اتفاق غزة: خمسة أسباب لرضوخ نتنياهو

استعداد نتنياهو للتقدم في اتفاق الهدنة قد يشكل مدخلا لإضفاء صفة رجل الدولة عليه

أ ف ب
أ ف ب
نازحون فلسطينيون خارج خيامهم في دير البلح وسط قطاع غزة بعد الاعلان عن اتفاق وقف اطلاق النار في 16 يناير

اتفاق غزة: خمسة أسباب لرضوخ نتنياهو

حيفا- الإعلان عن الاتفاق بين إسرائيل و"حماس"، بوساطة مصرية وقطرية وضغط أميركي، على وقف الأعمال الحربية لستة أسابيع، ويبدأ الاتفاق بصفقة تبادل للأسرى الإسرائيليين (34 من أصل 98) والأسرى والمعتقلين الفلسطينيين (حوالي ألف أسير)، وانسحاب إسرائيلي من المناطق المكتظة في غزة، وسماحها بدخول كميات أكبر من المعونات الإنسانية للغزيين المنكوبين. إلا أن الموافقة الإسرائيلية، وموافقة نتنياهو تحديدا تمت هذه المرة، متجاوزة محاولات رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال العام الأخير عرقلة مثل هذا الاتفاق. فلماذا رضخ نتنياهو وقبل أن يجتهد أكثر، في الإذعان من طرفه للاتفاق الذي بلور في محادثات الدوحة؟ أكثر من ذلك، في الاجتهاد لإقناع المركبات الأكثر يمينية وتطرفا في حكومته وعلى رأسها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، وعلى ما يبدو تسليمه بإمكانية معارضتهما للصفقة مقابل قبولهما بتصويت الأغلبية في الحكومة والتي تؤيد موقف نتنياهو، وعدم الذهاب بعيدا إلى تفكيك الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، قد تنهي حكمه الممتد منذ 2009، عدا فترة قصيرة بين 2019 و2021.

خمسة أسباب تقف وراء إقدام نتنياهو وحكومته على القبول بالصفقة، والعمل على إخراجها إلى حيز التنفيذ:

أولا، الضغط الأميركي. فموقف إدارة الرئيس جو بايدن التي تنهي حكمها في العشرين من الشهر الحالي أيدت وتؤيد التوصل إلى الصفقة، ولوحت مرارا بأفكار لمعاقبة نتنياهو وأعضاء حكومته، كما اتخذت إجراءات بملاحقة نشطاء المستوطنين الذين يبطشون بالفلسطينيين. لكن نتنياهو لم يرضخ للضغوط وعمل مرارا على عرقلة أية صفقة تعني وقف العمليات الحربية.

المتغير الجديد هو انتخاب دونالد ترمب وتلويحه باتخاذ إجراءات عنيفة ضد غزة إذا لم يجر التوصل إلى صفقة قبل تنصيبه. طبعا هذا التهديد لا يعني الكثير، فإسرائيل بطشت وقتلت ومسحت أحياء كاملة ونفذت تطهيرا عرقيا وعقابا جماعيا واستهدافا متطرفا، لا يترك للولايات المتحدة أي مجال لمزيد من البطش.

رويترز
ابتهاج الفلسطينيين بعد الانباء عن وقف اطلاق النار في خان يونس جنوب قطاع غزة في 15 يناير

