الفرنسية دلفين مينوي... "روائية" بلغة التقارير الصحافية

تركيا أردوغان ووقائع ما بعد الانقلاب الفاشل

الفرنسية دلفين مينوي... "روائية" بلغة التقارير الصحافية

تكتب الصحافية التركية دلفين مينوي روايتها "أبجدية الصمت" بناء على معرفتها واستقصاءاتها وتحقيقاتها الصحافية الموسعة عن تركيا في حقبة حكم حزب "العدالة والتنمية". وهو حزب إسلامي معتدل وملتزم علمانية الدولة التركية بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان الساعي إلى استدخال توجهات حزبه الاجتماعية والسياسية في النظام السياسي التركي على نحو هادئ وبطيء.

أما مينوي فتتوسل الفن الروائي، تسخِّره في كتابة صحافية تقريرية، لما تعتبر أنه يكشف عن الممارسات السياسية والإدارية والأمنية والاجتماعية والدستورية الجائرة لحزب "العدالة والتنمية" وزعيمه منذ توليه حكم تركيا في العام 2003. في هذا المعنى تبدو "أبجدية الصمت" عملا كتابيا صحافيا موسعا يستدخل في نسيجه تجربة ومعاناة شخصيتين تركيتين في إسطنبول، ليتناول أوضاع تركيا السياسية من وجهة نظر ومعايير ثقافية غربية مناهضة لتوجهات الحزب التركي الحاكم وزعيمه الكاريزمي أردوغان، أكثر مما هو عمل روائي.

"أبجدية الصمت" هو الكتاب السابع لمينوي. وصدر العام 2023 بالفرنسية في باريس. وترجمه إلى العربية أدونيس سالم، وأصدرته "نوفل - هاشيت أنطوان" في سبتمبر/ أيلول 2024 ببيروت.

ولدت الصحافية والكاتبة دلفين مينوي في العام 1974 في فرنسا، من أب إيراني وأم فرنسية. مارست العمل الصحافي سنوات في إيران وبيروت والقاهرة، قبل انتقالها إلى إسطنبول، حيث تعمل اليوم مراسلة خاصة لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية. وهذا حسب التعريف بها على الغلاف الخلفي لروايتها المذكورة. ويرد أيضا أن في رصيدها الكثير من الكتب، وبعضها تُرجم من الفرنسية إلى أكثر من 30 لغة، منها العربية.

مبالغات دعائية

وفي تعريف الناشر أن الرواية "تروي قصة أولئك الذين تجرأوا على الإيمان بالديمقراطية ووجدوا أنفسهم تحت رحمة دولة لم يشهدوا لعنفها مثيلا. والرواية قوية ومؤثرة وواقعية بشكل مذهل". وتستعمل الكاتبة كلمة أو مصطلح دولة بدل سلطة على طريقة من يسمون إعلاميين في لبنان، وهم غالبا تلفزيونيون يختتمون تعليقاتهم على أي حادثة أو مشكلة يتابعونها في بلدهم، من الحفر في الشوارع إلى تراكم النفايات...، بالتساؤل: أين الدولة؟

تسخّر مينوي الفن الروائي في كتابة صحافية تقريرية، لما تعتبر أنه يكشف عن الممارسات السياسية والإدارية والأمنية والاجتماعية والدستورية الجائرة لحزب "العدالة والتنمية"

وإذا كان لا مثيل لعنف السلطة التركية في حقبة زعامة أردوغان، فبماذا إذن يمكن أن نصف العنف في سوريا البعث والأسد، وعراق البعث وصدام حسين والاحتلال الأميركي وما استتبعه من حروب أهلية، وفي لبنان الحروب الأهلية والإقليمية، منذ سبعينات القرن العشرين حتى اليوم؟ وكيف نصف الترويع الإسرائيلي لفلسطينيي الضفة الغربية، والإبادة في قطاع غزة؟

ANDREW CABALLERO-REYNOLDS / POOL / AFP
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام صورة لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك

