أي سياق محتمل للمواجهة بين الحوثيين وإسرائيل؟

المشهد اليمني لم يكن أكثر سوءا وتعقيدا مما هو عليه اليوم

رويترز
رويترز
رجل قبلي متحالف مع الحوثيين يحمل مدفع رشاش خلال تجمع لإظهار الدعم للفلسطينيين في قطاع غزة والتحدي لإسرائيل والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، في ضواحي صنعاء الشمالية، اليمن، 16 يناير 2025

أي سياق محتمل للمواجهة بين الحوثيين وإسرائيل؟

بتسارع لافت وغير مسبوق، تتبدل ملامح المشهد في أكثر من مكان في المنطقة العربية التي ترشح لأن تصبح "شرق أوسط جديدا" خصوصا بعد النتائج الكارثية المتوالية لحرب غزة، والنهاية شبه الكاملة لـ"حزب الله" في جنوب لبنان، وزلزال سوريا الذي لا تزال توابعه تتلاحق حتى الآن بمتواليات لا أحد يمكنه التكهن بسياقاتها ونهاياتها، إلا في حدود التوقعات والتحليلات من جانب، والأمنيات لرؤية "سوريا جديدة" من جانب آخر.

ماذا عن اليمن؟

الأمر بالنسبة لهذا البلد الجريح الموجوع لا يبدو كذلك، فالحوثيون لا يزالون حتى الآن يشكلون في الداخل "مشروع حرب" عصيا على الانكسار عسكريا، وعقبة كأداء أمام أي إمكانية لأي مسعى وطني محلي أو إقليمي أو دولي لإنهاء حالة الاحتراب، أو اللاحرب واللاسلم التي وضع اليمن فيها، تفاديا لمزيد مما اعتبرته الأمم المتحدة قبل أعوام أكبر أزمة إنسانية في العالم. كما تمثل جماعة الحوثيين بالنسبة للجوار وحتى العالم خطرا على الأمن والسلم الدوليين، بوصف هذه الجماعة "الذراع الأخيرة لإيران التي لا يزال بوسعها إيذاء الإسرائيليين"، والتسبب في خطر أيضا على حركة الملاحة، في واحد من أهم الممرات المائية في طول البحار المحاذية لليمن وعرضها.

ما الحل لهذه المعضلة؟

أخفقت هجمات إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة على المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، في إضعاف قدرات هذه الجماعة على إطلاق المزيد من الصواريخ والمسيرات، باتجاه أهداف إسرائيلية، وذلك مثلما فشلت هجمات الحوثيين في تشكيل أي نوع من الضغط على إسرائيل والغرب لوقف الحرب في غزة.

حدث ذلك نتيجة أسباب عدة، على رأسها البعد المكاني، وطبيعة اليمن الجغرافية التي تساعد جماعة الحوثيين، بالإضافة إلى شح المعلومات عنهم، وربما كذلك الكلفة المادية والصعوبات اللوجستية لخصوم الجماعة، ما يعني أنهم بحاجة إلى ابتكار استراتيجية أو طريقة أخرى لاستهداف الحوثيين على نحو أكثر مباشرة وإيلاما.

ثمة معلومات استخباراتية دقيقة وجديدة، ربما توفرت لدى الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل عن المواقع التي يمكن استهدافها لتصبح أكثر إضرارا بالحوثيين

الضربات الجوية الأخيرة، المشتركة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا، لا بد أنها كانت نوعية ومؤثرة، حتى لو نجح الحوثيون في التعتيم كعادتهم على نتائجها.
حيث دلت هذه الهجمات على أن ثمة معلومات استخباراتية دقيقة وجديدة، ربما توفرت لدى الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل عن المواقع التي يمكن استهدافها لتصبح أكثر إضرارا بالحوثيين، وربما لتكون بداية لمرحلة ثانية من المواجهة، كذلك ربما أوحت تلك الغارات أيضا بانكشاف أكثر للحوثيين أمام أعدائهم في الداخل والخارج، بعد اضطرار معظم قادة الحركة إلى الابتعاد وليس الفرار، من صنعاء إلى مناطق جبلية أكثر أمنا وفق تقديراتهم.
الأكثر دلالة على تحول المواجهة بين الحوثيين، وكل من إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا إلى معركة كسر عظم، هي الغارات الجوية الأميركية التي استهدفت ظهر الجمعة في العاشر من الشهر الجاري محيط "ميدان السبعين" جنوب صنعاء، الذي درجت جماعة الحوثيين على الدفع بأنصارها للاحتشاد فيه بعد كل صلاة جمعة، وذلك "بالتزامن مع التوافد الجماهيري للمشاركة في مسيرة "جهادا في سبيل الله ونصرة لغزة.. سنواجه كل الطواغيت"، كما ورد في خبر بثته وكالة أنباء "سبأ" الخاضعة لسلطة الأمر الواقع الحوثية.
وأن هذا الأمر، لن يطول أمام تطور تكنولوجيا الرصد والتعقب لدى إسرائيل وحلفائها الغربيين، وهو النجاح الذي أصبح ممكنا حتى للوصول إلى أطناب الأرض، وأعماق الكهوف.

