قرارات مهمة تنتظر سوريا مع دخولها عصرا جديدا

سيكون من الضروري أن يكون الاختيار حكيما وسريعا

أ.ب
أ.ب
صورة ممزقة للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في قاعدة عسكرية في العاصمة دمشق في 26 ديسمبر

قرارات مهمة تنتظر سوريا مع دخولها عصرا جديدا

ثمة أمر مؤكد: لم يكن أحد مستعدا لانهيار نظام الأسد. فالسرعة الخاطفة لتقدم قوات المعارضة فاجأت الجميع، كما فاجأهم رحيل بشار الأسد المباغت إلى المنفى في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. وبعد مرور أسبوعين، رأينا أثناء زيارتنا لدمشق، كيف تغص الشوارع بالاحتفالات، غير أن أجواء من عدم التصديق كانت لا تزال تخيم على الحشود المبتهجة. البعض عاد إلى العاصمة بعد سنوات من الغياب، بينما وطأها آخرون لأول مرة في حياتهم.

وسط هذه الأجواء الاحتفالية، كان ثمة شعور ملموس بالإرهاق والقلق من التحديات القادمة، سواء في وسط الحشود في الساحات أم في القصر الرئاسي، حيث يعمل القادة الذين شنوا الهجوم المصيري ثماني عشرة ساعة يوميا لتحديد مسار العهد الجديد في سوريا.

لقد انهار النظام، بعد أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الصراع المرير، في هجوم خاطف استغرق أحد عشر يومًا فقط. ولا يزال وقع الأحداث يسير بوتيرة مدهشة. غير أن موضوعا واحدا برز بوضوح في مناقشات مجموعة الأزمات مع قادة سوريا الجدد، ومع شخصيات المجتمع المدني في دمشق، وكذلك مع المسؤولين الإقليميين والغربيين ومسؤولي الأمم المتحدة، وهو أن القرارات التي ستتخذ في الأسابيع المقبلة سيكون لها تأثير دائم على النظام السياسي السوري.

أسئلة تتعلق بالإدماج والتشاركية

بعد أيام قليلة من توليها زمام الأمور في دمشق، فإن "هيئة تحرير الشام"، الفصيل الذي قاد العمليات العسكرية التي اطاحت بالنظام، شكلت حكومة تصريف أعمال مؤلفة في معظمها من الشخصيات نفسها التي قادت "حكومة الإنقاذ"، التي كانت تدير محافظة إدلب في شمال غربي البلاد بداعم من "الهيئة". وأعرب كثير من السوريين، ومعهم مسؤولون إقليميون وغربيون، عن قلقهم من أن يكون الاعتماد حصرا على هذه الشخصيات المقربة من "الهيئة" مؤشرا على نية للاستئثار بالسلطة، لا بل حتى فرض حكم إسلامي في جميع أنحاء البلاد.

تريد "هيئة تحرير الشام" أن تتجنب تقسيم المناصب على أسس عرقية ودينية، وهو النظام الذي ينظر إليه كثيرون على أنه قوض الحكم، بينما رسخ الطائفية، في كل من العراق ولبنان المجاورين

قال زعيم "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع (الذي كان يُعرف حتى وقت قريب باسمه الحركي أبو محمد الجولاني)، في حديثه إلى "مجموعة الأزمات الدولية"، إن عمل حكومة تصريف الأعمال أمر مؤقت، وتعيينها لم يكن سوى إجراء اتخذته "الهيئة" لتجنب فراغ واستعادة الخدمات في أسرع وقت ممكن. وقال إنه يعتبر قدرة الحوكمة التي اكتسبتها "الهيئة" و"الإنقاذ" في إدلب، والعلاقات القائمة على الثقة بين المسؤولين هناك، قد قدمت فائدة كبيرة في هذه المرحلة المبكرة المضطربة التي تلت سقوط نظام الأسد. وأقر بأن مقاربة "الهيئة" و"الإنقاذ" في إدلب لا يمكن أن يكون نموذجا لسوريا ككل، نظرا لتنوعها الثقافي والأيديولوجي الكبير. لكنه أكد على أن المنفعة العملية لحكومة تصريف الأعمال، تتفوق على عيوب تجانسها، في هذه الفترة الانتقالية.

