غداة انتخاب نواف سلام رئيسا لمحكمة العدل الدولية في 6 فبراير/شباط 2024 توقع أحد أصدقائه أن تكون عودته إلى لبنان لتولي منصب رئاسة الحكومة مرتبطة بمتغيرات لا في لبنان وحسب بل على مستوى المنطقة انطلاقا من الحل السياسي للقضية الفلسطينية والتحولات على المستوى العالمي والعربي في ما يخص هذه القضية. وهو تذكر كيف أن سلام أخبره في مطلع التسعينات، وتحديدا بعد "مؤتمر مدريد"، أنه ينوي إنشاء مكتب محاماة كبير في بيروت، على الطريقة الأميركية، في ضوء المتغيرات المقبلة على المنطقة، ثم طُويت الفكرة لاحقا بفعل التطورات المعاكسة.
صحيح أن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين حركة "حماس" وإسرائيل ليس الحل السياسي للقضية الفلسطينية وليس من المؤكد أن يمهد الطريق إليه بعدما بات السؤال عن حظوظ هذا الحل وطبيعته وإمكاناته. ولكن المتغيرات التي حصلت في المنطقة خلال الأشهر الماضية، سواء في لبنان أو سوريا، لم تكن متعلقة بلبنان وسوريا وحسب بل بالقضية الفلسطينية أيضا، إذ إن سياسة "وحدة المسار والمصير" التي حكم على أساسها هذان البلدان بالحديد والنار تأسست وتجذرت على خطاب وممارسة يحتكران تفسير القضية الفلسطينية والدفاع عنها. ولم يكن هذا الاحتكار أداة للسيطرة على كل من دمشق وبيروت وحسب، بل كان أيضا يفرض شروطه على الفلسطينيين أنفسهم، في انقسامهم واتفاقهم، على نحو جعل القضية الفلسطينية خاضعة للعبة النفوذ الإقليمية بحيث تحولت إلى جزء من الصراع الإقليمي، وهو ما مكن إسرائيل من ممارسة أقصى العدوانية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية بذريعة أن فصائلهم الفاعلة ضدها جزء من محور الممانعة الذي تقوده إيران خصمها الإقليمي.
بيد أن المتغيرات في كل من سوريا ولبنان، والتي كانت بشكل أو بآخر إحدى النتائج المباشرة للحرب الإسرائيلية في المنطقة، أسقطت هذه المعادلة وأسست لمعادلة مختلفة بحيث إن سقوط نظام آل الأسد في سوريا وموافقة "حزب الله" على اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل والذي يقضي بانسحابه من منطقة جنوب نهر الليطاني على الحدود مع إسرائيل، شكلا فصلا حقيقيا بين الساحات اللبنانية والسورية والفلسطينية بالشكل الذي كان يأخذه الربط بينها. ولكن ذلك لا يعني أنه يمكن إقامة حكم مستقر في كل من لبنان وسوريا من دون إعادة إنتاج هذا الرابط على أسس جديدة قوامها دعم الحقوق الفلسطينية من دون توظيف هذا الدعم في إنتاج آليات الحكم والسيطرة في كل من بيروت ودمشق. ولعل ذلك يحقق استقلالا سياسيا حقيقيا للساحات الثلاث، أي لبنان وسوريا وفلسطين، كضرورة ملزمة لبناء مسار سياسي جديد وسلمي في كل من دمشق وبيروت، ولتمكين الفلسطينيين من بناء صورة واقعية عن قضيتهم وعن الحل السياسي الخاص بها.
لكن هذه المتغيرات الإقليمية لا تكتمل حلقاتها من دون التغيير داخل إسرائيل نفسها، إسرائيل تلك التي كان انتخاب نواف سلام رئيسا لمحكمة العدل الدولية عنوان اشتباك معها، إذ أتى هذا الانتخاب في لحظة فلسيطينية استثنائية عربيا ودوليا، في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. فإذا كان هذا الهجوم قد شكل محطة مفصلية في تاريخ الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، فإن الوحشية الإسرائيلية سرعان ما أخرجت الحرب عن دائرة الفعل ورد الفعل بين "حماس" وإسرائيل، ووضعتها في سياق الصراع التاريخي بين الفلسطينيين وإسرائيل بوصفها حلقة متقدمة من حلقات السعي الإسرائيلي لتقويض حقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها إقامة دولتهم المستقلة.