رحيل ديفيد لينش... آخر السورياليين الكبار

المخرج الذي ذهب بالتجريب السينمائي إلى حدوده القصوى

Shutterstock
Shutterstock
ديفيد لينش

رحيل ديفيد لينش... آخر السورياليين الكبار

بعد أيام من الحرائق التي طاولت استديوهات السينما في مدينة لوس أنجليس الأميركية، فُجعت هوليوود مجددا في رحيل أحد كبار مخرجيها، وأكثرهم إبداعا وجرأة، ديفيد لينش (20 يناير/ كانون الثاني 1946- 16 يناير 2025). قبل أيام من وفاته، التي تسبب بها التدخين بلا انقطاع لسنوات طويلة وذلك بعد تشخيص إصابته بمرض انتفاخ الرئة قبل أشهر، اضطر لينش إلى مغادرة منزله، وكانت النيران هددت بالوصول إليه. هل لعب هذا النزوح الإجباري، دورا في الإجهاز على ما تبقى من رئته المريضة؟ إن استعرنا خيال لينش السينمائي، يمكننا أن نراه للمرة الأخيرة، في لقطة ثابتة بالأبيض والأسود، في عينيه تلك النظرة الأسيفة والحنونة، يدخن ببطء واستمرار حتى يحترق، ولن تكون هذه الصورة بعيدة عن الحقيقة.

بعيدا عن الأضواء

رثاه بالطبع عشاق السينما ونقادها ومخرجوها والمتخصصون فيها. لكن اللافت أكثر، أن الرثاء جاء ايضا من المتفرجين العاديين، الذين لا يدّعون لأنفسهم ميزة على الآخرين، ويعبرون عن آرائهم ببساطة وبلا مصطلحات كبيرة أو عسيرة. مرات عدة، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي عبارة: "موت صاحب مولهولاند درايف"، في حين تذكر آخرون مساهمته التلفزيونية الكبيرة والفريدة عبر مسلسل "توين بيكس" (1990-1991، ثم في موسم ثالث وأخير عام 2017).

في "يوتيوب"، تعددت التعليقات على أفلامه القصيرة المتاحة للمشاهدة. كلها لمتابعين ثكالى، يصفون علاقتهم بأفلامه الصغيرة تلك، يتحدثون عن تأثيرها التأملي، عن خوفهم منها بداية، وقد تحوّل مع السنين إلى ألفة وشعور بالراحة، أحدهم تمنى له بعذوبة أن يتمكن من صناعة الأفلام هناك حيث انتقل للسكنى في عالمه الجديد.

مع كل هذه المودة، والشعور بالقرب الذي يعبر عنه أناس عاديون، إن جاز استخدام هذا التعبير، إزاء المخرج الراحل، يخطر سؤال طبيعي: ما الذي قدمه ديفيد لينش، كي يصير قريبا إلى هذا الحد من الناس؟ هو الذي لم يصنع سينما سهلة، واحتجب تقريبا في الأعوام الأخيرة، فلم يفرض اسمه ولو حتى بالحديث عن مشروعات سينمائية جديدة. كانت لديه مشاريعه بالطبع، أفلام قصيرة غير تجارية يفعل فيها ما يحلو له، لكن الانجذاب إلى الأضواء ليس سمتها الأبرز على أي حال. في الظلام، ومع الظلال، كان في وسع لينش أن يفكر... بالأحرى أن يحلم. ذلك أن السينما بالنسبة إليه، ظلت حلما/ كابوسا، أكثر منها حكاية لها بداية ووسط ونهاية، خلافا للطريقة الهوليوودية الشهيرة.

في الظلام، ومع الظلال، كان في وسع لينش أن يفكر... بالأحرى أن يحلم. ذلك أن السينما بالنسبة إليه، ظلت حلما/ كابوسا، أكثر منها حكاية لها بداية ووسط ونهاية

لا تملك أفلامه ذلك اليقين الأميركي في رؤية العالم، هي أقرب إلى أعمال تجريبية، إلى أضغاث أحلام أو حديث نفس. اللعبة عند لينش، هي ضم أكبر عدد من المتفرجين إلى أضغاثه هذه، وأحاديث نفسه هو وشخوصه، والنتيجة أن هذه الأفلام صارت تنتمي بدورها إلى متفرجيها، تحفز عندهم تجارب أو خيالات أو حتى ضلالات مشابهة.

AFP
رينغو ستار، ديفيد لينش، وهنري ديلتز

العين خالقة السينما

بعض القراءات لأفلامه، تعيد تركيب شظايا المشاهد التي حققها لينش، في سبيل الخروج بحكاية، ومع ذلك، فالغالب أن مشاهدة أفلامه حتى لو لم تمرّ من هذا الباب التأويلي، تنطوي على متعة، بصرية أساسا، تعيد السينما إلى حضن حاستها الأم، حاسة البصر. العين هي المشاهد الأول، هي التي ترى الحلم والكابوس، النور والظلام، وهي التي تخلق رؤيتها الخاصة للأفلام، لا الذهن لا العقل، بل ما خلفهما، أو بالأحرى ما فوقهما.

