بورتريهات ذاتية أنجزها كتّاب لأنفسهم رسما لا كتابة

حين يخرج الكاتب من ذاته كي يرى ذاته من ضفة مقابلة

AFP_ALAMY_SHUTTERSTOCK_ِAlMajalla
AFP_ALAMY_SHUTTERSTOCK_ِAlMajalla

بورتريهات ذاتية أنجزها كتّاب لأنفسهم رسما لا كتابة

سبق أن أقنع بيرت بيرتون كتّابا بمحاولة رسم بورتريهات ذاتية لأنفسهم، من قبيل نورمان ميلر وسوزان سونتاغ ومارغريت أتوود وأناييس نين وسول بيلو وألن غينسبيرغ وكورماك مكارثي... ثم جمع البورتريهات في كتاب خاص موسوم بعنوان "بورتريه ذاتي: كتاب شخوص يرسمون أنفسهم"، أصدره سنة 1976.

قبل فكرة مشروع بيرت بيرتون، عرف تاريخ الفن في أعرق أشكاله، إقدام أقلية من الشعراء والروائيين، على رسم أنفسهم بصيغة البورتريه الذاتي، كلٌّ وفق نزوعه الشخصي، أو بحسب سياق خاص، سواء تحت الطلب أو بدونه.

علامات جمالية لافتة

لافتة هي البورتريهات الذاتية التي أنجزها كتاب وشعراء لأنفسهم رسما لا كتابة، على قلتهم لأن معظمهم مارسوا فن الرسم على سبيل الهواية ولم يُعرف عنهم ذلك على العموم، وتحصيل الحاصل أن يكون منجزهم محض هامش بالغ الضآلة، مواز لمركزية كتابتهم الروائية والشعرية، دون أن يزعموا في يوم أنهم من محترفي فن التشكيل، والاستثناء منهم مَن واشج بين الكتابة والرسم على نحون متوازن، بل قدّم نفسه على ذلك النحو، فيما اقترف آخرون الرسم كنزوة، كمزحة، كشغب طفولي، على سبيل الخربشة لا غير، أصْدقُهم من تلقاء ذواتهم، وأقْربُهم إلى الاشتباه التجاري استجابوا بتحفيز من مؤسسة فنية أو إشهارية بالأحرى، وهذا ما فصلناه في مقال سابق بـ"المجلة" تحت عنوان "كتاب اتخذوا الرسم هواية وملاذا شخصيا... وامتدادا للأدب".

لعل القبض على المنفلت من سديم ذاته، من كيمياء وجهه، بالرسم، هو محاولة لتدارك ما لا يمكن القبض عليه دائما بالكتابة

المختلف إذن هو البورتريه الذاتي، أن يرسم الكاتب نفسه بنفسه، تحديدا وجهه (على نحو خاص) أو ذاته (على نحو عام)، أن يلجأ إلى الرسم بدل الكتابة، أن يتوسم بالريشة، بالصباغة، بالفحم دليله نحو خريطة وجهه، بدل أن يستعين بما هو بديهي يمثّله قلمه أو رقنه على الآلة الكاتبة والحاسوب.

لعل القبض على المنفلت من سديم ذاته، من كيمياء وجهه، بالرسم، هو محاولة لتدارك ما لا يمكن القبض عليه دائما بالكتابة، شعرا كانت أو رواية أو قصة قصيرة، بل سيرة ذاتية.

غلاف كتاب بيرت بيرتون "بورتريه ذاتي: كيف يصور الكتاب أنفسهم"

عندما تصمت الكتابة

يخرج الكاتب من ذاته كي يرى ذاته من ضفة مقابلة، كأنما من يرسمه هو ظلّه أو شبحه. في المسألة المزدوجة هذه ما يجعلها بالغة التعقيد، فأن ترسم وجهك أو تتلمس الطريق إلى رسم ذاتك وفق صيغة بورتريه، يجعلك تقف موقف من يرى نفسه في مرآة، لا مرآة عادية بل تخييلية مهما كانت صلتك بنفسك وثيقة حدّ التماهي أو التطابق. يتضاعف التعقيد حينما نود الفصل بين حدّين مفارقين: داخل يرسم نفسه من خارج! وخارج يرسم نفسه من داخل!