أ ف ب
في هذه الصورة التي نشرتها القيادة المركزية الأميركية في 24 فبراير 2024، تنطلق طائرة مقاتلة أميركية من على سطح حاملة الطائرات "يو إس إس أيزنهاور" في البحر الأحمر أثناء العمليات ضد أهداف حوثية

ماذا يحدث الآن؟

نقطة أخرى مهمة فيما يجري العمل عليه الآن، إسرائيليا وغربيا، وهي أن واشنطن ولندن تقومان بهجمات تكتيكية مرحلية أحيانا، نيابة عن إسرائيل، بهدف إشغال الحوثيين بمعارك آنية، وذلك لإتاحة الفرصة أمام إسرائيل للتحضير لعملية إجهاز أكثر عنفا، وأوسع نطاقا، ربما لا تريد الولايات المتحدة وبريطانيا تحمل آثارها الإنسانية والأخلاقية. أما من جانب الحوثيين، فرغم محاولاتهم إبداء عدم الاكتراث بالتهديدات النارية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتجاهلها، فإن الأمر لا يبدو مهملا أو لا يحملونه على محمل الجد والحذر.
كان نتنياهو، ووزير دفاعه يسرائيل كاتس، قد أطلقا تهديدات شديدة إلى قادة الحوثيين، بأن إسرائيل لن تكتفي بإرسال طائرات لاستهداف المنشآت المدنية والأمنية للحوثيين، بل تسعى إلى جمع معلومات حول أماكن وجود قادتهم، تمهيدا لاستهدافهم مباشرة. وتعهد نتنياهو "بعدم إفلات أي أحد من قادة الجماعة الحوثية" من الثأر، لكن رد هذه الجماعة جاء مؤكدا على أنها "لن تتوقف عن مهاجمة إسرائيل، وذلك نُصرة لغزة"، على حد قول بعض صقور الجماعة.
حكومة نتنياهو لخصت موقفها بأنها ترى أن "الحوثيين لا يزالون وكلاء إيران، ويخدمون الأهداف الإرهابية للمحور الإيراني في الشرق الأوسط" على حد قولها، وأن إسرائيل "ستعمل بكل حزم ضد أي جهة تهدد أمنها في كل زمان ومكان" كما قال بيانٌ للحكومة الإسرائيلية.

أي استراتيجية لإسرائيل والحوثيين؟

إسرائيل كما هو واضح ليست في عجلة من أمرها، لتصفية الحساب مع الحوثيين، لانشغالها بملفات أخرى أكثر أهمية كقضية وقف إطلاق النار مع "حماس" وترقب تطورات الوضع في سوريا ولبنان، وتريثا بالتأكيد لما بعد تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.
أما الحوثيون فيعتقدون أنهم لن يخسروا شيئا في أي مواجهة محتملة، بل ويصرون على أنهم "في حرب مفتوحة وطويلة الأمد مع إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا" كما جاء على لسان زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي.

يقدم الحوثي لإسرائيل المبررات لتدمير مقدرات اليمنيين بصورة تتكشف معها حقيقته الجوهرية، كظاهرة تعثرت بها نهضة اليمن طويلا

السفير اليمني لدى بريطانيا ياسين سعيد نعمان

يرى السفير اليمني لدى بريطانيا ياسين سعيد نعمان أن الحوثي "يقدم لإسرائيل المبررات لتدمير مقدرات اليمنيين بصورة تتكشف معها حقيقته الجوهرية، كظاهرة تعثرت بها نهضة اليمن طويلا، ويعاد إنتاجها اليوم بواسطة هذا المشروع، الذي أخذت بنيته العسكرية والسياسية تتخلخل وتتكسر بصورة سريعة، فإنه يواصل تحويل اليمن إلى ساحة لحروب تختلط فيها الأوراق، بهدف تغييب المعركة الوطنية في الوعي المجتمعي، وما يشكله ذلك من تأثير سلبي على ديناميات المعركة".
وكانت "سلطة الأمر الواقع الحوثية" في صنعاء قد بادرت بعد تتابع مشاهد انهيار ما عرف بـ"محور المقاومة" على نحو مريع، بالإعلان عن التزامها بصرف نصف راتب لموظفي الدولة اليمنية "المختطفة" في مناطق سيطرتها، وبالتزام أن يكون ذلك بشكل منتظم.
هذا الإعلان تبين لكثيرين أنه لم يكن أكثر من إسفنجة لامتصاص حالة الاحتقان في الشارع، وخشية من ثورة تجتث هذه الجماعة، كما حدث في سوريا على سبيل المثال، وتفاءل كثيرون ليس بصرف نصف مرتب، لكن هذا التفاؤل وصل حد الاعتقاد أن سقوط الحوثي بات مسألة وقت، وأن استعادة الدولة اليمنية الوطنية بات قاب قوسين أو أدنى.
‏غير أن الحوثي عاد في نظر كثيرين إلى ألاعيبه المعروفة، إذ لم يصرف نصف الراتب الذي منعه على أكثر من مليون ونصف المليون موظف حكومي منذ نحو سبعة أعوام.
من جانبها لم تسارع الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا لالتقاط هذه "الفرصة التاريخية" وتطويرها وتحويلها إلى فعل يستعيد اليمنيون من خلاله أقل القليل من أحلامهم.
تنصل الحوثيين عن تعهدهم بصرف جزء من الرواتب، جاء بدعوى أنهم في "حالة حرب مع أهم القوى الرئيسة الفاعلة في المسرح الدولي" واتجهوا إلى فرض المزيد من الضرائب والإتاوات لدعم مجهودهم الحربي المزعوم.

