المفكر العراقي رحيم أبو الرغيف لـ"المجلة": على ايران التأقلم مع التغيرات الكبيرة

مشروع قانون الاحوال الشخصية يقوم على مبدأمبادلة المنافع من قِبل متزعمي الجماعات

Laura Hegarty/ Al Majalla
Laura Hegarty/ Al Majalla

المفكر العراقي رحيم أبو الرغيف لـ"المجلة": على ايران التأقلم مع التغيرات الكبيرة

يستعرض المفكر والباحث العراقي السيد رحيم أبو الرغيف الموسوي في حديث مع "المجلة" أسباب استمرار الاستقطاب الطائفي في العراق، موضحا دور إيران في تكريس الأحزاب السياسية الموالية لها في العراق، ومفسرا ضرورة مراجعة إيران لمشروعها السياسي الكبير، لأن أحداث المنطقة تُثبت أننا في نهاياته.

أبو الرغيف الذي يُعتبر صوتا نقديا بارزا ضمن طبقة "المعممين" العراقيين الشيعة، لآرائه ومواقفه الثقافية والاجتماعية والسياسية المناهضة لطبقة "رجال الدين" المنخرطين في الحقل السياسي، أو الساسة العراقيين المستندين والمتحالفين مع أفراد وتيارات من المجتمع الديني/الفقهي العراقي.

يحدثنا أبو الرغيف أولا عن رأيه في القضية الأكثر حضورا راهنا في المشهد السياسي/التشريعي العراقي، المتعلقة بعزم مجلس النواب العراقي إقرار قانون جديد للأحوال الشخصية، يُلغي القانون المعمول به راهنا، المُقر منذ زمن حُكم الرئيس الأسبق عبد الكريم قاسم، والذي يراه خبراء القانون سندا أساسيا لمدنية العلاقات الاجتماعية ضمن المجتمع العراقي وحاجزا مانعا أمام تكريس الطائفية قانونيا وتشريعا، لأنه يربط كل القضايا الخاصة بالأحوال الشخصية بالتشريعات المدنية، وليس بالمدونات الفقهية/الطائفية.

حاليا ثمة مسودة قانون جديد للأحوال الشخصية معروضة على البرلمان العراقي، هي محل انتقاد شديد من الناشطين والمنظمات المدنية العراقية، لأنها تقصر العراقيين على تحديد المذهب في عقود الزواج، وتُخضع الأحوال الشخصية لسلطة رجال الدين. ينتقد المفكر العراقي أبو الرغيف ذلك، ويضيف: "قانون الأحوال الشخصية أثار جدلا، وما يزال، إلى أن وصلنا إلى وضع لا يُمكن فيه إقرار هذا القانون إلا ضمن سلة طائفية وقومية كاملة، قائمة على مبدأ السوق ومبادلة المنافع من قِبل متزعمي الجماعات، على حساب المجتمع، وهذه من المثالب الكبيرة على مجلس النواب العراقي. لأن ذلك يرفع يد المجلس عن وظيفته الأساسية التي هي إقرار وتشريع القوانين المطابقة للمصلحة الكلية للشعب العراقي. وليس من تكوين ثقافي أو تيار سياسي عراقي يسأل عن مدى مطابقة هذا القانون للمصالح العامة وبعيدة المدى للشعب العراقي، وكأن الأمر لا يعنيهم".

أثناء مرحلة الاحتلال، وما بعده، تمكنت أحزاب سياسية من تسلم المشهد السياسي، وأصبحت متجذرة في المشهد العام والسلطة الحاكمة بسبب الديمقراطية التي كانت مُعمدة بنظام المحاصصة

ويتابع أبو الرغيف في تحليله لهذه الظاهرة: "غياب النقاش العام بشأن حدث بكل هذه الأهمية والتأثير، يكشف أزمة المثقف العراقي، ومعه أزمة مستوى الوعي لدى المجتمع العراقي بشكل عام. لكن باعتقادي، وحسب السياق التاريخي والموضوعي الذي يمر به العراق، ليست هناك أية ضرورة أو أهمية لإثارة مثل هذا الجدل، فالمجتمع العراقي أحوج ما يكون لضبط النفس وإحلال الأمن والسلام، وليس لمثل هذه القوانين المثيرة، التي ليس لها من هدف خلا إشغال المجتمع عن أولوياته، التي لا يرى مجلس النواب نفسه مُجبرا عليها، مثل الأمن والخدمات ومكافحة الفساد ورفع مستويات الاقتصاد العراقي".