إلا أن مثل هذا التلويح وضح للأطراف، بما في ذلك الوسطاء، أن موقف ترمب جدي، ولن يسمح بالاستخفاف به، أو عدم التعامل مع موقفه جديا. بالإضافة لذلك هنالك أخبار ترشح من حاشية ترمب بأنه يتطلع من خلال الإصرار على الصفقة وإرسال مبعوثه الخاص، ستيف ووتكوف، للإشراف على المفاوضات من خلال وجوده في الدوحة وقيامه بزيارة خاطفة لإسرائيل ولقاء نتنياهو من أجل إقناعه بضرورة تقديم "هدية" لترمب قبل وصوله للحكم الفعلي. وترمب معني بالتصريح بأنه أحرز تقدما وحقق هدنة حتى قبل تنصيبه كرئيس فعلي، وهو على ما يبدو يعتبر هذا الإنجاز جزءا من إنجازاته اللاحقة في تحقيق مصالحة أوسع بين إسرائيل والفلسطينيين، بما يشمل السلطة الوطنية، وفي الوقت نفسه تحقيق هدنة في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وهذان الإنجازان قد يؤهلاه للحصول على جائزة نوبل للسلام، وهو شغوف بذلك ويتطلع إلى أن يكون ذلك جزءا من إرثه الرئاسي.

النتائج التي تم تداولها على نطاق واسع تضمنت فعل الإبادة والتطهير العرقي والهدم الشامل، بما في ذلك مجمل المؤسسات المدنية، بالإضافة لقتل وجرح أكثر من عشرة في المئة من أهل غزة

كان على نتنياهو الرضوخ لهذه التطلعات مقابل وعود باستمرار الدعم الأميركي وتوسيعه، وفتح المجال لإسرائيل للعودة إلى الاعمال الحربية في حال خرق الهدنة من قبل "حماس" أو في حال عدم تقدمها للمرحلة الثانية والثالثة من المفاوضات، بما يشمل إطلاق سراح باقي الأسرى الإسرائيليين في غزة، والعمل جديا على معاقبة المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت قبل أشهر قرارا باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت وقيادات عسكرية وجنود بتهمة تنفيذ جرائم في غزة. بالطبع نتنياهو الذي انتظر كثيرا عودة ترمب يأمل في أن هذه الإنجازات ستكون في رصيده إسرائيليا لأجل الاستمرار في الحكم، وربما إعادة انتخابه عام 2026، وبهذا يتمكن من الاستمرار في مشاريعه لبسط السيادة على مناطق واسعة في الضفة الغربية، والإفلات من المحكمة الإسرائيلية باعتبار أنه أثبت أهليته للحصول على إنجازات لا يستطيع غيره الوصول إليها.
ثانيا، عمليا إسرائيل حققت في حربها أقصى ما تستطيع الوصول إليه. كما أن نتنياهو الذي أعلن مرارا منذ بدء الحرب أن الحرب لن تتوقف قبل القضاء على "حماس" واعتقال أو قتل أعضائها، يدرك، كما باقي الإسرائيليين أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه، وأن "حماس" باقية، بأشكال مختلفة في غزة. 
من ناحية ثانية إسرائيل وجيشها قاما بخطوات متطرفة جدا في معاقبة الغزيين، بما يشمل عناصر وقيادة "حماس". فالنتائج التي تم تداولها على نطاق واسع تضمنت فعل الإبادة والتطهير العرقي والهدم الشامل، بما في ذلك مجمل المؤسسات المدنية، بالإضافة لقتل وجرح أكثر من عشرة في المئة من أهل غزة. في المقابل، بدا في الأسابيع الأخيرة أن الجيش الإسرائيلي باشر إرسال إشارات واضحة بأنه لا يمكن إنجاز أكثر مما حصل، وأن استمرار القتال لا يتضمن أية أهداف إضافية، حتى إن نائب قائد الجيش، الجنرال أمير برعام، قدم استقالته قبل أيام قائلا إنه "لم يعد هناك ما يقدمه للحرب في غزة"، وهنالك إشارات إلى أن قائد الجيش، هرتسي هليفي، قد يقدم على مثل ذلك، وقد يطالب بلجنة تحقيق رسمية تشمل مسؤوليته هو ومسؤولية غيره من قادة الجيش والألوية والمناطق، كما تشمل تقديم المسؤولين السياسيين لمثل هذه المساءلة، بما في ذلك بنيامين نتنياهو نفسه.