Sylvia Plath
سيلفيا بلاث، بورتريه ذاتي

في كل الأحوال، يمكن النظر إلى البورتريه الذاتي الذي تجاسر على إنجازه الكاتب لنفسه رسما، كمحاولة للإطباق على هلام وجهه في صفحة مياه لبئر كانت أو بحيرة. أليس في هذا النزوع ما يحيل على شبح نرسيس وهو يتأمل وجهه على صفحة بركة؟

ربما المسألة أعمق من نزعة نرجسية، وهي أقرب إلى تأبيد ملامح سريعة الاضطراب والعطب في طريقها إلى التلاشي، تأبيدها في لحظة مارقة يكون فيها الوجه هو سطح البحيرة المفصح عن أغوارها المظلمة، أو هي أقرب إلى الإمساك بظلال الوجوه الهاربة وهي تعكسها شمس الأقبية الغائرة للذات.

Canada Post
مارغريت أتوود، عمل بعنوان "لا سمكة ولا لحم"

انطباع آخر لا بد منه، يقول بملء المحاولة تلك، أن لا بورتريه يستقيم للكاتب، شاعرا كان أو روائيا، إلا باقتراف رسمٍ شخصي منه، لا من غيره، هو البورتريه بالذات الذي يتحقق أثره عندما تصمت الكتابة، وتتنحى كل أشكال التعبير جانبا.

يمكن النظر إلى البورتريه الذاتي الذي تجاسر على إنجازه الكاتب لنفسه رسما، كمحاولة للإطباق على هلام وجهه في صفحة مياه

هو ذا أنا كما أراني لا كما ترونني أنتم، يصرخ البورتريه الذاتي كيفما كان جدل التطابق والخيانة متأرجحا في الوفاء للكيمياء الأصل، وهي غامضة على كل حال.

وأن نرى الكاتب بحسب بورتريهه الذاتي كما يريد لنا أن نراه ببصيرة ألوانه الحادة وتخطيطاته الهلامية أو بسديم فحمه وربما واقعية تجسيمه المفرطة في الغرابة، فهذا تنبيه منه إلى أن بورتريهاته الغيرية، التي أنجزها آخرون من الفنانين التشكيليين حوله، باطلة في الغالب كيفما كانت ذائعة الشهرة والفنية، أو ضلت الطريق إلى معدن وجهه مهما تحولت إلى أيقونات يحتذى بجماليتها المبهرة.

Kunstmuseum Bern
هرمان هسه، بورتريه ذاتي

ضد الصورة العامة

كذلك صورته العامة المنذورة للآخرين، لمحفل التلقي، كأنما يعارضها بأن يصحح مثار استهلاكها في المشهد الكلي، إنه يستعيدها إلى غرفة تحميضه، مرمما ملامحها المبتذلة، نافخا في فجواتها من روحه كيما تنطلق في سماء المشهد من جديد، لكن بتوقيع منه، قطعة من كبد حقيقته، وها إنها مختلفة بالتمام عن نقيضها المتداول، وفي هذا المعنى يكون البورتريه الذاتي الذي يجرؤ الكاتب على إنجازه لنفسه في سياق متوتر، محتدم، طارئ بالأحرى، محض فعل تصحيحي، أو مقترح اعتراضي لما ينبغي أن يكون عليه وجهه المنذور لأثر العلامة أو وشم الرمز، حتى يتماهى استعاريا مع طينة قلقه، وفرادة كينونته.