رويترز
رئيس القيادة الجديدة في سوريا احمد الشرع متوسطا وزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو ونظيرته الالمانية أنالينا بيربوك في دمشق في 3 ديسمبر

غير أن هذه العيوب غدت واضحة بالفعل. ويشعر كثير من السوريين من جميع التوجهات السياسية بالقلق من أصول "هيئة تحرير الشام"، التي كانت حتى عام 2016 تابعة لتنظيم "القاعدة"، وقبل ذلك لتنظيم "داعش". وهم يرون أن الفسيفساء العرقية والدينية والثقافية لبلادهم لا تتمثل إلا قليلا في حكومة تصريف الأعمال. وكثيرون ممن يقدرون دور "هيئة تحرير الشام" في الإطاحة بالأسد، ونجاحها في تجنب انهيار الأمن والخدمات الحكومية الأساسية منذ ذلك الحين، يشعرون بالقلق أيضا من مؤشرات التجاوز الأيديولوجي. فقد أدلى مسؤولون في حكومة تصريف الأعمال بتعليقات تلمح إلى تقييد الدور السياسي للمرأة، وسارعوا إلى إدخال تغييرات على مناهج التعليم الإسلامي. كما كُشف عن أن وزير العدل المؤقت أشرف في عام 2015 على إعدام امرأتين متهمتين بـ"الفساد والدعارة". وقد أثارت هذه التصريحات والاكتشافات الصادمة انتقادات واسعة النطاق، وهي تقوض التصريحات العلنية لقادة "هيئة تحرير الشام" بالتزامهم بحماية التنوع في سوريا.

ومن المرجح أن يظهر مزيد من الخلافات الأخرى، مع تولي حكومة تصريف الأعمال- التي تشكلت من إدلب ولحكم إدلب- مسؤولية إدارة معظم أنحاء البلاد. وفي إدلب، كان المتشددون الإسلاميون في الغالب هم من ينتقدون "هيئة تحرير الشام" على قراراتها. أما الآن فعلى مسؤولي حكومة تصريف الأعمال الاهتمام بالملاحظات والمخاوف من أطياف أوسع بكثير. وما يزيد من التحدي أن الشرع نفسه، إلى جانب حلقة صغيرة من كبار الشخصيات الموثوقة، تحملوا في السابق قدرا كبيرا من عبء التعامل مع القضايا السياسية الحساسة. وقد شكل هذا الحمل المفرط على القيادة مشكلة عندما كانت "الهيئة" تسيطر على إدلب وحدها، فما بالك بالآن وقد زادت كمية العمل أضعافا مضاعفة.

وينبغي أن يكون تمثيل المجتمع السوري في المؤسسات الانتقالية أكثر مما هو عليه في حكومة تصريف الأعمال بكثير

يقول الدبلوماسيون الأجانب ومسؤولو الأمم المتحدة وقادة "هيئة تحرير الشام" على حد سواء، إن الحل هو الإدماج والشمول : أي أن تكون المؤسسات الانتقالية أكثر تمثيلا للمجتمع السوري مما عليه حكومة تصريف الأعمال بكثير. إلا أن الإدماج مفهوم بسيط إلى حد الخداع. فلا أحد لديه رؤية ملموسة عما قد يعنيه في الممارسة العملية.

تعرف "هيئة تحرير الشام" ما الذي تريد تجنبه، أي تريد أن تتجنب التقسيم الواضح للمناصب على أسس عرقية ودينية، وهو النظام الذي ينظر إليه كثيرون على أنه قوض الحكم، بينما رسخ الطائفية، في كل من العراق ولبنان المجاورين.

كما ينفر كثير من السوريين من النهج الذي اتبعته الإدارة الذاتية في شمال شرقي البلاد، بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إذ تضم هذه الإدارة مجموعة متنوعة من المسؤولين الشكليين، لكنهم لا يتمتعون بسلطة تذكر، بينما تقع السلطة الحقيقية في أيدي كوادر من حزب كردي واحد.

لكي تبدأ "هيئة تحرير الشام" في التعامل ا مع هذا التحدي، بإمكانها أن تتخذ خطوتين فوريتين:

أولاهما، إجراء تغييرات في طاقم حكومة تصريف الأعمال، تضمن أن تتمتع بالكفاءة والخبرة اللازمتين لاتخاذ قرارات سليمة. وأحداث الأسبوعين الماضيين تعكس مدى إلحاح هذه القضية، فمحاولة الاستمرار، حتى خلال هذه الفترة الانتقالية القصيرة، مع هيئة حاكمة ضيقة كهذه، ستؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية. ومن المهم أيضا أن تتجنب حكومة تصريف الأعمال اتخاذ تدابير مثيرة للانقسام في القضايا الثقافية أو الدينية.

