روايتان من اليمن... أحوال بلد يحاول النهوض كلما تعثر

الكوكباني والسلامي يغوصان في الواقع الاجتماعي والسياسي خلال نصف قرن

Axel Rangel Garcia - AlMajalla
Axel Rangel Garcia - AlMajalla

روايتان من اليمن... أحوال بلد يحاول النهوض كلما تعثر

تواصل الروائية نادية الكوكباني شغفها بالمكان اليمني وقضاياه، وجاءت روايتها الأخيرة "هذه ليست حكاية عبده سعيد" الصادرة عن "دار الحوار" في سوريا، كأنها امتداد للهاجس اليمني الذي اشتغلت عليه من قبل، سواء في سرد حكايات نسائه أو في القصص المفصلية في التحولات الاجتماعية والسياسية.

في هذه الرواية تستعيد الكاتبة قصص الأواصر الاجتماعية التي جمعت بين مدينتي تعز وعدن في منتصف القرن العشرين، حيث كانت عدن جاذبة للكثيرين من أجل العمل والعيش فيها. فاتخذت من اسم عبده سعيد مدخلا لتقصّ حكاية حميمية عن ذلك الزمن المليء بالأحداث. عبده سعيد هو اسم شعبي يرتبط بتسميات أبناء تعز، ويذكّر برائد القصة اليمنية محمد عبد الولي وقصصه عن الهجرة والاغتراب. كما يذكّر الاسم، مع اسم صبحية، بروايتين سابقتين استخدمت فيهما الكاتبة الاسمين نفسيهما. وقد جاءت هذه الرواية على شكل رسائل من عبده سعيد إلى صبيحة، يحكي فيها قصة حياته وتجاربه من خلال ثلاث مدن: تعز وعدن وصنعاء، وذلك في زمن يمتد من منتصف خمسينات القرن العشرين حتى مطلع العقد الثاني من هذا القرن.

نساء ومدن

في الرواية نجد سردا لجوانب من العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع والعائلة، فتظهر قسوة الآباء وحنان الأمهات، إلى جانب اشتغال الأمهات في حقول الزراعة وهجرة الآباء، ومنهم عبده سعيد الذي عمل أبوه ساعي بريد بين المدن، أو "طبّالا"، حسب التوصيف المحلي. هناك وصف لافت للأزياء المحلية والطرق البرية القديمة بين تعز وعدن حيث كان الحمار يُستخدم وسيلة لنقل البضائع وحمل المسافرين "يريح أبي الحمار فينزل من على ظهره ويتركني عليه، إلا إذا طلبت منه النزول لأقضي حاجتي، أو يرتاح هو من عناء الطريق ويتركني ألعب مع رعاة الغنم المارين بجوارنا".

سنعرف من خلال عبده سعيد، الذي يذهب بصحبة أبيه وهو طفل إلى عدن دون أمه، الكثير من الحكايات العابرة عن المدن والمقاهي التي يعبرها مع أناس يبحثون عن فرص للعمل والاستقرار. وفي الطريق يتعرف الى قرية "دُكيم"، حيث تعيش "أمه الجديدة" كما قال له أبوه. وهناك يعرف أن هذه الأم الجديدة هي زوجة أبيه الثانية، التي تعامله بحنان في البداية قبل أن تتحول علاقتها به إلى نوع من القسوة وسوء العيش "بعد سفر أبي عرفتُ معنى أن أكون وحيدا، رغم وجود الأم الجديدة. أنفذ ما تطلبه مني من أعمال في حقل الجوافة وفي المنزل دون أن تنتزع مني كلمة، أطبق عليّ الحزن، وابتلع صوتي. أتلذذ بوخز رائحة الجوافة في أنفي. أتسلق الأشجار لأجني المحصول، أذهب للسوق لبيعه أو مبادلته بسلع أخرى. ثلاثة أعوام في دُكيم لم أتناول خلالها وجبة طعام حد الشبع، أو أرتدِ فيها يوما ثوبا جديدا".

تربط الكاتبة قصص عبده سعيد الخاصة بمجمل التحولات التي شهدها اليمن خلال أكثر من نصف قرن، وذلك بلغة تتراوح بين الانسيابية المشوقة واللغة الحاملة لخطاب سياسي

وإن يصل إلى عدن بعدها وعمره تسع سنوات فإن الحكاية تزداد اتساعا وتتغير كل تفاصيل حياته، بعدما صار يدرس ويعمل خادما لأسرة عدنية ترسل راتبه كل ثلاثة أشهر إلى أبيه. وكانت العائلات الميسورة هناك تستخدم الأطفال للعمل في الخدمة المنزلية لسهولة التنقل في المنزل بوجود النساء. في هذه المدينة يندهش إذ يشاهد السينما والبحر، ويبقى يراقب أحوال الناس الذين يعانون من تسلط الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب، ويندمج مع كل التطلعات اللاحقة التي شهدتها اليمن. كما أن علاقاته مع النساء تتعدد بتعدد المدن التي سكنها، وأولاهن البائعة المتجولة، منتهى الهندوسسية، التي يفتتن بجسدها بعدما أصبح شابا ينغمس معها في اللذة بكل عنفوانها. وهي لذة تكسوها أجواء روحانية تقترب من روح الشرق، فمنتهى تصف نفسها بأنها هندوسية مسلمة، وحين تقرر الذهاب إلى الهند بعد رجوع عبده سعيد إلى تعز، تقول له "يكفي أن تقول في سرك إني طالق حتى أتحلل من أية مسؤولية".

