فنانون في غزة يستعينون بالموسيقى لمعالجة آثار الحرب والتشبث بالأمل

غناء يبدد القلق ويساهم في حفظ الهوية

فنانون في غزة يستعينون بالموسيقى لمعالجة آثار الحرب والتشبث بالأمل

بين مخيمات النزوح في غزة، هناك موسيقى تُعزف، وغناء يتم التمسك به، على الرغم من الوقائع المأسوية والأوضاع المعيشية الصعبة. مشاهد تجسد جزءا من المشهد خلال الحرب التي سعت إلى تدمير كل مقومات الحياة داخل القطاع المحاصر، والذي واجه حربا وتجويعا وتهجيرا، منذ أكثر من 450 يوما، وحتى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، فإن أزمة النزوح ستظل أحد عناوين هذه الحرب لا سيما أنه لم تعد هناك منازل يعود إليها أولئك النازحون.

رغم الخوف والقلق والبرد، يجلس أهالي مخيمات المواصي، ودير البلح، في سهرات ليلية، يتسامرون، ويشتكون الحال، ويضحكون ربما. يتشاركون أغاني التراث الفلسطيني والعربي، لعلهم بهذه الطريقة يسكتون صوت الحرب ويكتمون ضجيجها، ولعل حناجرهم المرتفعة بالغناء تعلو فوق هدير المقاتلات الإسرائيلية أو صوت "الزنّانة" المتواصل. فالحرب، على ضراوتها، لم تستطع إطفاء شغف الحياة لدى الفلسطيني، ولا استطاع الحصار حبس رغبته في التعبير عن هويته الثقافية، وإن من داخل خيمة.

هناك أنشطة كثيرة مع الأطفال واليافعين أيضا، يديرها شباب يحترفون العزف والغناء، وقد تمكنوا من العمل ضمن مجموعات من أجل الحفاظ على التماسك الاجتماعي واختلاس لحظات من الفرح وسط الألم الكبير.

مواساة

يبدو لافتا في هذا السياق، الأثر الكبير الذي تتركه الموسيقى على الأشخاص، إذ أنها تواسيهم وتمنحهم القدرة على التعبير عما يختلج في داخلهم من مشاعر حزن وغضب ومن توق إلى الحب والجمال.

أؤمن بقدرة الموسيقى على إسناد الإنسان وتخليصه من عذابه ولو مؤقتا، وانطلاقا من هذه القناعة أعمل مع الأطفال واليافعين داخل المخيمات

أحمد أبو حسنين

يحدثنا العازف والمغني الفلسطيني أحمد أبو حسنين عن ذلك: "كل مرة تنجح الموسيقى في معالجة الخلايا التالفة داخلي، أؤمن بقدرة الموسيقى على إسناد الإنسان وتخليصه من عذابه ولو مؤقتا، وانطلاقا من هذه القناعة أعمل مع الأطفال واليافعين داخل المخيمات".

يعزف أبو حسنين على آلة العود. ولطالما رأيناه جالسا بين الأطفال حتى قبل الحرب، يعزف ويغني، متواصلا بنظراته وإيقاعات آلته مع الأطفال الملتفين حوله. "أعتبر نفسي بكل مشاعري وحواسي، وترا من أوتار آلة العود". هكذا يقدم نفسه، كجزء من مسيرة الفن الفلسطيني، الذي لم يُقدم يوما في سياق اعتيادي، "أشعر أنني ما زلت قادرا على الحياة، بفعل تلك الأصوات الحزينة، والفرِحة أحيانا، التي تصدر كلما عزفت على العود".

Bashar TALEB - AFP
أحمد أبو عمشة، معلم موسيقى من بيت حانون، يسلي الأطفال في مخيم بخان يونس حيث لجأ مع عائلته

مثله، يرى العازف والمغني باسل نصر الله أن الفن قادر على بث الحياة وترتيب فوضاها، يقول: "أحتاج إلى العزف والغناء لكي أعيد تركيب أجزائي، وأثبت وجودي الذي لطالما حاولت الحرب محوه".

نسأل نصرالله عما تمنحه إياه الآلة فيجيب: "لطالما بحثت عن صديق أمين، فكان الغيتار بمثابة الصديق الذي يمد يد العون، من المستحيل أن تراني مستسلما لليأس وفي يدي الغيتار".

من جهته، يعتبر العازف حسام حسونة أن الموسيقى وصفة مضادة للخوف والألم، فهي "تمنحك إحساسا بالأمان، وتسرد قصتك كما لا يفعل شيء سواها، فكلما عزفت خلال الحرب، تعرفت الى الحياة أكثر".

يعزف حسونة على الغيتار، ويجد مساحة من الهروب من الموت خلال عزفه، كما يقول. تلك المساحة قد لا تبدو سحرية، لكنها أشبه ببساط أحمر يشعره بأن الفن دائم التكريم للإنسان، حتى في حضرة الموت، وكل موانع الحياة.

عمّ يبحث الفنان خلال الحرب؟

يمكن رؤية الحضور الاستثنائي للفن في حياة الفلسطينيين، انطلاقا من الواقع المأسوي الذي يفرضه الاحتلال، فصارت الهوية الثقافية مقترنة بالأرض والتعبير عن الشوق إليها والأسى عليها، لكن لم يغب عنها الحلم بحياة أفضل.