بعيدا من كل هذه الفرضيات والاحتمالات، قد لا يكون الأمر سوى أن يساهم الكاتب من طرفه كذات منظور إليها من الآخر -عبر بورتريهات غيرية-، فيشهر بورتريهه الذاتي كبديل منظور إليه من ظله أو شبحه هذه المرة، هو نفسه في آن.

Kyodo News via Getty Images
أوسامو دازاي

هسه، دازي، بوكوفسكي، بلاث، أوكونور

عندما نتأمل البورتريه الذاتي لهرمان هسه الذي أنجزه لنفسه عام 1919، بنظارة صفراء ينعكس لونها الدامغ على تآكل أسنانه، وربطة عنق زرقاء كأنما أصابت عينيه بعدوى الرقرقة، إذ تبدوان مغرورقتبن في كدح وهما تتخضبان بأخضر الحائط الخلفي وليس ما يعتمل فيهما من تأثير الاستغراق أمامه وحسب، هي نفسها ربطة العنق تخضب قميصا أبيض شبه منقشع بخيوط متهدلة كشعر الذرة، وبدلة بنية تتناغم ولون شعره الطفيف، بينما يبدو وجهه حبة لوز. ما يلفت أكثر ليس حفنة هذه التفاصيل الغائرة، بل الضوء الجارح، الكاشف عن هذه الظلال اللامرئية، وهو ضوء قادم من نجوم مجرة أندروميدا، أقرب المجرات الى درب التبانة.

خطورة تلك البورتريهات في أن شفرتها الحادة كفّت عن أن تكون عابرة، واستبقت ظلها الغائر الملازم لوجوه أصحابها

فيما نواقيس خفية تقرعها الرياح في البورتريه الذاتي للكاتب الياباني أوسامو دازاي، كما لو تنذر بغرق وشيك يفشيه زبد النهر في الزرقة الداكنة لكابوس وجهه المنصرف إلى قلقه المستفحل.

Handout
تشارلز بوكوفسكي، بورتريه ذاتي

كذلك تتغول ملامح تشارلز بوكوفسكي في البورتريه الذاتي الذي أنجزه لنفسه، بل تغتبط ألوانه المبهرجة في تجشؤ متعاقب وانشطار ثمل، يكاد يندلق بهيئته النزقة خارج قيد الإطار، إنه يسدد إلينا نظرة سخرية كأنما يمتلك خريطة الحياة السرية الممنوحة إياه توا من سيد سلالات الشمبانزي في أبكر غابات أفريقيا.

صاخبٌ كل ما يوهم بالهدوء في وضعيته شابك اليدين، والدوي وحده تفشيه حدة الخطوط الأشبه بأخاديد تمور بدم مراق على قارعة الليل.

وقس على ذلك فزع التحول وقسوة العزلة في البورتريه الذاتي لسيلفيا بلاث، تقابله الصرامة المشحوذة ضد موسم الأمراض المستشرية في البورتريه الذاتي لفلانيري أوكونور وهي تتحصن بديك الخلنج فزاعة وقربانا في آن.

Alamy Stock Photo
فلانيري أوكونور، بجانب بورتريه ذاتي

توقيعات كاريكاتورية

أما البورتريهات الذاتية الرصاصية لكل من مارك توين وغونتر غراس ومارغريت أتوود وجون أبدايك وهنري ميلر وجون شتاينبك وبولا فاكس وأناييس نين وألن غينسبيرغ... فكأنما تنحو منحى توقيع كاريكاتوري، إمضاء لحالة سوداوية بالقدر الذي تحتمل الجد تحتمل المزحة في الآن ذاته، لكل علامته المستعيرة شكله الذاتي المنزاح، ينوء بثقل اللحظة صوب المعنى ونقيضه، هي في المحصلة تبدو للكثيرين مجرد تخطيطات عابرة، لكن خطورتها في أن شفرتها الحادة كفّت عن أن تكون عابرة، واستبقت ظلها الغائر الملازم لوجوه أصحابها مهما حاولوا التنكر لها.

font change

مقالات ذات صلة