الإدراك المتعاظم بأن إسرائيل أنجزت عسكريا كل ما يمكن، وأكثر، تزامن مع نشر معلومات عن عدد الجنود الذين سقطوا في المواجهات في غزة، ويصل عددهم إلى حوالي 400 جندي وقائد، عدا المصابين وهم بالآلاف، أي إن الأثمان الإنسانية بدأت ترتفع في الجانب الإسرائيلي، ويتضمن ذلك فهما بأن استمرار الوجود العسكري في أحياء مكتظة بالفلسطينيين سوف يلحق المزيد من الخسائر البشرية في الجانب الإسرائيلي.
ثالثا، استمرار الضغط الشعبي في إسرائيل لأجل الوصول إلى صفقة، بما يشمل وقفا لإطلاق النار. فالشوارع الإسرائيلية لا زالت مليئة بالمتظاهرين الإسرائيليين، وعدد كبير منهم، بل أكثريتهم وأكثرية الرأي العام من ورائهم يتهم نتنياهو شخصيا بعرقلة محاولات الوصول إلى صفقة جديدة. هذه الأصوات مصممة على الوصول إلى كل مراكز اتخاذ القرار وإزعاج نتنياهو وأعضاء حكومته واتهامهم بعدم الاكتراث بحياة المخطوفين الإسرائيليين، وخصوصا أن "حماس" تصرفت بذكاء في هذا الجانب ونشرت كل أسبوع فيديو مصور مع أحد المخطوفين وأصدرت بيانات تشير إلى أن عددا من المخطوفين قد لقوا حتفهم بفعل الهجمات الإسرائيلية. بحيث إنها غذت المتظاهرين والرأي العام المساند للصفقة ولوقف الأعمال الحربية بمعلومات أفادت باستمرار الضغط الشعبي على نتنياهو والحكومة.

 أ ب
فلسطينيون يحتلفون باعلان التوصل الى وقف اطلاق النار في دير البلح في 15 يناير

رابعا، الأثمان الاقتصادية للحرب. فالحرب على غزة هي أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ إقامتها، وهي بالتأكيد الحرب الأكثر كلفة اقتصاديا. إذ تفيد تقارير إسرائيلية إلى اقتراب تكلفة الحرب إلى حوالي 300 مليار شيكل، أي حوالي 80 مليار دولار. ويشمل ذلك الخسائر المباشرة الناتجة عن العمليات الحربية وتراجع الإنتاج وتجنيد عدد كبير من جنود الاحتياط المنخرطين في العمل التجاري والصناعي المدني. وقد تفاقمت الأزمة الإسرائيلية على ضوء وقف الطيران المدني وتدمير قطاع السياحة، وتوقف الاستيراد والتسويق لدول مركزية مثل تركيا، ووقف وصول المنتجات من الصين والهند بسبب تهديد الحوثيين باستهداف سفن قادمة أو خارجة من الموانئ الإسرائيلية، كما ترتيبات تقليص العمالة من غزة والضفة الغربية وارتفاع أجور عاملي البناء وقطف المحاصيل والتجارة العامة، وكل ذلك أدى إلى تخفيض مستويات التصنيف الائتماني لإسرائيل في كبرى المصارف العالمية.

الحرب على غزة هي أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ إقامتها، وهي بالتأكيد الحرب الأكثر كلفة اقتصاديا