السياسة الأميركية بعد عودة ترمب

تتوقع نُخبٌ يمنية عدة تغيرات عدة في السياسة الأميركية تجاه اليمن، بما في ذلك الحوثيون، وذلك بالقياس إلى ما كان عليه الأمر مع إدارة جو بايدن.
فقد تعاون بايدن في بداية عهده بنوع من المرونة مع الحوثيين، أملا في تشجيعهم على الانخراط في عملية سياسية تقود إلى حل سياسي في النهاية، ووضع حد للمأساة الإنسانية في هذا البلد، التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "الأكبر عالميا" حينذاك.

المشهد في اليمن لم يكن أكثر سوءا وتعقيدا مما هو عليه اليوم ولا بد من تغييره طال الزمن أم قصر، خصوصا مع توالي واشتداد الهجمات الإسرائيلية والغربية من جهة، وارتفاع منسوب الاحتقان الشعبي ضد جماعة الحوثيين من جهة أخرى

عين بايدن في 4 فبراير/شباط 2021 مبعوثا خاصا له إلى اليمن، وهو الدبلوماسي تيموثي ليندركينغ، لكن جولاته المكوكية إلى المنطقة لم تسفر عن أي تقدم يذكر.
ووقتذاك أيضا صنفت إدارة بايدن الحوثيين "كجماعة إرهابية عالمية" دون الإقدام على أية إجراءات لترجمة هذا التصنيف، لكن المشهد اليوم يبدو مختلفا تماما، ومعه صورة الحوثيين في واشنطن، وذلك بعد حرب غزة وانخراط هذه الجماعة في أعمال حربية مباشرة، تستهدف إسرائيل والمصالح الغربية في البحر الأحمر وبحر العرب. المرجح اليوم هو أن تذهب إدارة ترمب إلى "رفع مستوى التهديد الحوثي على المصالح الأميركية، إلى حد إعادة تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية أجنبية"، وأن يصار إلى مضاعفة نوعية العقوبات الأميركية المفروضة على القيادات الحوثية، ووضع قيود إضافية على أنشطة الجهات، والشركات التجارية التي تتعامل معهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك سواء بسواء مع الضغوط المرجح زيادتها على إيران.
ديمومة وضع مأساوي كهذا، لا تبدو في نظر الغالبية المسحوقة من المجتمع اليمني قابلة للاستمرار والتحمل، وغالبية كبيرة من اليمنيين تدين بقوة الهجمات الإسرائيلية الممولة من قبل الغرب، على البنى التحتية المملوكة لليمنيين، وليس جماعة الحوثي، وإن كان بعض هذه الغالبية يفترض- مجازا- أن ما تفعله جماعة الحوثي لنصرة غزة وأهلها أمام حملة الإبادة الإسرائيلية أمرٌ في محله، لكن لهذا الواقع وجهٌ آخر وقراءة مختلفة.

أ ف ب
انضم رجال قبائل يمنيون مسلحون إلى مقاتلين حوثيين يركبون مركبات عسكرية خلال مظاهرة مناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل على مشارف العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون في 16 يناير 2025

ويرى الدبلوماسي اليمني مصطفى النعمان أن الحقيقة التي يجب أن يعترف بها ويفهمها الحوثي هي أنه "غير مخول من أغلب اليمنيين لإقحام البلاد في معركة غير متكافئة، ومحصلتها معروفة مقدما، دونما حاجة إلى برهان". 
ويضيف: "إن على عبد الملك الحوثي أن يقتنع بعجز العالم العربي كله، فما بالنا بجماعته، عن إحداث أي تأثير جاد أو تغيير في المعادلة، سوى سماع أصوات صافرات الإنذار في إسرائيل، التي تحذر مواطنيها من الصواريخ البدائية التي تصلها، ويكفي أن يشاهد ما لحق بلبنان وغزة وسوريا".

خلاصة القول أن المشهد في اليمن لم يكن أكثر سوءا وتعقيدا مما هو عليه اليوم ولا بد من تغييره طال الزمن أم قصر، خصوصا مع توالي واشتداد الهجمات الإسرائيلية والغربية من جهة، وارتفاع منسوب الاحتقان الشعبي في الداخل ضد جماعة الحوثيين من جهة أخرى.
ما هو متوقع بصفة عامة أن مآلات الوضع الراهن لن تكون لصالح جماعة الحوثي، وربما ليست أيضا في صالح الغالبية الساحقة من اليمنيين، في ظل تفكك وضعف وانقسام المعسكر المناهض لهذه الجماعة.

font change

مقالات ذات صلة