نعلم أن تركيا عاشت انقلابات عسكرية متتالية منذ ستينات القرن العشرين، حتى استقر حكمها أخيرا بقيادة "العدالة والتنمية" بزعامة أردوغان الذي أسس تركيا جديدة. وعلى لسان الشخصية الروائية الرئيسة في "أبجدية الصمت"، تذكر الراوية مينوي إصلاحات أردوغان في بداية حكمه منذ العام 2003. فتصفه بـ"رجل الشعب، وصوت المهمشين والمحرومين". وهو من أقدم على "إلغاء عقوبة الإعدام، والحد من سيطرة الجيش على المنظومة السياسية، ومحاربة الفساد"، إلى جانب "الوعد بتحقيق طموحات تركيا الواقعة على حدود القارة الأوروبية التي تستهوي الأتراك: بناء الجسور والمساكن اللائقة وشق الطرق السريعة وتطوير النقل المشترك(...). وهذا بمقدار ما كان أردوغان يطور سياسته الإقليمية الجديدة التي حملت عنوان: صفر مشاكل مع الجيران".

JOEL SAGET / AFP
الكاتبة والصحافية الفرنسية دلفين مينوي

تقارير صحافية

لا تخلو أية صفحة من الرواية من استدعاء مثل هذا النوع من التقارير الصحافية السياسية التي تمتهنها وتجيدها مينوي. وهي على الأرجح تشكل نصف مادة الرواية الكتابية. أما نصفها الآخر فكتابة درامية مدارها شخصيتا الرواية الأساسيتان: المعتقل والسجين غوكتاي وزوجته إيلا، المناهضان لحكم أردوغان و"العدالة والتنمية". وفي الصفحات الأولى من "أبجدية الصمت" تكتمل صورتا هاتين الشخصيتين أو بطلي الرواية، اكتمالا تاما وناجزا:

  • غوكتاي (42 عاما) المثقف التركي وأستاذ التاريخ في جامعة البوسفور في اسطنبول. وهو علماني وغربي الثقافة (شأن مينوي)، ومناصر لحرية الكرد الأتراك ضد الاضطهاد والتمييز العرقيين والسياسيين والاجتماعيين والثقافيين اللغويين اللذين يتعرضون لهما في تركيا الحديثة أو المعاصرة. وغوكتاي معارض في جمعيات ودوائر المجتمع المدني والمثقفين الأتراك لسياسات "العدالة والتنمية" الحاكم. وهو وزوجته ممن تسميهم الكاتبة "الأتراك البيض، من أبناء جيلهما (مثل الروائي أورهان باموك صاحب نوبل للآداب) البورجوازي الغربي الهوى، الذي يعتبر أن أي غطاء للرأس رجوع إلى القرون الوسطى". واعتقلت السلطات التركية غوكتاي من منزله في إسطنبول نهار الجمعة 15 يناير/ كانون الثاني 2016، لأنه وقع عريضة تطالب بـ"السلام" وحرية الكرد الأتراك. وهذا ما نعرفه في الصفحات الأولى من الرواية التي تروي فصول حياته في السجن حتى الإفراج عنه في 26 يوليو/ تموز 2019، بعد 4 أسابيع من فوز المعارضة التركية القومية والعلمانية بالانتخابات البلدية في أنقرة وأزمير وأضنة وأنطاليا... وهذا ما نقرأه في الصفحات الأخيرة من "أبجدية الصمت".

MUSTAFA OZER / AFP
كردي تركي يحمل علم حزب العمال الكردستاني

  • الشخصية الثانية الرئيسة الموازية للأولى في "أبجدية الصمت"، هي زوجة غوكتاي، إيلا، شبيهته في تكوينها الاجتماعي والثقافي. وهي مثله تعمل مدرسة جامعية لآداب اللغة الفرنسية في إسطنبول. وفيما يقبع غوكتاي في السجن ويضرب عن الطعام ويعاني من تدني قدرته البدنية والنفسية، تعيش زوجته إيلا صنوفا من الهواجس والاكتئابات المريرة، هي وطفلتها الصغيرة دنيز. وهذا قبل أن تخرج من العزلة والصمت والاكتئاب بمساعدة أحد طلابها المناضلين في حملات الاحتجاج على اضطهاد العلمانيين والليبيراليين وحرمانهم من وظائفهم واعتقالهم وسجنهم من قبل سلطات "العدالة والتنمية" الحاكمة.