يُرجع المفكر العراقي أبو الرغيف الأمر إلى بنية المجتمع السياسي العراقي، قائلا: "اليوم لا وجود لأحزاب علمانية في العراق، وليس لدينا حتى أحزاب مدنية. فعندما أنعت حزبا ما بأنه مدني، فهذا يعني حتمية عدم تبنيه لأي إطار عرقي أو ديني، لأن الأحزاب التي تتبنى مثل تلك الأطر، لا تؤمن حتما بالتعددية السياسية. حتى أكثر الأحزاب العراقية مدنية من حيث الشكل الظاهر، كالحزب الشيوعي العراقي، ليس حزبا مدنيا في المحصلة، لأنه لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، ولا حتى بالتعددية الحزبية والسياسية، وهذا ما يجعل المشهد السياسي العراقي خاليا من أي تيار سياسي قادر على إدارة نقاش عام حول مدى مطابقة أية قضية عامة للمصلحة العامة للشعب العراقي".

أ ف ب
المرجع الشيعي السيد علي السيستاني في النجف في 6 مارس 2021

يُعيد أبو الرغيف التكوين الراهن إلى ما تأسس له في عام 2003، رابطا الأمر بالتدخل الإيراني في العراق، متابعا: "أثناء مرحلة الاحتلال، وما بعده، تمكنت أحزاب سياسية ما من تسلم المشهد السياسي، وأصبحت مكرسة ومتجذرة في المشهد العام والسلطة الحاكمة للبلاد بسبب الديمقراطية التي كانت مُعمدة بنظام المحاصصة والتوافقية، التي سمحت لها بالاستيلاء على الأموال العامة والسلطة الشاملة وكل مقدرات البلاد. لقد كانت الولايات المتحدة وإيران فاعلتين أساسيتين ضمن هذا السياق، مع فارق أن الولايات المتحدة بقيت تتبنى الأحزاب الأكثر حضورا وقوة، دون دعم للناشطين أو التيارات السياسية غير المكرسة، أو دفعها لتشكيل تنظيمات فاعلة؛ بينما إيران عملت بشكل تفصيلي على التنظيمات الموالية لها، وبنفس طويل المدى. إيران لها مصالح كبرى داخل العراق. لكن برأيي، ثمة اتجاهان واضحان ضمن النظام الإيراني، الأول هو اتجاه الدولة، والثاني اتجاه الثورة. وإن كان لكل واحد منهما خطاب خاص، لكنهما في المحصلة يطابقان متطلبات الدولة الثيوقراطية، ومتفقان على أن المصالح العليا هي المصلحة الوطنية/القومية العليا لإيران، وحسبما تقتضي هذه المصلحة من تأييد لتيار سياسي أو آخر ضمن العراق، فإن الأذرع الإيرانية تطبق ذلك، بكل جدية ومثابرة".

المتن الأكبر من الأجواء السياسية الشيعية في العراق لا تُبرز أو تكترث بهويتها العربية، فهي تطرح نفسها ككيان حركي إسلامي يتبع ولاية الفقيه، تأتمر بما يقره

يُعلق المفكر العراقي رحيم أبو الرغيف على المشهد السياسي الإقليمي الحالي، تحديدا في ما يخص تراجع النفوذ العسكري والسياسي الإيراني في ظل الحرب بين إسرائيل وأذرع إيران، والهجمات التي طالت الداخل الإيراني نفسه، مضيفا: "تشهد إيران حالة من التراجع والضعف الاعتيادية التي تصيب الدول والإمبراطوريات التي وصلت ذروة ما كانت تصبو إليه. وهذا سينعكس على الأحزاب العراقية الموالية لإيران، تحديدا التي تتبنى رؤية مذهبية وأيديولوجية، تحديدا تلك المنخرطة في الجهد العسكري الإيراني، تحت يافطة (المقاومة الإسلامية). وحسب تجربة وخبرة عراقية متراكمة، فإن هذه الأحزاب ستدخل في مساومات واضحة مع باقي القوى العراقية عقب هذا الضعف الإيراني".

يحمل أبو الرغيف رأيا خاصا حول آلية تشكيل "الحشد الشعبي" العراقي، نافيا أن تكون المرجعية الشيعية العليا في العرق قد أسستها، مضيفا: "المرجعية الشيعية العليا دعت المتطوعين إلى المشاركة العسكرية لحماية الأماكن المقدسة من هجمة تنظيم "داعش" الإرهابي، وفقط كذلك، لكن القوى السياسية الفعالة والنافذة، ومثلها مجلس النواب العراقي، استغلت فتوى المرجعية الدينية تلك، وشرعت قانون "الحشد الشعبي"، وحولته إلى مؤسسة أمنية داخلية دستورية. و"الحشد" لا يعني إلا زيادة في هياكل الدولة العراقية، في ظل خلل رئيس في الموازنة العامة للبلاد. حيث أصبح كل ذلك جزءا من الماضي، لأنه صار مكرسا في الواقع العراقي الراهن، لكن فصائل الحشد مُجبرة راهنا على أن تقرأ الأحداث والمشهد الإقليمي بكل تمعن، وتتصرف بشكل مختلف، حتى لا تدخل العراق في مطبات صعبة للغاية". 