ثانيتهما، بإمكان قادة "هيئة تحرير الشام" بناء الثقة مع سوريين مؤثرين وموهوبين من مختلف الأطياف الثقافية والسياسية في البلاد، بمن فيهم من هم في الشتات، ثم التحرك بسرعة لوضعهم في مناصب تمكنهم من المساعدة في تشكيل السياسة.

تتمتع "هيئة تحرير الشام" بخبرة في النصف الأول من هذه المعادلة، ولو على نطاق أصغر، كما يتضح في العلاقات التي أقامتها مع المسيحيين في إدلب مثلا. إلا أن عليها الآن أن تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، عبر إشراك مجموعة من السوريين الأكفاء، في اتخاذ القرارات التي ستحدد معالم المرحلة الانتقالية.

بعد الإطاحة بنظام الأسد بوتيرة مذهلة، تبدو "هيئة تحرير الشام"، وبشكل مفهوم، ميّالة إلى مواصلة العمل بالسرعة ذاتها في رسم معالم المرحلة التالية

جداول زمنية مختلفة لتحديات مختلفة

ولكن ما الذي ينبغي أن يلي هذين التصحيحين للمسار؟ بعد الإطاحة بنظام الأسد بوتيرة مذهلة، تبدو "هيئة تحرير الشام"، وبشكل مفهوم، ميّالة إلى مواصلة العمل بالسرعة ذاتها في رسم معالم المرحلة التالية. وصرّح الشرع لمجموعة الأزمات في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2024 قائلاً: "نحن نسير بسرعة ألف كيلومتر في الساعة"، في إشارة إلى خطط "الهيئة" لعقد مؤتمر حوار وطني يضم ألف مشارك في الأسابيع القادمة. وتنظر "الهيئة" إلى هذا المؤتمر باعتباره منصة لإطلاق عملية انتقال ذات مسارين: الأول حل جناحها العسكري مع بقية الفصائل المسلحة، تمهيدا لدمجها في جيش موحد، والثاني تشكيل لجان تعمل على تعديل الدستور وصياغة الأطر اللازمة للحكم المستقبلي. ومع ذلك، يبرز توتر واضح بين رغبة الهيئة في التحرك بسرعة ، من جهة، ورغبتها في بناء الثقة مع السوريين وكسب الدعم الدولي، من جهة أخرى.

لعل من المفيد لصناع القرار في سوريا وفي الخارج، الذين يدرسون كيفية تسريع عملية الانتقال ومقاربتها، أن يميزوا بين ثلاث مهام رئيسة: دمج فصائل المعارضة السابقة في جيش موحد، وتحديد مصير قوات سوريا الديمقراطية والشمال الشرقي، وإصلاح الحكم بما في ذلك الدستور.

رويترز
سوريون يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق

المهمة الأولى، التي تنطوي على دمج فصائل المعارضة السابقة في جيش واحد، مهمة يبدو التحرك السريع فيها حكيما. فقد تنافست الفصائل المتحالفة مع النظام وفصائل المعارضة على الأراضي والموارد، مما أدى إلى استنزاف فعاليتها العسكرية وتغذية اقتصاد حرب قائم على الاستغلال. وكان للكثير منها رعاة خارجيون. وسوف تحل كارثة بسوريا إذا انحدر نظام ما بعد الأسد إلى مثل هذه الصراعات السابقة. كما ستخسر البلدان الإقليمية الكثير أيضا، إن تكررت حالة عدم الاستقرار التي كانت سائدة زمن الحرب. ولكن كلما يمر الوقت، سوف تبدد النوايا الحسنة التي تتمتع بها "هيئة تحرير الشام" الآن، وتنجذب الجماعات المسلحة نحو ترسيخ نفسها خارج هياكل الدولة.

وإلى جانب دمج فصائل المعارضة السابقة، هناك أيضا مسألة ما الذي ينبغي فعله بما تبقى من الجيش السوري القديم، الذي ذاب معظمه في خضم هجوم المعارضة، بدلا من وقوفه آخر مرة للدفاع عن النظام.