مشهد من "الرجل الفيل"

العين كانت المركز في الفيلم السوريالي التأسيسي القصير، "كلب أندلسي" 1929 للمخرج لوي بونويل. الفيلم الذي يمكننا أن نستشعر تأثيره على فيلم لينش الطويل الأول Eraserhead (1977)، وإلى حد ما على فيلمه الثاني "الرجل الفيل" The elephant man (1980). على النقيض من فيلمه الأول، ومن العديد من أفلامه الأخرى، طويلة كانت أم قصيرة، يقدم "الرجل الفيل" حكاية واضحة المعالم بالأبيض والأسود، تنهض على قصة شخص حقيقي هو جون ميريك، الذي ابتلي بتشوهات خلقية، جعلت البشر يسيئون معاملته، ويستغلونه، إلى أن يكتشف حالته بالمصادفة الطبيب فريدريك تريفس (يؤدي دوره أنتوني هوبكنز)، فيمنحه فرصة أخيرة كي يحيا كإنسان.

مشهد من "الرجل الفيل"

يتخذ الفيلم أبعادا روحية وإنسانية وحتى نجمية، لا سيما في قسمه الأخير، حيث يسعى لينش لأن يمنح تعزية ما، أو نظرة سامية لحياة جون ميريك الأليمة، ويربط موته بدورة الكون والكواكب. قد لا نرى هذا الحرص على التفسير، أو قول الكلمة الأخيرة، في أفلام لينش اللاحقة، لكن ثمة في "الرجل الفيل"، جوهر اشتغل عليه في أعماله جميعها (عشرة أفلام طويلة ومسلسل وأفلام قصيرة)، حساسيته إزاء هشاشة الوضع الإنساني، وحساسية الإنسان نفسه إزاء هشاشته، ما يدفعه ربما إلى القتل والخيانة والمكيدة، ما يرده إلى الظلمة، إلى القسوة وفي النهاية إلى البكاء. في أفلام لينش، دائما هناك أشخاص يجهشون بالبكاء، ليس على طريقة السينما، إنهم ينتحبون مثلنا، ويصرخون محاولين التغلب على ألم وجودي مزمن وقاتل، كما نرى مثلا ديان (ناعومي واتس)، وهي تواجه خيانة كاميلا، وحيدة في شقتها، وبيدها تغتصب جسدها، عقابا على رغبته ولم يعد ممكنا تحقيقها في "مولهولاند درايف" 2001.

في أفلام لينش، دائما هناك أشخاص يجهشون بالبكاء، ليس على طريقة السينما، إنهم ينتحبون مثلنا، ويصرخون محاولين التغلب على ألم وجودي مزمن وقاتل

تحتمي الهشاشة في اللاوعي أساسا، تسكن في الأحلام والكوابيس، في الهذيان ونوبات القلق والوساوس القهرية، وبين الصحو والمنام. ومع ذلك، تطفو أحيانا على السطح، على أرض الواقع، رغما عنا. يسير بطل فيلم "مخمل أزرق" Blue velvet (1986) عشوائيا على العشب، حتى يجد نفسه بالمصادفة أمام أذن إنسانية، منزوعة ومزرقة، يأكلها النمل. بالعشوائية نفسها، يعثر البطل على مظروف ورقي، يودِع الأذن فيه، كي يأخذها إلى المحقق، وحيث ينبغي أن يبدأ تحقيق في جريمة قتل. هكذا يُختزل الوجود الإنساني دفعة واحدة، في أذن منزوعة ومتعفنة، بلا شاعرية فان غوغ، الذي يقال إنه بتر أذنه وأهداها الى حبيبته، ولم يخبرنا أحد بعد ذلك شيئا عن مصير الأذن في معية الحبيبة.

مجرد أرانب

أحد الأفلام القصيرة التي يمكن العودة إليها من أعماله هو "أرانب" Rabbits الذي أنجزه بعد عام واحد من صدور "مولهولاند رايف"، أي عام 2002 بالاستعانة بنجمتيه ناعومي واتس ولورا هارينغ. يشبه هذا الفيلم مسرحية لصموئيل بيكيت، وفيه الكثير من روح أعماله وفلسفته. وهو مصوّر بزاوية ثابتة تستعرض مسرحا، يشغله ثلاثة أرانب، يؤدي أدوارهم ثلاثة ممثلين، امرأتان ورجل. الموسيقى التي لا تتوقف في الخلفية، تمنحنا الشعور بنهاية العالم، أما الحوار الذي يجري بين الشخصيات، فلا يمكن أن يدور إلا بين البشر، يتناول بشكل عشوائي تماما موضوعات عشوائية، الساعة والطقس وصوت المطر، وإشارة إلى حادثة غامضة، تقاطعه بالعشوائية نفسها ضحكات الجمهور على عبارات لا تضحك. "أرانب" هو أحد أعلى أفلام لينش القصيرة مشاهدة على اليوتيوب، وعلى الرغم من اللامنطق الذي يكتنف الفيلم، إلا أن المشاهدين، لا يكفون في التعليقات عن إعادة تركيب القصة، وترتيب العبارات، ووضع احتمالات لمقصد هذا المشهد السوريالي الطويل نسبيا (يبلغ زمنه ساعة إلا الربع). وكأننا، كمشاهدين، نتماهى بصورة ما مع هذه المخلوقات الهشة، الخائفة والمذعورة من الوجود، ألا وهي الأرانب.