تمنحك إحساسا بالأمان، وتسرد قصتك كما لا يفعل شيء سواها، فكلما عزفت خلال الحرب، تعرفت الى الحياة أكثر

حسام حسونة

يرى أبو حسنين أن "البحث عن الحياة خلال الحرب، يكاد يكون وظيفة من وظائف الفن، فهو أحد مصادر حياة لا تطاولها يد الموت مهما زادت شراستها". فرغم الكارثة الفلسطينية المتمادية، لم يلغِ الواقع الحاجة إلى الموسيقى، بل منحها مزيدا من الحيوية. لكنه جعل من المكان والحدث، في كثير من الظروف، قيدا لها، يخبرنا أبو حسنين: "تسكت آلتي أمام عيون أمهات الشهداء، وأمام ذوي المفقودين خلال الحرب، قد تفتح الموسيقى جرحا، وتزيد ألمه، لذا أنسحب في حضرة الدم، وكذلك أمام من يتذكرون واقعهم الصعب، فيمكن تأجيل الموسيقى، في تلك اللحظات الحرجة".

Omar AL-QATTAA - AFP
أطفال يشاركون في مخيم صيفي بعنوان "سلام لغزة" في مخيم جباليا

أما نصرالله فيعترف بأن البيئة داخل مخيمات النزوح غير مناسبة لممارسة الفن على النحو الاعتيادي، فهي تلغي خصوصية الفنان، لكنه يتدارك: "الحياة تبقى قوية مهما امتد حداد الإنسان على فقد أهله وذويه، ومهما اشتدت قبضة الحزن".  يضيف: "أعتبر الموسيقى داخل البؤس الذي نحياه، طريقة للتحدي والوقوف في وجه الظلم، فالموسيقى والغناء يغيظان المحتل، ويشعرانه بأننا لا ننكسر".  

Anas Zeyad Fteha - Anadolu via Getty Images
محمد أبو عيسى، 14 عاما، يعزف الكمان بيده الاصطناعية بمساعدة معلمته سما في مخيم النصيرات

يبثّ حسونة مشاعره وأفكاره وهويته عبر أنغام غيتاره، محاورا الناس من حوله، محاولا التأثير بهم، قدر المستطاع. يقول: "على الرغم من الضجة وغياب الخصوصية في المخيم، إلا أن الناس بحاجة إلى الفن، كغريق يبحث عن قارب وسط البحر، الموسيقى مرسى موثوق للمُتعبين"، أما على المستوى الشخصي، فيقول: "أنسحب من حولي إلى المكان الذي أريده، بالعزف والموسيقى، وكأنه يقول بأن ما عليك فعله هو ركوب الإيقاع وسيلْحق بك الجميع.

الموسيقى داخل البؤس الذي نحياه، طريقة للتحدي والوقوف في وجه الظلم، فالموسيقى والغناء يغيظان المحتل، ويشعرانه بأننا لا ننكسر

باسل نصر الله

يعطي أبو حسنين التراث الفلسطيني أهمية بالغة، مؤكدا أن "الشعب الذي يغني ويعزف الموسيقى، لا يمكن أن يندثر، فثقافة الشعوب وأصالتها تتأصل عبر الموسيقى، فهي ذاكرة لا يمكن إسقاطها، وما أحاول القيام به خلال الحرب، تمكين هذه الذاكرة الفنية بين النشء فنعزف ونغني 'على دلعونا' و'إحنا طلائع فلسطين' و'يا يما في دقة عبابنا' وغيرها".

يضيف: "علينا أن نواصل ترسيخ هويتنا في أطفالنا، فالصغار هم مستقبلنا، وتراثنا الفني أحد أهم العوامل التي ترسخ حقنا في أرضنا، ونضالنا لنيل الحرية".

ويرى نصر الله أن ما يغنيه مع الناس يعالجهم، ويساعدهم على التمسك بما تبقى من حياتهم القديمة. يقول: "نغني تراثنا: دلعونتنا، أذكر يوما كنت بيافا، يا طير الطاير... أرى فلسطين أجمل وأنا أعزف، وأحبها بذلك الكمال المتخيل".

Mohammed Salem - REUTER
أطفال فلسطينيون يتحدثون في مخيم في خان يونس

ويؤكد حسونة "أن الفن رسالة، قد لا تصل بعض الوقت، لكنها ستصل أخيرا". ذلك التمسك الذي يشعرك بأن فلسطين، اليد التي ستخرج في النهاية، بيضاء من غير سوء. يضيف حسونة: "إن احتفاظنا بتراثنا هو تشبث بالأمل، نزرعه في أطفالنا، وهذا الهدف الذي خلق الفن من أجله وازدهر بسببه... صحيح أننا لا نشعر بالفارق الآن، لكن يكفي أننا نعد أطفالنا بالأمل عبر الموسيقى، فكم جميل أن يرانا العالم ويجدنا نعزف ونغني". وكأنه يقول، تعرضنا للدغة الثعبان السامة، لكننا منعنا السم من الوصول إلى أرواحنا".

font change

مقالات ذات صلة