أما المهمة الثانية، وهي إعادة ربط شمال شرقي سوريا بالدولة المركزية، فسوف تتطلب المزيد من الوقت لإجراء مفاوضات منفصلة بين أطراف عدة. فـ"قوات سوريا الديمقراطية" بقيادة الأكراد وإدارتها الذاتية، تحكم سكانا متنوعين وتسيطر على معظم النفط والغاز في سوريا. وتهدف السلطات الجديدة في دمشق إلى استعادة سيطرة الدولة على كامل أنحاء الشمال الشرقي في الأشهر المقبلة.

رغم الهدوء النسبي الذي يخيم على دمشق، تعيش المناطق الساحلية والوسطى في سوريا على وقع توتر متصاعد، حيث تطفو على السطح المظاهر الطائفية للانقسامات السياسية التي أفرزتها الحرب بأبشع صورها

وتنشر الولايات المتحدة مئات من قواتها في تلك المنطقة، كجزء من قوات التحالف التي تسعى إلى القضاء على "داعش"، وكذلك لحماية "قوات سوريا الديمقراطية"، التي كانت لسنوات شريكها السوري الرئيس. ولكن في الوقت نفسه، لا تزال "قوات سوريا الديمقراطية" مرتبطة ارتباطا عميقا بـ"حزب العمال الكردستاني"، الذي يخوض منذ عقود تمردا في تركيا. وترعى أنقرة الفصائل المسلحة السورية التي تقاتل "قوات سوريا الديمقراطية" منذ عام 2018. كما أنها قتلت الكثير من كوادر "قوات سوريا الديمقراطية"، بوصفهم جزءا من "حزب العمال الكردستاني"، الذي تصنفه (إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) كمنظمة إرهابية. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024، أدى هجوم مدعوم من تركيا إلى طرد "قوات سوريا الديمقراطية" إلى خارج منبج، المدينة الواقعة في شمال شرقي سوريا، بواسطة أميركية. إلا أن هذه الوساطة الأميركية حالت أيضا دون اتخاذ خطوة مماثلة تجاه مدينة كوباني ذات الأغلبية الكردية، أقله في الوقت الراهن.

ومع أن نهاية هذه الملحمة تلوح في الأفق، فلا يزال ممكنا أن تسوء الأمور. فقد انخرطت أنقرة في مبادرة سياسية لإنهاء الصراع مع "حزب العمال الكردستاني". ومع أن الفرصة في بدايتها، فإنها مهمة، فقد أبدى الجانبان استعدادهما لوضع القضايا الكبرى على الطاولة، بما في ذلك إنهاء تمرد "حزب العمال الكردستاني" وتوسيع نطاق حقوق الأكراد في تركيا.

وفي سوريا المجاورة لتركيا، تحظى أنقرة بفرصة تحقق فيها بالمفاوضات ما هددت بتحقيقه بالقوة في أحيان كثيرة، أي منع المسلحين الأكراد من استخدام الشمال الشرقي من سوريا، كقاعدة خلفية لشن هجمات على الأراضي التركية. وإذا تقدم الحوار إلى الأمام، فسوف ينفتح المجال أيضا أمام "قوات سوريا الديمقراطية" لإبرام اتفاق مع دمشق بشأن الاندماج ضمن الدولة السورية. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن أي صدام بين تركيا وحلفائها من جهة، و"حزب العمال الكردستاني" أو "قوات سوريا الديمقراطية" من جهة أخرى، قد يعرقل المحادثات ويخرجها عن مسارها. كما يمكن أن يعرقلها أي تحركات متسرعة من أطراف أخرى، مثل ذلك القرار الأميركي المفاجئ بسحب القوات من الشمال الشرقي أو محاولة دمشق الاستيلاء على أراض من "قوات سوريا الديمقراطية".

وسيكون على كل الأطراف المعنية أن تتحلي بالصبر إذا كانت تريد للحوار أن يسفر عن حل سلمي.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، ستكون الوتيرة المدروسة حاسمة أيضا بالنسبة للمهمة الانتقالية الثالثة المتمثلة بإصلاح الحكم. فبناء الثقة ضرورة حتمية لتمكين القيادة المؤقتة وغيرها من السوريين المؤثرين من معالجة القضايا المعقدة والمثيرة للانقسام. وقد أرجأ الشرع موعد مؤتمر الحوار الوطني، الذي كان مقررا بداية في أوائل يناير/كانون الثاني. ولا ضير أيضا من تأجيله لفترة أطول، بهدف توفير المزيد من الوقت للتحضيرات اللازمة لضمان المشاركة المتنوعة والهادفة، فالأمر الأكثر أهمية هو أن تحظى لجان المتابعة المكلفة ببلورة الإصلاحات بالوقت الكافي لدمج سوريين مؤهلين من خلفيات متنوعة ومشارب متعددة وتوفير الفضاء الضروري للتأكيد على الاستماع إلى وجهات نظرهم حول القضايا الثقافية والدينية الحساسة.

