دون الخروج من صندوق "الوضع الراهن" بل وتكسيره، فإن ما يعرف بالشرق الأوسط مقبل على خراب كامل وشامل لأجياله القادمة، حتى التسمية التي فشلت طوال عقود في تحديد واضح لجغرافيا الإقليم، فكانت تتمدد شرقا حتى باكستان أحيانا، وغربا لتشمل شمال أفريقيا، أو تضيق لتحاول باحتواء مضغوط "ويائس غالبا" تحديد الشرق الأوسط حيث جغرافيا وتاريخ بؤر الأزمات العنقودية المتوالدة والمتوارثة دوما.. تلك التسمية صارت منتهية الصلاحية.
كنت دوما أتبنى تسمية اصطلاحية جديدة مختصرها "شرق المتوسط" لأن مفاتيح العلاقات الدولية تغيرت، ومنظومة تحالفات الإقليم من هلاله الخصيب (مشرقه العربي سابقا) و"دول مجلس التعاون الخليجي" امتدادا نحو مصر غربا وهضبة الأناضول شمالا، قررت تغيير أوانيها المستطرقة لتأخذ شكلا جديدا ومختلفا تماما، يحاول تحدث لغة الزمن الراهن بتغيير الوضع الراهن.
الشرق الأوسط يقف على أعتاب تحولات جذرية، خاصة بعد سقوط النظام السوري، الذي شكل محورا رئيسا للصراعات الإقليمية والدولية لعقود، هذا السقوط يمثل لحظة فارقة في إعادة صياغة ملامح المنطقة، ويفتح الباب أمام المملكة العربية السعودية، لتأدية دور محوري جديد في رسم مستقبل الإقليم.
السعودية تُعتبر اليوم أكثر الدول قدرة على التأثير في مواقف واشنطن وليس العكس، وقد برزت استقلالية القرار السعودي في كثير من الملفات الإقليمية والدولية
السعودية، التي تعد القوة الاقتصادية الأكبر في المنطقة، تمتلك فرصة ذهبية لقيادة مشروع تكاملي شامل يعيد ترتيب الأولويات الإقليمية على أسس جديدة، فمع التغيرات الجيوسياسية الراهنة بات واضحا أن مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط، يكمن في بناء منظومة تعاون اقتصادي وسياسي، تقودها قوى رئيسة مثل السعودية، هذه المنظومة أصبحت ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات المشتركة.
السعودية تُعتبر اليوم أكثر الدول قدرة على التأثير في مواقف واشنطن وليس العكس، وقد برزت استقلالية القرار السعودي في كثير من الملفات الإقليمية والدولية، وهو ما يعزز من دورها المحوري في إعادة تشكيل سياسات المنطقة.
بالنسبة للمملكة الأردنية، فإن المرحلة المقبلة تتطلب إعادة صياغة دورها الإقليمي بما يتماشى مع المتغيرات الجديدة. فهي بحكم موقعها الجغرافي ودورها التاريخي كجسر بين دول المشرق والخليج، يمكن أن تكون شريكا رئيسا في مشروع التكامل الإقليمي، ومع ذلك، يتطلب هذا التوجه وعيا استراتيجيا بأهمية الانخراط في رؤية شاملة تقودها السعودية، حيث يشكل التعاون مع المملكة فرصة لتعزيز الاستقرار، وتحقيق مكاسب اقتصادية مشتركة.
سقوط النظام السوري ليس مجرد حدث عابر، بل هو نقطة تحول في موازين القوى الإقليمية. فإيران التي كانت تعتمد على النظام السوري كحليف استراتيجي، تجد نفسها الآن أمام تحديات كبيرة مع تراجع نفوذها في المنطقة، هذا التراجع يفتح المجال أمام دول الإقليم، وعلى رأسها السعودية، لإعادة ترتيب التحالفات وبناء توازنات جديدة، تقوم على المصالح المشتركة بدلا من الصراعات.
وتركيا، التي تعد لاعبا رئيسا في المنطقة، قد تسعى لتحقيق مصالح تتعارض مع أي مشروع لا تقوده أنقرة، ورغم ذلك، فإن التقاطعات في المصالح معها، تبقى ضرورية في المرحلة الراهنة لبناء شرق أوسط جديد أكثر استقرارا، والعمل مع تركيا يجب أن يتم بحذر مع مراعاة تحقيق التوازن بين التعاون وتجنب التبعية.
ما تحتاجه المنطقة اليوم هو كسر قوالب الوضع الراهن التي أثبتت فشلها لعقود، التحالفات القديمة والأنماط التقليدية في إدارة الأزمات لم تعد صالحة للتعامل مع تحديات العصر
ما تحتاجه المنطقة اليوم هو كسر قوالب الوضع الراهن التي أثبتت فشلها لعقود، التحالفات القديمة والأنماط التقليدية في إدارة الأزمات لم تعد صالحة للتعامل مع تحديات العصر، بدلا من ذلك، يجب تبني رؤية جديدة تقوم على التعاون والتكامل، حيث يمكن لدول مثل السعودية والأردن ومصر، إلى جانب دول الخليج الأخرى، أن تؤسس لنموذج إقليمي مختلف يُعلي من شأن المصالح المشتركة.
في السياق ذاته، يشكل التعنت الإسرائيلي، المتمثل في سياسات اليمين المتطرف، خطرا كبيرا ليس فقط على استقرار المنطقة بل حتى على مصالح واشنطن والغرب بشكل عام، هذا النهج الإسرائيلي المتشدد يعيق أي فرصة لتحقيق سلام مستدام، مما يتطلب من المجتمع الدولي ضغطا أكبر لإحداث تغيير حقيقي، يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، ويحقق توازنا يخدم المصالح الإقليمية والدولية.
من ناحية أخرى، فإن انتخاب الرئيس اللبناني الجديد جوزيف عون يمثل بادرة أمل واضحة حيث يعكس هذا التطور تغييرا جوهريا في أدوار القوى الإقليمية، وكان للحضور السعودي الإيجابي دور بارز في فكفكة الوضع المتيبس في لبنان مما فتح آفاقا جديدة من الاحتمالات، التي يمكن البناء عليها لتعزيز الاستقرار في هذا البلد الذي يعاني من أزمات متراكمة.
إن التغيرات الدولية الراهنة تفرض على الشرق الأوسط لغة جديدة في إدارة العلاقات الدولية، لا يمكن لدول الإقليم أن تستمر في العيش بمعزل عن المتغيرات العالمية، بل عليها أن تتبنى سياسات أكثر انفتاحا وواقعية، تتماشى مع روح العصر. فالسعودية، بما تمتلكه من ثقل اقتصادي وسياسي، مؤهلة لقيادة هذا التوجه، ولكن نجاح هذا المشروع يعتمد على استجابة دول الإقليم الأخرى واستعدادها للانخراط في منظومة تكاملية حقيقية.