عبر الخط العابر للبحر الأسود.

يقول أندرياس شرودر، رئيس تحليلات الطاقة في مركز "ICIS"، والمقيم في ألمانيا، إن مكانة تركيا قد سجلت قفزة كبيرة على خريطة الطاقة بعد الحرب في أوكرانيا، من حيث أهميتها لروسيا كبوابة لعبور الغاز نحو أوروبا الشرقية، وكنقطة الدخول لأوروبا للغاز الروسي والغاز الطبيعي المسال الذي يتم الحصول عليه من دول مختلفة، وربما لغاز آسيا الوسطى". 

ووقعت تركيا العام المنصرم اتفاقيتين لتوريد الغاز الطبيعي المسال لمدة 10 سنوات، إحداهما مع "شل" البريطانية والأخرى مع "توتال إنرجيز" الفرنسية، مع خيار إعادة توجيه الشحنات إلى أوروبا، بدءا من عام 2027، مما يوفر كمية لإعادة التصدير إلى أوروبا إذا لم يعد الاتحاد الأوروبي راغبا في شراء الغاز الروسي، بحسب شرودر.

تحديات أوروبية في 2025

لم تواجه أوروبا في العام المنصرم أزمة في إمدادات الغاز كتلك التي حصلت بعد غزو أوكرانيا في عام 2022، حيث تقوم باستيراد الغاز من مصادر أخرى، باستثناء منطقة ترانسنيستريا الانفصالية الموالية لروسيا في مولدوفا، التي لم يكن لديها بديل من الغاز الروسي العابر من أوكرانيا المجاورة. أما في بقية الدول التي كانت حتى العام المنصرم تتلقى الغاز الروسي عبر أوكرانيا، فسينعكس القرار الأوكراني المستجد إلى حد ما على اقتصاداتها، إذ إن تكلفة واردات الغاز الطبيعي المسال أكبر من تكلفة الغاز الروسي الوارد عبر خط الأنابيب.

كانت روسيا قبل حربها على أوكرانيا عام 2022 تزود أوروبا أكثر من 40 في المئة من حجم استهلاك الغاز لديها

وكانت روسيا قبل حربها على أوكرانيا عام 2022 تزود أوروبا أكثر من 40 في المئة من حجم استهلاك الغاز لديها، بينما كانت قطر من الموردين الرئيسيين للغاز الطبيعي المسال، والجزائر مورد رئيسي لكل من الغاز الطبيعي المسال والغاز الذي يتم نقله عبر خطوط الأنابيب.

ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج من توسعة منشآت التسييل في قطر في نهاية عام 2025، في حين من المقرر أن تبدأ الصادرات من الإمارات العربية المتحدة إلى ألمانيا في عام 2028. من جهتها، أشارت الجزائر إلى نيتها تطوير مشاريع جديدة للغاز لكن الأمر سيستغرق سنوات قبل أن يصار إلى الإنتاج من منشآت جديدة نظرا لضخامة وتكلفة مشاريع الغاز بشكل عام. وتقوم الجزائر حاليا بتصدير الغاز الطبيعي المسال من محطتي تسييل، كما أنها تورد الغاز إلى أوروبا عبر مجموعة خطوط أنابيب، تصل إلى إيطاليا وإسبانيا.

ديانا استيفانيا روبيو

أما مصر، فقد تحولت من مصدر إلى مستورد صاف للغاز في نهاية عام 2024، حيث تجاوز الاستهلاك المحلي إنتاج الوقود.

وبحسب بيرين "فإن سوق الغاز الأوروبية لن تنمو كثيرا بالنظر إلى التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة، وسيكون الموردون هم أنفسهم إلى حد كبير، باستثناء روسيا التي ستستمر حصتها في التضاؤل". وأضاف "قد نرى السنغال وموريتانيا كوافدين جدد" الى السوق الأوروبية، حيث تخطط الدولتان الغرب أفريقيتان لبدء صادرات الغاز الطبيعي المسال من حقل "غراند تورتو أحميم" البحري المشترك هذا العام.

font change

مقالات ذات صلة