ومن المفيد أيضا التنسيق مع الأمم المتحدة كي تلعب دورا مباشرا في هذه العملية. حيث يمكن لمكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا أن يعمل مع دمشق للمساعدة في ضمان أن تكون لجان المتابعة مؤهلة ومتنوعة ومدعومة من قبل ذوي الخبرة الفنية في هذا المجال. كما يمكن للمكتب دعم السلطات في توضيح الإطار الانتقالي، من أجل تهدئة المخاوف بين السوريين والجهات الخارجية من تصرفات تعسفية. والأمر الأكثر أهمية هو أنه يمكن للأمم المتحدة أن تعمل أيضا كحلقة وصل بين السلطات الجديدة والدول الغربية والإقليمية التي أوضحت أنها لن تسعى إلى تخفيف العقوبات أو تقديم مساعدات لإعادة الإعمار أو السماح بالوصول إلى المساعدة من المؤسسات المالية الدولية إلا إذا تحقق انتقال سياسي شامل وذو مشاركة واسعة ومتنوعة. والأمم المتحدة هي الأقدر على طمأنة هذه الدول بأن مثل هذا الانتقال يتقدم على مسار إيجابي، وهو الأمر الذي سوف يمنحها الغطاء السياسي الذي تحتاجه للبدء بمساعدة دمشق بجدية.

بين العدالة والاقتصاص

على الرغم من الهدوء النسبي الذي يخيم على العاصمة، تعيش المناطق الساحلية والوسطى في سوريا على وقع توتر متصاعد، حيث تطفو على السطح المظاهر الطائفية للانقسامات السياسية التي أفرزتها الحرب بأبشع صورها. فمن جانب، لا ريب في أن نظام الأسد خلّف إرثا ثقيلا من الضغينة الطائفية، نتيجة سياساته القائمة على العقاب الجماعي واعتماده على عناصر أمنية وعسكرية تنتمي  إلى الأقلية العلوية أكثر من غيرها، مدعومة بميليشيات شيعية أجنبية. ولكن تحول المعارضة المسلحة إلى التشدد الإسلامي ، خاصة بين عامي 2012 و2016، تسبب بدوره بتفاقم المشكلة، وهو الأمر الذي وفر مادة دسمة للنظام لإثارة الخوف الطائفي. غير أن المجتمعات التي نظر إليها النظام على أنها مؤيدة للمعارضة أو اعتبرها الحاضنة الشعبية لها تعرضت لأكثر أنواع الوحشية الممنهجة في الصراع، حيث قُدِّر عدد القتلى المدنيين بمئات الآلاف.

أ.ف.ب
صور وملصقات للمفقودين معلقة على نصب تذكاري في وسط ساحة المرجة في دمشق في 26 ديسمبر

 

بعد أن أصبحت "هيئة تحرير الشام" هي القوة الدافعة للانتقال السياسي في سوريا، فإن تصنيفها "جماعة إرهابية" يهدد بإيذاء الجميع في البلاد من خلال منع الاستثمار والمشاركة الخارجية التي تحتاج إليها سوريا 

وبالنتيجة، تتعالى المطالبات بين السوريين بمعاقبة مجرمي الحرب وسط مخاوف- ولاسيما بين العلويين- من أن تدفع الفئات التي استغلها النظام كوقود لحروبه ثمن الأهوال التي ارتكبها كبار المسؤولين الذين فروا من البلاد. ويبدو الاستقطاب الحاد واضحا بالفعل في الحوارات السائدة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصر البعض على الانتقام السريع والواسع، ويخشى آخرون أن تفتح الدعوات إلى العدالة الانتقالية الباب على مصراعيه للعنف العشوائي. وتعمل الحالات الموثقة من الاقتصاص الطائفي الصريح والمعاملة المهينة على تأجيج هذه المخاوف وتوفير تربة خصبة لحملات التضليل التي تسعى إلى تصوير النظام السوري الجديد على أنه تهديد وجودي للأقليات. ووفقا لمعظم الروايات، فقد قامت جماعات مسلحةوأفراد خارج "هيئة تحرير الشام"  بارتكاب عمليات قتل واختطاف ونهب متكررة، مستهدفة أفرادا من الأقليات. وكثيرا ما كانت قوات "هيئة تحرير الشام" عاجزة عن منع هذه الأعمال، ما يفتح الباب واسعا أمام خطر قيام السكان المحليين بتولي الأمور بأيديهم.

