التلقي العاطفي وأسئلة النقد في فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"

جماليات باهرة لا يتسع لها النص السينمائي

التلقي العاطفي وأسئلة النقد في فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"

منذ بعض الوقت، يمكن القول إن السينما المصرية تعيش أياما سعيدة. في دور العرض، أفلام متنوعة في موضوعاتها وأساليبها الفنية، تنتمي إلى السينما التجارية، لكن لحسن الحظ، خارج الثنائية المكرورة التي استولت على معظم إنتاج الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة: بين الكوميديا الثقيلة الظل الركيكة الصنع، وبين "أكشن" الذكورة الفائضة والتقليد الهوليوودي. اليوم على الأقل، ثمة أفلام لمخرجات ومخرجين، تحمل رؤى حياتية وفنية متباينة، وتحقق إلى ذلك إيرادات مرتفعة في شباك التذاكر.

من بين الأفلام اللافتة في الآونة الأخيرة، فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، من إخراج خالد منصور، وتأليفه بالاشتراك مع محمد الحسيني. "رامبو" -اختصارا- هو الفيلم المصري الذي انتظرناه طويلا، منذ إعلان مشاركته في "مهرجان فينيسيا الدولي"، وحتى عرضه في "مهرجان البحر الأحمر الدولي"، وحصوله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة وكذلك عرضه في مهرجان قرطاج وحصوله على تنويه خاص، آخر الأحداث السعيدة للفيلم على المستوى النخبوي، قبل طرحه في دور العرض التجارية، مصحوبا بدعاية ذكية، تركز أساسا على حكاية رامبو (اسم الكلب). رامبو هو بطل حقيقي في الفيلم، إلى جانب عصام عمر، صاحبه وراعيه. وقد حضر الأخوان رامبو (أدى الدور في الفيلم كلبان شقيقان) مع طاقم العمل، العرض الخاص للفيلم، قبل يومين من نهاية العام.

حضر رامبو على ملصق الفيلم، وبالطبع في متن عنوانه، علاوة على الإعلان التشويقي، وضمن حكايات الصُناع عن رحلتهم مع العمل، بحيث صار نقطة جذب كبرى يصعب تجاهل تأثيرها، ومحركا مسبقا وفعالا لتعاطف المشاهدين.

هناك العديد من الأفلام الأميركية المؤثرة عاطفيا التي جعلت من الحيوانات أبطالا تدور حولها القصص السينمائية وتتصل بعلاقتها الحميمة وربما حتى الحامية مع البشر. وهو ما يتطلب مشقة على مستوى التنفيذ السينمائي، أن يحصل الحيوان على تدريب طويل قبل التصوير، وأن يجري تحضيره لعلاقة خاصة مع الممثل أو الممثلة. في المقابل، ربما لا تكون لدينا نماذج مماثلة يمكن استدعاؤها بسهولة من الذاكرة بخصوص السينما المصرية.

مع ذلك، فإن السؤال هنا هو هل يكفي تأسيس هذه الرابطة العاطفية مع الحيوان عموما، وفي حالة فيلم "رامبو" خصوصا، من ناحية بين البطل حسن (عصام عمر)، ورامبو (الكلب). ومن ناحية ثانية بينهما معا وبين المشاهدين؟ هل تكفي هذه العلاقة، لتحقيق تجربة مشاهدة مشبعة، غير مقيدة بالضرورة بأسر التحيز العاطفي، وغير متناسية كذلك أن الأفلام السينمائية، وإن مست نقاط ضعفنا الإنسانية، لا تتشكل في فراغ، إنما تتحقق في سياقات فكرية واجتماعية وسينمائية تخص صناعها أولا، ومتفرجيها ثانيا بصفتهم المتفاعلين مع هذه الرسالة السينمائية من الجمهور والنقاد.