لا تخلو أية صفحة من الرواية من استدعاء مثل هذا النوع من التقارير الصحافية السياسية التي تمتهنها وتجيدها مينوي

وتروي مينوي بلغة التقارير والتحقيقات الصحافية وقائع الانقلاب العسكري الفاشل على "العدالة والتنمية" وأردوغان في 15 يوليو/ تموز 2016، بدعم من جماعات الإسلام الصوفي المحدث التي تصدّرها الداعية الراحل فتح الله غولن الذي كان حليف أردوغان وحزبه حتى العام 2013، ونشبت بينهما خلافات على خلفية تهم متبادلة بالفساد. وكان ذلك الانقلاب، حسب مينوي، ذريعة لإقدام أردوغان على حملة تطهير المؤسسات الرسمية التركية، الإدارية والعسكرية والتعليمية، ليس من جماعة غولن فحسب، بل من العلمانيين وأصحاب الميول الثقافية الحديثة. وهذا إضافة إلى تراجعه عن الخطوات السابقة التي أتاحت للكرد الأتراك بعضا من الحقوق المدنية والثقافية، وإنشاء مجالس محلية والانخراط في الحياة السياسية وتشكيل جمعيات. حدث ذلك في العام 2014، لكنه سرعان ما انتكس وأدى إلى حملة قمع واسعة للكرد في جنوب شرق تركيا، وإلى سجن الوجه السياسي الكردي البارز صلاح الدين دمرتاش الذي شارك في تأسيس "حزب الشعوب الديمقراطي"، ونال حزبه 80 مقعدا في البرلمان التركي في العام 2015.

MUSTAFA OZER / AFP
متظاهرون في إسطنبول يرفعون لافتات تطالب بمحاكمة قادة الانقلابات العسكرية

السياسة تجتاح الرواية

وفي سياق هذا السرد السياسي، تُدخل مينوي سردها الروائي الدرامي على لساني بطلي روايتها. وفيما كانت إيلا تقرأ رسائل زوجها غوكتاي لها عن معاناته الرهيبة في السجن، تروي مينوي أن إيلا "تذكرت ما قيل لها عن المعارض الكردي دمرتاش الذي يصرّ على كتابة قصص قصيرة من سجنه في أدرنة، على ضوء الشمعة: حول جرائم الشرف، عمل الأطفال، والمنفى والحرب. وكان المحامون يهرّبون تلك النصوص إلى خارج السجن. وتذكرت كذلك لوحات الفنانة التجريدية الشابة زهرة دوغان، التي رسمتها بفراشٍ مجدولة من شعر رفاقها المسجونين معها في سجن ديار بكر".

JOEL SAGET / AFP
الكاتبة والصحافية الفرنسية دلفين مينوي

في سياق آخر، يستعيد غوكتاي في سجنه ذكريات طفولته عن والده الجنرال في الجيش التركي، الذي سمع غوكتاي الطفل أمه تروي وهي نائمة، أي في المنام، واقعة مقتله في ديسمبر/ كانون الأول 1979 في ماردين. كانت الأم تتمتم في منامها "ماردين ماردين"، ليفهم طفلها من تمتماتها أن والده الجنرال قُتل هناك بثلاث رصاصات أصابت رأسه، وأُطلقت عليه من كمين نصبته له مجموعة كردية تدعو إلى انفصال كردستان عن الدولة التركية.

Gabriel BOUYS / AFP
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

على هذا النحو تمزج مينوي الكتابة الروائية الدرامية بالتقارير والمتابعات السياسية للأوضاع التركية، لتظل الرواية أسيرة عملها الصحافي، ولتظل الدراما الروائية تصدر عن الحوادث السياسية. فغوكتاي الطفل الذي لوّعه مقتل والده على يد الانفصاليين الكرد، يصير في شبابه ناشطا مدافعا عن حقوق الكرد المدنية والسياسية والثقافية، ويقاسي عذابات السجن والطرد من وظيفته هو وزوجته إيلا، بسبب ذلك.