وسيبقى التعامل مع هذه الضغوط المتزاحمة تحديا شائكا للسلطات الجديدة في البلاد، ولكن ثمة خطوات فورية يمكن لهذه السلطات أن تتخذها للحد من التوتر، فيمكنها أولا اعتماد نهج مؤسسي شفاف للعدالة الانتقالية، يشمل تحديد هوية المعتقلين وأسباب اعتقالهم وفي أي محاكم سيخضع المتهمون للمحاكمة.

ثانيا، يمكنها التصرف بشكل أكثر حزما لوقف عنف الجماعات المسلحة ومعاقبة أي انتهاكات تسجَّل.

كما أن دمج  فصائل المعارضة السابقة في القوات الموحدة وتوضيح أن الدولة وحدها هي المخولة بملاحقة المجرمين سوف يعزز هذه الجهود.

ثالثا، يمكنها تعميق التواصل مع الوجهاء المحليين للحصول على إرشادات حول التهديدات أو الاحتياجات الخاصة بمناطق معينة، إلى جانب البدء في تنويع مجموعات التجنيد لقوات الأمن المحلية.

رابعا، يمكنها توسيع نطاق العفو المعروض بالفعل على الجنود العاديين من خلال تنظيم عمليات مصالحة مع كبار الضباط من عهد الأسد الذين لم يتورطوا في جرائم شنيعة. وخلال الحرب، أظهر قادة "هيئة تحرير الشام" موهبتهم المميزة في التوصل إلى تفاهمات مع الأعداء السابقين. إن القيام بالشيء نفسه مع أعضاء محددين من جيش نظام الأسد سوف يعمل على تهدئة المخاوف ويساعد على الحد من خطر التمرد الذي قد يتبناه عناصر النظام السابق.

التصنيفات الإرهابية

فرضت الولايات المتحدة الأميركية ومجلس الأمن الدولي والدول الأوروبية عقوبات على "هيئة تحرير الشام" بسبب انتمائها السابق إلى تنظيم "القاعدة"، بموجب سلطات مختلفة لمكافحة الإرهاب. وكان تصنيف واشنطن للمجموعة كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO) هو الأكثر خطورة من بين تلك التصنيفات. ولأن هذا التصنيف يجرّم تقديم "الدعم المادي"- وهو مصطلح تقني واسع التعريف يمكن أن يغطي كل شيء من فنجان قهوة إلى تقديم الخبراء لأي نوع من المشورة- فإن وضع "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية أجنبية يجعلها مشعة قانونيا، ما يقيد بشكل قاس قدرة الجهات الفاعلة الخارجية على العمل معها. أما اليوم وبعد أن أصبحت "هيئة تحرير الشام" هي القوة الدافعة للانتقال السياسي في سوريا، فإن هذا التصنيف وغيره من التصنيفات الإرهابية يهدد بإيذاء الجميع في البلاد من خلال منع الاستثمار والمشاركة الخارجية التي تحتاج إليها سوريا بشدة.

وقد عملت "هيئة تحرير الشام" بالفعل على تصحيح العوامل الأساسية التي أفضت إلى تلك التصنيفات، حيث فرضت الولايات المتحدة أول تلك التصنيفات في عام 2012، عندما كانت المجموعة تعمل تحت اسم "جبهة النصرة". فقد انفصلت "الهيئة" عن "داعش" في عام 2013، ثم عن "القاعدة" في عام 2016، ثم قاتلت وفككت فروع كلتا المنظمتين في إدلب. ومع رحيل المتشددين أو طردهم، غيرت "هيئة تحرير الشام" سلوكها أيضا في ساحة المعركة (من خلال وقف القصف في المناطق المدنية على سبيل المثال) وفي أسلوب الحكم (من خلال حماية الأقليات في المناطق الخاضعة لسيطرتها وإعادة الممتلكات التي استولى عليها المتمردون تدريجيا أثناء الحرب). إن أياً مما سبق لا يعني أن "هيئة تحرير الشام" أصبحت ليبرالية أو ديمقراطية. لكن يبدو أنها قطعت العلاقات وتوقفت عن الأعمال التي كانت السبب في تصنيفها كمجموعة إرهابية. ولهذا التاريخ أهمية خاصة، فهو يعني أن صناع السياسات الذين يفكرون في إلغاء التصنيفات الإرهابية يمكنهم الحكم على سجل طويل الأمد، بالإضافة إلى الخطاب التصالحي الحالي الذي تتبناه "هيئة تحرير الشام".