AFP
ديفيد لينش يتحدث بعد عرض خاص لفيلمه "Inland Empire"

لينش سيعود في فيلمه الطويل الأخير "إنلاند إمباير"  Inland Empire (2006) إلى مشهد الأرانب والجمهور الضاحك الذي يوظفه في العالم السوريالي الذي تجد نفسها نيكي (لورا ديرن) غارقة فيه، حتى يضيع الخط الفاصل بين الممثلة والشخصية التي تؤديها. هذا الفيلم الأطول بين أفلامه (نحو ثلاث ساعات) الذي يعتبره بعض النقاد تحفة لينش السينمائية الأبرز، يكاد يختزل جميع أفلامه السابقة، وتتجسد فيه مغامرته السينمائية الحرة في حدودها القصوى. وإذا كان يصعب كالعادة في معظم أفلامه التقاط خيوط الحكاية، والفصل بين عالمي الهذيان، ولواعج النفس الداخلية، والعالم الحقيقي، فإنه في هذا الفيلم يقدم رحلة بصرية نادرة، ويخضع ممثلته الأثيرة لورا ديرن إلى مشقات هائلة، ناقلا إياها بين سلسلة من التمزقات والتحولات داخل أروقة عالمه الكابوسي. لعل هذا العذاب الذي لا بد عرفته ديرن خلال تصوير الفيلم، هو ما جعله يقرر الجلوس، بجوار بقرة حقيقية، قبالة أكاديمية الأفلام الأميركية، رافعا لافتة تدعو إلى ترشيحها إلى جائزة أفضل ممثلة.

إنه بمعنى ما أقل مخرجي أميركا هوليوودية، وأشدّهم شبها بنفسه، لذا ليس غريبا أنه اختفى من مشهد الإنتاج السينمائي التجاري خلال الأعوام الأخيرة

ربما هنا تكمن الإجابة عن السؤال الأول، ما الذي يجعل لينش قريبا إلى هذا الحد منا؟

 للوهلة الأولى، ربما لم يبد "مولوهلند درايف" مرشحا لكل هذا النجاح والوصول إلى المتفرجين. طبيعة السرد الأقرب إلى أحجية، لا تشترط حلا، العلاقة العاطفية المثلية بين سيدتين، وتقديمها الجسدي الخاص، ثم زوال كل الشعور والأسئلة عن الماضي والذاكرة، في صورة انهيار عقلي مباغت. مع ذلك، ألا تشبه الخيبة العاطفية (إحدى المسلمات القليلة في الفيلم)، التي تواجهها ديان هنا بتبعاتها النفسية والعقلية المرعبة، تجاربنا الظالمة والعنيفة في الحياة، من دون ذنب جنيناه؟ ألا تشبه طلاقتها في التعبير عن ألمها إلى حد العواء، هزائمنا التي نعيشها في عزلة، ولا نجاهر بها أمام الآخرين؟ لا، لم ينحز ديفيد لينش إلى سردية هوليوود الشهيرة عن البطل الخارق، أو الإنسان السوبرمان الذي في وسعه اقتراف كل شيء. حتى في "مولوهلاند درايف"، فإنه ينتقد ضمنا النظام الهوليوودي الزائف الذي يقود ديان إلى الجنون، وكاميلا إلى الموت. إنه في معنى ما، أقل مخرجي أميركا هوليوودية، وأشدّهم شبها بنفسه، لذا ليس غريبا أنه اختفى من مشهد الإنتاج السينمائي التجاري خلال الأعوام الأخيرة، بل يناسبه تماما هذا الموقف.

مشهد من "مولوهلاند درايف"

في حوار الصحافي لوران تيرار معه، كما تنقله ترجمة محسن ويفي في كتاب "محاضرات في الإِخراج السينمائي"، يقول ديفيد لينش: "نصيحتي لكل مخرج شاب هي كن دائم السيطرة على فيلمك من البداية حتى النهاية. لأنه من الأفضل ألا تصنع فيلما على الإطلاق من أن تتخلى عن فاعلية القرار النهائي. لأنك إن فعلت، فسوف تعاني بشدة. أعرف ذلك من التجربة. لقد صورت فيلم Dune من دون الإشراف على القطع النهائي، وكنت على شفا الانهيار من النتيجة التي أبعدتني عن العمل لمدة ثلاث سنوات قبل أن أستطيع إخراج فيلم آخر. ولم أستطع تجاوز الأمر حتى اليوم. إنه جرح لا يندمل أبدا".        

لعلّه تجاوز أخيرا هذا الجرح.

font change

مقالات ذات صلة