يبيّن هذا الأسلوب في السرد أن الكاتبة تستعير أو تستحضر شخصيات تفترض أنها روائية، كي تعبّر هي عن أفكارها ورؤيتها الخاصة

وتتوسع رواية "أبجدية الصمت" في استدخال تقاريرها وتحقيقاتها عن الأوضاع السياسية التركية على حساب السرد الروائي. وعوالم شخصياتها الروائية، مصنوعة أصلا من مواد استطلاعاتها الصحافية، وليس من منظور الفن الروائي الذي تجتاحه رؤيتها السياسية للحوادث التركية العامة. أي أن مادة روايتها الأساسية جاهزة لديها قبل شروعها في كتابة الرواية. وهي حصيلة متابعاتها المهنية الصحافية في تركيا واحتكاكها ببعض معارضي حزب "العدالة والتنمية" وزعيمه أردوغان. ثم إنها تنقل الحوادث من وجهة نظر هؤلاء المعارضين، بل من وجهة نظرها هي المتشددة في ميلها إلى الثقافة السياسية الليبيرالية الغربية التي تسقطها إسقاطا خارجيا على الواقع التركي وعلى عملها الروائي.

استعارة إيرانية

ولاستدخال تجربتها وذاكرتها الإيرانيتين في روايتها عن تركيا، تروي أن غوكتاي وإيلا قررا تعلم اللغة الفارسية، فقرآ في قاموس فارسي عبارة "الكذب المبرَّر" الذي يصف ما تسميه الروائية "السلوك المزدوج على الطريقة الإيرانية". ومن مظاهره: "الفساتين تكشف عن ظهور النساء في المنازل، بينما يستر الحجاب أجسامهن في الشارع". وذلك مذ "سيطر رجال الدين على الحكم في طهران، ليصير الكذب رياضة وطنية" إيرانية. وهذا ما يحمل إيلا على التساؤل "عمّ إذا كان الأتراك سينتهي بهم الأمر كالإيرانيين. أي رهائن دولة إسلامية تضاعف المحظورات: حظر التفكير، حظر الكحول، حظر العناق؟". ويبيّن هذا الأسلوب في السرد أن الكاتبة تستعير أو تستحضر شخصيات تفترض أنها روائية، كي تعبّر هي عن أفكارها ورؤيتها الخاصة.

Shutterstock
جامعة بوغازيتشي، إسطنبول

والحق أن ليس من صفحة واحدة من "أبجدية الصمت" تخلو من مثل هذا الإسقاط الخارجي على الشخصيات الروائية التي تستعمل كذريعة لسرد ما تريده الكاتبة من معلومات وأفكار وحوادث حصلتها من عملها الصحافي في إسطنبول.

لكنها شاءت أن تنهي روايتها نهاية سعيدة، بعد خروج غوكتاي من السجن، "ضاع رنين الكؤوس وسط قهقهات الحاضرين" في منزله الزوجي احتفالا بحريته. وهو "جلس وسط غرفة الاستقبال محاطا بضيوفه، وراح يتسلى بإشباع فضولهم بقصص من السجن".

أما ذلك الشاب الكردي التركي أزاد - وهو أحد طلاب إيلا الجامعيين، وساعدها في الخروج من عزلتها للمشاركة في الأنشطة النضالية ضد القمع أثناء سجن زوجها - فيكتب لها رسالة يبلغها فيها أنه فكر في الهجرة السرية بقارب يحمله إلى اليونان، بسبب يأسه وإحباطه. لكنه يختتم رسالته إليها قائلا: "أخيرا استقررت في بيت متواضع على الشاطئ. الأمر أقوى مني. حياتي هنا، في تركيا، في هذا البلد الذي يفترسني ويحييني في الوقت نفسه".

"أبجدية الصمت" لدلفين مينوي تفتقد اللغة والشخصيات الروائية، أو هي تتوسل ما يُفترض أنه رواية لكتابة تحقيقات صحافية موسعة بلغة تقريرية إخبارية شديدة الجفاف.

font change

مقالات ذات صلة