ينبغي أن تكون العقوبات وسيلة لتشجيع تغيير السلوك، وليست مجرد حكم بالسجن المؤبد دون إمكانية الإفراج المشروط

يتفق صناع السياسات على أن العقوبات ينبغي أن تكون وسيلة لتشجيع تغيير السلوك، وليست حكما بالسجن مدى الحياة دون إمكانية للإفراج المشروط. في أوائل عام 2021، نشرت مجموعة الأزمات الدولية "Crisis Group" مقالا يوضح آلية لوضع هذا المنطق موضع التنفيذ، من خلال تحديد المعايير التي، طالما التزمت بها الجهة المعنية، ويمكن أن تؤدي إلى قيام الولايات المتحدة وغيرها بإلغاء تصنيفات الإرهاب بشكل مشروط. وهذه الأفكار، التي لم تُعتمد بشكل رسمي، أصبحت أكثر أهمية. 

ويمكن للولايات المتحدة أن تقود الطريق. فإدارة ترمب القادمة قادرة على أن توضح بالتفصيل ما يتعين على "هيئة تحرير الشام" وقادتها القيام به لإلغاء تصنيفات الإرهاب الأميركية، ثم تقييم ما إذا كانت قد امتثلت لهذه الطلبات. وينبغي للمعايير أن تركز على النشاط الإرهابي، مع ترك المخاوف الأخرى جانبا (مثل السلوك الاستبدادي والتشاركية في الانتقال السياسي). ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستولي اهتماما خاصا لابتعاد "الهيئة" عن استخدام العنف ضد المدنيين وارتباطاتها بالجماعات الإرهابية الدولية، وفي الوقت نفسه منعها استخدام الأراضي السورية في العمليات المسلحة العابرة للحدود الوطنية. وإذا كانت المصادر المفتوحة تشكل دليلا، فإن "هيئة تحرير الشام" قد استوفت بالفعل هذه المعايير إلى حد كبير.

وللمضي قدما، يمكن للمسؤولين الأميركيين أيضا السعي للحصول على التزامات مشددة من قادة "هيئة تحرير الشام" بأنها سوف تتعهد بامتثال المقاتلين الأجانب والفصائل التي قاتلت إلى جانبها أو تحالفت معها،  وباستستخدام سلطتها لمنع الأعمال الانتقامية أو أي شكل آخر من أشكال العنف ضد المدنيين؛ وأنها ستواصل محاربة "داعش". وإذا لم تفِ "هيئة تحرير الشام" بهذه الالتزامات، يمكن لواشنطن إعادة فرض التصنيفات الملغاة في أي وقت ما دامت المتطلبات القانونية متحققة.

التفكير في العقوبات الغربية

تحظى العواصم الغربية بمصدرين رئيسين آخرين للضغط على السلطات السورية الجديدة، وهما: العقوبات غير المرتبطة بالإرهاب والتي ما زالت تضيق الخناق على اقتصاد البلاد. وخيار تقديم الدعم لإعادة إعمار سوريا. ولدفع السلطات الجديدة نحو الإصلاح مع الحد من الأضرار الاقتصادية غير المقصودة، لا بد للدول الغربية من التمييز بين هاتين الرافعتين وتحديد المبادئ السياسية لكل منهما.