هل تكفي هذه العلاقة، بين بطل الفيلم وكلبه، لتحقيق تجربة مشاهدة مشبعة، غير مقيدة بالضرورة بأسر التحيز العاطفي؟

في حالة الأفلام التي تشتغل أساسا على العاطفة (وربما تنزلق إلى حد الابتزاز) قد تبدو العملية النقدية متطفلة، زائدة على الحاجة، وحتى باردة. وتزاد المهمة النقدية صعوبة، حين يستند التلقي العاطفي وتوكيده عبر وسائل الدعاية ومنصات التواصل الاجتماعية، إلى جدارة الفيلم سينمائيا بناء على أسماء المهرجانات الكبرى التي عُرض فيها حول العالم، وعناوين الجوائز التي حصل عليها. في هذه الحالة، تصنع الأفلام لنفسها، ولصناعها بلا شك، نوعا من الحصانة، في وجه النقد، والمتفرجين العاديين فقط.

مشهد من الفيلم

"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، هو أحد تلك الأفلام التي خلقت لنفسها حصانة ضد النقد، بمعناه التساؤلي التفكيكي. القول بهذا لا يعني في أي شكل أن صناع الفيلم، تقصدوا إحداث هذه الحالة أو أنهم حتى دعوا إليها، فالمسألة أقرب إلى تأثير جانبي غير متعمد لتحول الفيلم إلى ظاهرة سينمائية عاطفية في الأساس.

ومع ذلك يبقى التقدير الحقيقي لأي عمل سينمائي جاد (أي أنه مصنوع بإخلاص وجدية)، مرتبطا بالنقد، وقدرته على طرح الأسئلة حول الفيلم، ومحاولة الإجابة عنها من واقع المتن السينمائي نفسه، لا من خارجه. بعض الأفكار التي يتناولها هذا المقال، عبّر عنها بشكل أو بآخر بعض من حضروا معي الفيلم، لكن اللافت أنهم تحفظوا عن التعبير صراحة في منصات وسائل التواصل الاجتماعية، ربما كي لا يجرحوا هذه الهالة التي صارت اليوم ملازمة للفيلم، ولأي حديث يدور حوله.

المخرج خالد منصور

حكاية رامبو

بداية، يروي "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، حكاية بسيطة ظاهريا لكنها تتضمن تقاطعات أوسع، عن حسن الذي يسكن ووالدته ألطاف (سماء إبراهيم) في حي شعبي من القاهرة، معه كلبه رامبو. منذ المشهد الأول في الفيلم، يحاول المخرج خالد منصور أن يُرينا عمق العلاقة بين رامبو وحسن، إنه يخاطبه كأنه طفل، يداعبه، على خلفية فيلم تسجيلي عن الأسود التي تهاجم الكلاب البرية. مبكرا يقدم لنا الفيلم فكرة الالتهام، وكذلك فكرة الهشاشة والرقة. لن نحتاج وقتا طويلا قبل أن ندرك أن الكلب رامبو هو كل العالم الذي يحيا فيه ومن أجله حسن، وأن الأخير غير راغب في الانخراط في أي عالم آخر، خارج هذه البراءة.

مشهد من الفيلم

سريعا أيضا يظهر العائق أمام نمط الحياة الوديع هذا. إذ يريد كارم (أحمد بهاء) وارث الشقة الصغيرة الخانقة التي يسكن فيها حسن وأمه، أن يخرجهما منها، وهما المستأجران حسب عقد قديم مع والد كارم، كي يتوسع في أعماله التجارية. لا يحقق كارم مراده بطريقة ودية، إنما يلجأ إلى التهديد والفظاظة واستعراض القوة، أمام ألطاف الوالدة وفي حضور حسن، الذي لا يكفّ كارم عن استفزازه في محاولة لإيذائه، وإخضاعه لإهانة ما.

نحن لا نعرف عن حسن سوى النذر اليسير، لا سيما في البداية. هو شاب هادئ خاضع لمرؤوسيه، لا يشكو ولا يتذمر، يعمل موظف أمن، ويصحب رامبو في كل مشاويره، من البيت إلى العمل. وبعد كل هذا الخضوع، والرضا بالعيش مهمشا، على الرغم من أن حسن ينتمي الى الطبقة المتوسطة، ويبدو متعلما، يمكن أن يطالب بمهنة أفضل، وحياة أفضل، ندرك أنه يحمل ندبة ما في روحه، أو تمزقا نفسيا يتناساه بالانغماس في هذا اللعب مع رامبو.