عمليا انكمش الاقتصاد الإسرائيلي جديا، وارتفعت تكلفة العمليات العسكرية جديا وتكلفة معالجة نقل السكان من أماكن مستهدفة في الجليل وفي منطقة قطاع غزة، وعلاج الآثار المختلفة للحرب، وكل ذلك أصبح عبئا يؤرق متخذي القرارات في إسرائيل، ويعزز فكرة ضرورة الهدنة في غزة أو استعمال وسائل يمكن أن تؤدي إلى تقليص المصروفات العامة أو تفسح المجال لجمع أكبر نسبة من الضرائب وذلك تكلل برفع الضريبة المضافة بنسبة 1 في المئة، وتجميد الأجور، وتقليص تكاليف الصرف العام على مجمل الخدمات الاجتماعية في إسرائيل، وهي قضايا قد تصيب مشاريع نتنياهو والحكومة في الصميم، وخصوصا أن جزءا كبيرا من ناخبي وداعمي اليمين عموما، والليكود بشكل خاص، هم من الفئات الضعيفة في أطراف المدن الكبرى ومدن التطوير والبلدات الضعيفة نسبيا من حيث الدخل والأوضاع الاقتصادية.

خامسا، ثقة نتنياهو بأن الصفقة لن تؤدي إلى تفكك الحكومة. المبنى الحالي هو مثالي بالنسبة لنتنياهو، ومصلحته السياسية والشخصية تقتضي استمرارها. طبعا هنالك مركبات جدية داخل الحكومة ليست راضية وأعلنت أنها ستصوت ضد الصفقة، إلا أنها أعلنت كذلك أنها لن تنسحب من الحكومة وستستمر في عضويتها بها ودعمها، والمقصود أحزاب الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش وعوتسما يهوديت و"القوة اليهودية" بقيادة بن غفير. هذه الأحزاب ليس أمامها أي بديل أفضل من الحكومة الحالية ومن المؤكد أنها لن تقدم على حل الحكومة وربما التسبب في إقصاء اليمين عن الحكم، كما أنها حصلت من نتنياهو على تطمينات بإجراءات عقابية مستمرة ضد الغزيين وعلى تعهد بدعم أكبر للاستيطان اليهودي في الضفة والقدس، أي إنها مقابل موقفها من الصفقة وحفاظها على عضوية الحكومة حصلت على إنجازات إضافية تجعلها قادرة على عرض ذلك أمام جمهورها من المستوطنين والفاشيين المتطرفين في الشارع الإسرائيلي عموما.

إقدام نتنياهو على الصفقة، ودعم "الليكود" والأحزاب المتدينة الحريدية، وموقف أحزاب اليمين المتطرفة، وموقف ترمب، كلها جعلت نتنياهو أكثر مرونة وقابلا للتقدم لإتمام الهدنة والصفقة مع "حماس"، وهي صفقة قد تكون متعارضة مع أفكار نتنياهو عن القضاء على الحركة وإرجاع كل المخطوفين دون مفاوضات أو من خلال استعمال المزيد من القوة، إلا أنها قد تكون مربحة له شعبيا وشخصيا، وهو الذي أثبت أنه قادر على تجاوز الأزمات التي عصفت به شخصيا وبمشروعه السياسي، لكنه عاد دائما بقوة إلى مركز الفعل السياسي في إسرائيل.

قد يشكل استعداده للتقدم في اتفاق الهدنة مدخلا إضافيا لإضفاء صفة رجل الدولة على نتنياهو بمدى أقوى من السابق، وقد يجعل جزءا من منتقديه، شعبيا وبين النخب، أكثر استعدادا للتفكير به كمن يستطيع الاستمرار في الإمساك بزمام الأمور وإدارة سياسات مربحة لإسرائيل، وبالتالي تخفيف حدة الانتقادات له ولسياساته داخليا وخارجيا، وقد أثبت الرجل عدة مرات أنه بارع في استغلال الفرص لأجل الاستمرار في الحكم والإفلات مرة تلو الأخرى من الملاحقة القضائية ومن الأوضاع المتردية من حيث دعمه ودعم حزبه، وهو بالتأكيد سيبدأ غداة الصفقة بتسويق الصفقة كإنجاز لإسرائيل، وعلى أنه الوحيد القادر على ذلك من بين السياسيين والمنافسين، داخل "الليكود" وخارجه.

font change

مقالات ذات صلة