أولا، يجب على الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية تقديم إعفاء سريع للعقوبات المفروضة على نظام الأسد. فمن غير المعقول مطالبة المجتمع السوري بتقديم المزيد من التضحيات وتحمل العواقب الاقتصادية الهائلة لجرائم النظام السابق، كما يتحتم على صناع القرار أن يعملوا بالسرعة القصوى لتنفيذ هذا المبدأ. ولكن نظرا للتعقيد التقني والسياسي للعقوبات، يمكن للحكومات كممارسة عملية على أرض الواقع أن تسعى إلى رفع تلك العقوبات على مراحل. وتشكل التدابير الفورية التي تقدم الإغاثة خطوة إيجابية مهمة، كتلك التي اتخذتها الولايات المتحدة في 6 يناير/كانون الثاني، عندما أقرت ترخيصا عاما لمدة ستة أشهر يسمح بالتعاملات مع الحكومة السورية وقطاع الطاقة، وينبغي لإدارة ترمب أن توفر المزيد من الإغاثة الفورية من خلال إصدار تراخيص إضافية لقطاعات مهمة أخرى، مثل الخدمات المصرفية، بالإضافة إلى تمديد الترخيص العام الحالي إلى أجل غير مسمى. ويجب على الدول الأوروبية أن تحذو حذو الولايات المتحدة. غير أن مثل هذه التدابير الجزئية لن تقلل من التداعيات الاقتصادية للعقوبات إلا بشكل هامشي. ولتمكين حجم الاستثمار الذي تحتاجه سوريا، ينبغي لهذه البلدان أن تعمل بشكل مطرد على رفع كامل العقوبات بحلول نهاية عام 2025، وتحديد معايير واضحة وواقعية يتعين على قادة سوريا الجدد تلبيتها كشروط. إن الإجراءات التي تتخذها السلطات السورية الجديدة لإثبات أنها تتجنب القمع العنيف، وتتخذ خطوات لحماية الحقوق المتساوية للسوريين بمختلف أطيافهم، وأنها لا تدعم الأنشطة التي تزعزع الاستقرار في بلدان أخرى، قد تكون في صميم المعايير التي تضعها الحكومات الغربية. وفي الوقت الذي ترفع فيه العقوبات، يمكن لتلك الدول الحفاظ على نفوذها من خلال توضيح استعدادها لوقف العملية، أو فرض عقوبات جديدة، في حال أخلّت دمشق بالتزاماتها.

ثانيا، يجب على الدول الغربية أن تستخدم مساعدات إعادة الإعمار للتشجيع على الالتزام المستمر بالحكم التشاركي غير الإقصائي وإفساح المجال أمام المجتمع المدني. وينبغي لها أن تبدأ بتقديم مثل هذا الدعم بمجرد تشكيل هيئات انتقالية تمثل المجتمع السوري بمختلف أطيافه. بيد أن تقييم التشاركية وعدم الإقصاء قد يكون أمرا إشكاليا، وخاصة بالنسبة للبيروقراطيات الأجنبية، وسوف يصبح الأمر شائكا أكثر بمجرد أن تتجاوز سوريا المعالم الواضحة للفترة الانتقالية. إن أفضل المدافعين عن التشاركية والإدماج وأكثرهم دراية سوف ينهضون من بين صفوف المجتمع المدني النابض بالحياة الذي طوره السوريون داخل وخارج البلاد، ويتعين على الغرب أن يربط دعمه المستقبلي للمؤسسات الحاكمة بما إذا كانت السلطات تحترم حريات التعبير وتكوين الجمعيات اللازمة لتمكين المجتمع المدني من الاضطلاع بهذه المهمة.

ومن الجدير ذكره أن الناشطين السوريين منخرطون بعمق في المسائل الجوهرية المتعلقة بالحكم، وقد نجحوا بالفعل في الوقوف بشكل فعال بوجه الأخطاء التي ارتكبتها حكومة تصريف الأعمال. فعلى سبيل المثال، دفعت أصواتهم التي علت بشأن التغييرات المقترحة على مناهج التعليم لتصبح ذات طابع إسلامي إلى توضيحات سريعة من قبل وزارة التعليم المؤقتة واعتراف من قبل قادة "هيئة تحرير الشام" بأن ثمة حاجة إلى التماس تغييرات بين الموظفين لتجنب المزيد من الحوادث المماثلة.

وباختصار، لا ينبغي للحكومات الغربية أن تتدخل في الجدالات الدائرة بين السوريين، بل ينبغي لها أن تستخدم نفوذها المالي لمساعدة المجتمع المدني على لعب دور حيوي في بناء سوريا التي توفر لكافة أبناء شعبها الحقوق والفرص والحماية التي حرموا منها لفترة طويلة.

المقال نشر في موقع "مجموعة الأزمات الدولية"، وينشر في "المجلة" باللغة العربية بإذن مسبق.

font change

مقالات ذات صلة