في كل مجتمع آراء مختلفة، وتسيل الأحبار لإظهار الحجج في مقالات كتابها سعيا وراء قراءة واقعية، يحركها الحرص على المصلحة العامة، التي تشمل الدولة، والمجتمع، الاقتصاد وأمن الحدود، والعلاقات الدولية، وغير ذلك. وتتنافس فيما بينها أيها يقدم للمجتمع رؤية أعمق وأدق وأشمل، لكن ظاهرة يمكن تسميتها بعسكرة المقالات تصيب عددا من الكتاب، فتتحول أقلامهم من تسجيل رؤية وزاوية نظر إلى تحويل الكتابة من عالم الثقافة إلى المعسكرات، فيخيل إلى القارئ أن قلما يحركه ضابط يصدر الأوامر، ليس كاتبا يهمس في أذن قرائه، ضابط بين عتاده وخرائطه، لا مثقف بين كتبه وأوراقه، ولعل هذا التقمص هو ما يمنع عليه فسحة للنظر واستعراض الحجج، لصالح الأوامر الحاسمة، والتحذير من العدو، والتخوين لمن خالفه، ولو كان هذا على حساب إغماضه عينيه عن كل مستجدات الوقائع السياسية، وأثرها على الحياة العامة.
وفق هذه الطريقة كانت مقالات الكاتب المصري سامح عسكر في متابعة الأحداث السورية، فلم ير في سوريا غير جيش هو جزء من محور إيران، يترأسه بشار الذي لم يدع فرصة في مدة حكمه في إعطاء الدروس التنظيرية للأمة العربية، والحديث عن معركة سوريا في مواجهة الاحتلال، والاستعمار، للتحرر من التبعية.
ولا يرى سامح عسكر في سوريا حياة مدنية، فهؤلاء المواطنون الذين قتل وسجن منهم بشار مئات الآلاف، وشرد منهم الملايين، بلا اقتصاد إذ تم استبداله بالكبتاغون، ودون استقلال حقيقي بعد سيطرة إيران على البلاد، فلا يوجد غير جيش وزعيمه الذي يدعي أنصاره له الخلود.
إن مقالات قطب تلك التي لا يستطيع فيها سوى التخوين، والحفاظ على العسكرة أشبه ما تكون بمقالات سامح عسكر نفسه، وهو يوزع أوصاف الخيانة والوطنية كما يحلو له
وفي الوقت نفسه يحذر سامح عسكر من "الإخوان"، وسيد قطب، ولا ينسى التحذير من الوهابية التي لا يبخل عليها بتهم الخيانة، متجاهلا أن الانفجار الكمبري في تاريخ الجماعات المتطرفة كان في الستينات في مصر مع سيد قطب، الذي لم يكن يوما من السلفيين، ولا له مظهر شيخ ملتح، بل هو أشبه ما يكون بسامح عسكر نفسه في مظهره وهندامه، رجل حليق يرتدي زيا عصريا بربطة عنق، حتى وهو في المحاكمة خلف القضبان كان قد حرص على هذا المظهر أمام الكاميرات، فكان يقدم نفسه على أنه مثقف لا طالب علم شرعي ينافس عمائم الأزهر. وبالعودة إلى ماضيه، فإنه نشأ في وسط تنافست فيه الأقلام المصرية في عالم الأدب، كطه حسين ونجيب محفوظ والعقاد، وسبق لقطب أن كتب في النقد الأدبي فهو يحمل شهادة في اللغة العربية، ولكن ما ذهب به بعيدا وشكل فارقا هو عام 1952.
فقد أطيح بالملك في مصر بتحرك مجموعة عسكرية تسمي نفسها "الضباط الأحرار"، فتحمس سيد قطب لهم ولطريقتهم، وكانت مقالاته في تلك المرحلة تنضح بالتطرف المتحمس في تأييدهم، بما ينذر بما ستؤول إليه الأمور بعدها إن اختلف معهم، فطالب بمحاسبة جميع الفنانين، الذين مدحوا الملك في سابق عهدهم كأم كلثوم، وحين تظاهرت مجموعة من العمال لتحسين أجورهم، كتب مقالا بعنوان "حركات لا تخيفنا"، وفيه: "أطلع الشيطان قرنيه فلنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور وأن يهيل التراب"، وطالب بمنع الحرية عن مخالفيه الذين يتهمهم بالتلوث، أما هو ففي خانة "الشرفاء"، ففي أغسطس/آب 1952 كتب: "هذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من الفساد إن لم تمضوا أنتم في التطهير الشامل الذى يحرم الملوثين من كل نشاط دستوري ولا يبيح الحرية إلا للشرفاء".
لقد أغرم سيد قطب بحالة العسكرة تلك، وكتب مقالا بعنوان "ويلات السلم" طبع ضمن كتاب بعنوان "أيها العرب استفيقوا واحذروا" وهو يجمع مقالاته ما بين (1933-1953) ومما جاء فيه: "علم الله لقد كانت أكبر أمنية لي أن أعيش في مصر تخوض معركة... إن مصر كاسبة لو خاضت معركة لو تحطمت دورها وتمزقت أجسادها، لأنها ستبني أخلاقا وتوحد كيانا". فالحل الأخلاقي والهوية الوطنية تبنيها العسكرة وخوض الحروب ولو كانت خاسرة عنده، ولما لم يجد أحدا أعطاه منزلة تتناسب مع حماسته المفرطة تلك لـ"الضباط الأحرار"، انقلب في مواقفه، وصادم النظام الجديد بطريقة لم يكن بها إلا محاكيا لمرحلته السابقة المؤيدة لهم، فاستبدل الكلمات "الثورية" إلى أخرى بمسحة إسلامية، فلم يتحدث عن ضباط جدد إنما سماهم "العصبة المؤمنة"، وبديلا عن تجاهل الدستور سمى ذلك "الحاكمية الإلهية"، وبديلا عن رفض الحكم المدني، كتب: "فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة، ولا يؤخذ عن فقيه قاعد"، وهكذا اتجه نحو تحويل كل شيء إلى حالة من العسكرة المقابلة، أراد ضباطا يحاربون في صفه، ليعيدوا ما حدث في 1952 من جديد لكن لحسابه هذه المرة!
إن مقالاته تلك التي لا يستطيع فيها سوى التخوين، والحفاظ على العسكرة أشبه ما تكون بمقالات سامح عسكر نفسه، وهو يوزع أوصاف الخيانة والوطنية كما يحلو له، ثم بعدها يحذر من "الإخوان"، وسيد قطب، وهو أقرب إلى الشق العسكري منه إلى البحث الفكري، فيغيب تحليله لظاهرة التطرف وأفكار سيد قطب، لحساب تخوين مخالفيه واتهامهم بالتبعية للاستعمار والصهيونية، وتعليق الحرية إلا للشرفاء كما كان يقول سيد قطب، وفق ميزان سامح عسكر، وبعدها يضع تعريفا يقول فيه عن نفسه: ليبرالي، ضد الطائفية والعنصرية!