الكلب رامبو هو كل العالم الذي يحيا فيه ومن أجله حسن، وأن الأخير غير راغب في الانخراط في أي عالم آخر، خارج هذه البراءة

من هنا فإن اختبار حسن في رحلته كبطل، يكمن تحديدا في تهديد هذه العلاقة بينه وبين رامبو. بشكل موضوعي، كان يمكن هذا التهديد أن يقود إلى مساعدة حسن على الخروج من منطقته الآمنة أو التي يعتقد أنها كذلك، بينما هي ليست أكثر من مخبأ من العالم. لكن هذه الفكرة المتفائلة، تبدو في النهاية عالة على سردية الفيلم ومعالجته التي تميل إلى التباكي والرثاء، رثاء الذات والعالم والمدينة، وكل هذا يلخصه مقطع أغنية محمد منير الشهيرة "شجر الليمون"، حين يغنيها لحسن الوالد الغائب في أحد شرائط التسجيل: "وكل شيء بينسرق مني، العمر من الأيام والضي من النني"، في إشارة طبعا إلى ضياع البيت، والأهم بالنسبة إلى حسن اضطراره للابتعاد عن رامبو.

حسن... سائق "الفسبا"

العالم الذي يرسمه صناع هذا الفيلم، يتحدد في بيت حسن، وهي شقة ضيقة للغاية، من المفترض أنها في حي شعبي، والدراجة النارية (الفسبا) التي يقودها حسن ذهابا وإيابا مع رامبو من محل عمله، ثم شوارع القاهرة التي نراها خالية تقريبا معظم الوقت، بما يناقض المعروف عن المدينة بالضرورة. وفي النصف الثاني من الفيلم، ثمة رحلة أخرى، يخوضها حسن، في محاولة لترك رامبو في مكان آمن، فيقصد أماكن أشد غرابة، كمحل لصراع الكلاب، إلى أن يصل به إلى محطته الأخيرة.

ولو أن حسن يقطن أيضا في حي غير شعبي، أو في مدينة غير القاهرة، لما غيَّر هذا شيئا من الفيلم. لا خصوصية للمكان هنا، أمام الشعور المسيطر بالتغريب عن كل ما نعرف. كل شيء مجرد انعكاسات خارجية لإحساس حسن بالاغتراب والتقوقع على الذات. تؤكدها صورة غارقة في ظلام مستمر، وإضاءة خضراء تتخلل العتمة، من دون تفسير مباشر لهذا الاخضرار المعتم الذي يحقق تأثير الوحشة والنفور، في فيلم مفترض أنه يعتمد على حميمية العلاقة بين إنسان مهمش وحيوانه المفضل.

مشهد من الفيلم

استدعاءات سينمائية

يذكرنا "رامبو" بأفلام سينمائية عدة، من بينها مثلا "سائق التاكسي" لمارتن سكورسيزي، من حيث خوض حسن لرحلته، ومعظمها ليلي، على متن "فسبا"، كما كان يفعل بطل سكورسيزي في تاكسي، ومن حيث اختباره المباشر لغياب العدل، والدور الباهت للقانون أمام طغيان من يملكون المال والسلطة في حالة سكورسيزي، أو المال والقوة البدنية في حالة "رامبو". كما يذكرنا بالفيلم المصري الذي عُرض العام الماضي "فوي فوي فوي"، من تأليف وإخراج عمر هلال. هناك أيضا كان البطل مهمشا، بل واسمه حسن، ويعيش في حي شعبي وفي شقة ضيقة مع أمه. ثمة أفلام أخرى يمكن أن نستدعيها، لكن الفارق الرئيس بينها وبين "رامبو"، هو أن حجم الحكاية هنا يبدو صغيرا جدا، حتى الخطوط التي كان يمكن أن تتطور، كخط الأم (ألطاف) أو خط الحبيبة السابقة أسماء (ركين سعد)، ابتُسرت إلى أدوار ثانوية في عالم حسن المختزل تقريبا في هذا التعلق الشديد بالكلب رامبو. وتطرح بساطة الحكاية في الفيلم، إن اعتبرناها كذلك، تحديا يتعلق بالأسلوب السينمائي الذي ينبغي، أو لا ينبغي، أن يعبر عن هذه البساطة.