رستم محمود
المفكر العراقي رحيم ابو الرغيف (الى يسار الصورة) مع امير الطائفة اليزيدية في العراق والعالم حازم تحسين بيك

وينفي السيد رحيم أبو الرغيف أن يكون الحل لحالة الاستقطاب الطائفي الحالي في العراق، ومثله في الكثير من دول المنطقة، أن تكون عبر تشكيل "إقليم سُني" في المناطق الوسطى والغربية للعراق، "ثمة دعوات لتشكيل كيان ذي صبغة وصيغة طائفية سُنية في بعض مناطق العراق، كرد فعل على سلوكيات واستراتيجيات الأحزاب الطائفية الحاكمة، وما تتسبب به من مظلومية بحق القواعد الاجتماعية في هذه المناطق في العراق، لكن فعل ذلك سيعني تكريس الطائفية سياسيا وجغرافيا، وهو يبدو أمرا غير لائق بالقرن العشرين، حتى لو كانت رد فعل على بعض الممارسات السلطوية الطائفية، فالخطأ لا يُبرر الخطأ المقابل".

ويفكك المفكر العراقي رحيم أبو الرغيف البنية العميقة للأوساط السياسية/الدينية العراقية، وهو الذي عايشها لعقود كفاعل سياسي ضمنها، مضيفا: "المشكلة أن المتن الأكبر من الأجواء السياسية الشيعية في العراق لا تُبرز أو تكترث بهويتها العربية، فهي تطرح نفسها ككيان حركي إسلامي يتبع ولاية الفقيه، تأتمر بما يقره، وتحمي نفسها من أي تكليف شرعي عبر هذا الولاء والارتباط. هذا مختلف عما في الأوساط الاجتماعية والشعبية الشيعية العراقية، التي تتبع المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، الذي يعمل بمنأى عن الانخراط في العمل الحزبي والسياسي، وطبعا عن أية أيديولوجيا تتبناها الفصائل والكيانات السياسية التي تؤمن بولاية الفقيه".

ينفي أبو الرحيم وجود تناقض بين توجهات المرجع الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني، غير المؤمن بولاية الفقيه، وبين سلوكيات وأفعال الموالين لاتجاه ولاية الفقيه في العراق، ويشرح: "المذهب الشيعي يفتح المجال واسعا أمام تعدد أنماط التفكير المبنية على الاجتهاد. فكل مرجعية اجتهادية شيعية تستطيع أن تبحث وتحدد وسائلها وأدواتها البحثية الخاصة بها، سواء في مسائل الفقه والأصول المتعلقة بالأحكام الشرعية، وحتى بأكبر القضايا. لأجل ذلك يُمكن لأكثر من رأي وتوجه أن يتعايش ضمن نفس البيئة. لكن وجهة النظر الأكثر رسوخا ضمن فضاء الشيعية الإمامية تقول إن المرجع الأعلى لا يتدخل في الشأن والعمل السياسي، لا في الدولة ولا مؤسساتها وقراراتها، ومجال عمله هو الإرشاد والتوجيه في القضايا والأمور المتعلقة بالأدبيات الدينية والأحكام الشرعية". 

ويؤيد أبو الرغيف ويدعم مشروعا سياسيا/ثقافيا يدعو إلى مراجعة كل المواقف والسياسات القائمة على أساس طائفي، وفي مختلف المناطق التي يسميها (المعمورة العربية والإسلامية)، ويضيف: "التجربة تفرض عليها أن تعمل على قاعدة الأقرب فالأقرب، فالمسلم العراقي بالنسبة لي هو أقرب للمسلم الإيراني، أيا كانت طائفته، حسب المدونة التي أؤمن بها، وعلى جميع الدول والقادة والقوى السياسية تجاوز ما حدث في السابق. شخصيا وجدت خطاب المملكة العربية السعودية تجاه ما يحدث في العراق إيجابيا للغاية. فمن خلال الوفود العراقية التي زارت السعودية مؤخرا، كان ثمة ارتياح عراقي تام، وحبذا لو استمر ذلك على الدوام، على قاعدة احترام العراق وتنوعه الهائل. لأننا لو استعرنا مصطلح نهاية التاريخ، فإن أحداث المنطقة تدل على أننا نعيش نهاية العمر الافتراضي للمشروع الإيراني، وإيران مُجبرة على مراجعة كل سياستها ومشروعها تجاه المنطقة، ونحن بدورنا نستطيع أن نُشيد مشاريع على أسس وطنية بحتة، خارج الخطابات الدينية والطائفية والعرقية. فالكردي العراقي أقرب لي وأكثر وصالا وتداخلا بالمعنى الحياتي والسياسي من أي شخص أشاركه المذهب والدين من خارج العراق، وهذا بالنسبة للآشوري والتركماني وغيرهما، وأظن أن تعميم هذه القاعدة سيخلق حالة هدوء في مختلف دول المنطقة".

font change

مقالات ذات صلة