مال إيقاع الفيلم إلى البطء، بطء تأملي إن جاز التعبير، سمح لمخرجه باستعراض كادرات وحركات للكاميرا وتأثيرات للضوء المتقطع مبهرة بصريا وجماليا

بلا شك ثمة ميل شعري في الفيلم، ومحاولة لتوسيع عالم حسن باللجوء إلى بعض تفاصيل عالم الثمانينات، الحقبة التي هجر فيها والد حسن ابنه، والتي صنع فيها الطفل ذكرياته، والتي ستتشكل منها بالضرورة صدمته من رحيل الأب الذي لا تفسير له، وانسحاب الطفل إلى الداخل. مع ذلك، فإن الفيلم في مجمله بدا غير قادر على التحرك من منطقة التجمد التي يعاني منها حسن إلى أي اكتشافات أخرى. ومع هذه الحكاية البسيطة، مال إيقاع الفيلم إلى البطء، بطء تأملي إن جاز التعبير، سمح لمخرجه باستعراض كادرات وحركات للكاميرا وتأثيرات للضوء المتقطع مبهرة بصريا وجماليا بلا أدنى شك. وصحيح أنه يحق لمخرج في فيلمه الأول أن يبحث عن إثبات ذاته، وابتكار لغة سينمائية تخصه، ربما تعبر عن طموح إلى نيل الجوائز العالمية، وهو ما تحقق فعلا بجوائز مستحقة للفيلم. المشكلة فقط أن هذه اللغة السينمائية الرفيعة جاءت في بعض المواقع من الفيلم، أعلى بكثير من قدرة القصة على الاحتمال.

ملصق لفيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"

إن الفيلم بدءا من عنوانه "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، وهو عنوان طويل أقرب الى عنوان رواية مترجمة منه إلى فيلم مصري تجاري، يعبّر عن هذه الرغبة ربما في تقديم الذات وتلقيها بصورة معينة. بشكل مماثل لهذا المنهج غير العفوي في اختيار العنوان، يسد صناع الفيلم كل "منفذ" محتمل على البطل، ويجوز لهم ذلك بمعنى ما، ففي الفيلم تعرية حقيقية للمجتمع وإدانة لسلطة غير قادرة على أداء أدوارها. مع ذلك فإن بعض الافتعال في السيناريو، مثل مشهد وصول المجرم كارم بشكل مفاجئ إلى رامبو من دون تمهيد درامي يسبقه، مع أنه حدث أساسي تتحدد بناء عليه أحداث أخرى، بهدف إحداث تأثير الإبهار عند المشاهد، يخصم في النهاية من الشعور بعفوية العمل أو صدقيته. وكأننا من آن إلى آخر، نشاهد يد المخرج وهي تحرك قطع عالمه، أكثر مما نحس هذه القطع تتحرك من تلقاء نفسها على رقعة عالم رامبو.

مشهد من الفيلم

صحيح أن رامبو يحصل في النهاية على منفذ للخروج من الأوضاع السيئة، دون حسن، إلا أن هذا يحدث أيضا عبر مشهد حواري مباشر يستدر العواطف وعلى خلفية من بكاء الكلب، ومجددا لا فرصة لنا كي نفكر أو نحس، إلا بما يريده لنا صناع العمل.

وبعد... هل يعني كل هذا أن "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، فيلم لا يستحق المشاهدة ولا حتى الجوائز؟ على العكس، ربما لأنه فيلم يستحق المشاهدة والالتفات والتكريم، يُستحسن أيضا أن نتوجه إليه وإلى صناعه بالأسئلة. وهم الذين ننتظر منهم أعمالا أفضل وأجمل، يتعاطف معها المشاهدون، وتحصل على الجوائز السينمائية في الآن نفسه.

font change

مقالات ذات صلة