غلاف رواية "هذه ليست حكاية عبده سعيد"

هذه الثقة بالنفس نجدها في كل نساء الرواية، كشخصيتي الست وراوية في عدن ونعمة في صنعاء وبدور التي تبيع الفاكهة والقات في تعز "تفعل ما تريد ولا تكترث برأي من حولها". وهو تصور يختلف عن تصورها لشخصية الرجل التي تبدو، في الغالب، قاسية ومخادعة ومستغلة وغير مسؤولة، باستثناء بعض الثوار وأبي بدور وعبده سعيد، الذي أراد ألا يكرر سلوك أبيه.

 Ahmad AL-BASHA - AFP
ناس يتسوقون في سوق شعبي بمدينة تعز

تربط الكاتبة قصص عبده سعيد الخاصة بمجمل التحولات التي شهدها اليمن خلال أكثر من نصف قرن، وذلك بلغة تتراوح بين الانسيابية المشوقة واللغة الحاملة لخطاب سياسي نقدي، يتخلله الكثير من المعلومات عن المسارات التاريخية، وهو أسلوب عرفناه سابقا في روايتيها "صنعائي" و"سوق علي محسن".  وكأن الكاتبة تقدم روايتها لتاريخ اليمن الذي يحاول النهوض كلما تعثر.

MOHAMMED HUWAIS - AFP
زوار ينظرون من قلعة صيرة المطلة على ميناء عدن القديم

أجواء مباحة

في أول أعماله الروائية "أجواء مباحة" الصادرة أخيرا عن "دار الآداب" البيروتية، يعود بنا الشاعر أحمد السلامي إلى عام 2007 والعام الذي يليه، حيث اخترقت طائرات دون طيار أميركية الأجواء اليمنية، مستهدفة عناصر إرهابية "جهادية"، مما أدى، أحيانا، إلى مقتل مدنيين ونجاة الأشخاص المستهدفين. فعامر، الشخصية الرئيسة في الرواية، يسرد قصة أخته هدية وبناتها هارمونيكا ونسمة وأميرة، بعدما تعرضن لقصف واحدة من هذه الطائرات أودى بحياتهن في قرية صدر الجبل، فيما نجا سهيل أبو سرة، الشخص المستهدف (الجهادي)، الذي فر فور سماعه تحليق الطائرة فوق منزله "ربما كانت خطتهم تقضي باستهداف سهيل وهو نائم، لكن الموت بتلك الطريقة القذرة كان من نصيب شقيقتي وبناتها. أما الهدف الذي كانوا يقصدونه، فقد قفز مثل كلب سهران من سطح الدار بعد أن سمع أزيز الدرون، فحدث لنا ما حدث، بينما لا يزال أبو سرة يتجول وينهب البنوك ومحال الصرافة ويرفع صوته بالتكبير، وهو يعرف أنه مجرد محتال، أما أولئك الذين يعتقدون بأنهم سوف يحررون الجزيرة العربية باسم الجهاد، فليسوا إلا حفنة من المحتلين والتائهين الذين يُعبِّدون طريقهم إلى جهنم، منذ أن هجروا مزارعهم وزوجاتهم، ورفعوا الرايات المظلمة مثل قلوبهم، واعتنقوا يوتوبيا الموت". 

هي رواية السلامي الأولى، ومع هذا أظهرت قدرة سردية لاستكشاف بعض مشاكل اليمن التي بدا إظهارها هاجسا أساسا لديه

تكشف الرواية عن علاقة متشابكة مع الحدث الرئيس، فـ"الأمرط"، صاحب الدكان، هو الذي دس شريحة التتبع لسهيل في صندوق البرتقال الذي اشتراه منه قبل أن يذهب إلى منزله.

MOHAMMED HUWAIS - AFP
جدارية لطائرة بدون طيار كتب عليها "لماذا قتلت عائلتي؟"

وسيلقى ابن الأمرط حتفه في عملية دهس بسيارة بعدما بقي يعلن أنه سيلحق، وبقية أفراد عائلته، أباه الذي غادر إلى أميركا مكافأة له على مساعدته في تعقب المستهدفين من إدارة مكافحة الإرهاب. وسيلمح البعض إلى أن سهيل أبو سرة هو من قام بهذه العملية لكن الشيخ فضل عدم إثبات التهمة حتى لا تندلع مواجهة ثأر بين العائلتين. وفي وقت لاحق سيكون هناك مصير مفاجئ للأمرط نفسه في أميركا بعدما تلقى خبر وفاة ابنه. فيما يتعهد عامر لأجهزة أمن الدولة، بعد سجنه، بعدم طرح قصة مقتل أخته وبناتها للصحافة. إلا أن صديقه السويسري كلود يخبره، بعدما عاد إلى جنيف، أنه نقل القصة إلى منظمات كثيرة هناك.

غلاف رواية "أجواء مباحة"

العيش في الفراغ

حدد السلامي موضوع روايته، أو محنتها التي هي وجهة قصته، فيسرد عامر في هذا السياق بعض الأحداث كمهاجمة سفارة واشنطن في صنعاء، والتحاق بعض الشباب بمنظمات جهادية والاعتداء على السواح، وعلاقة جميل، زوج أخته نجمة بمجموعة من العملاء. إلا أن عامر يخرج عن سياق السرد المحدد في العتبات أو الإطار العام، فنجده يسرد في مشاهد حميمية علاقة نشوان، ابن شيخ القرية (العاقل)، بالنساء اللواتي يصادفهن بسيارته الأجرة، ولا يتمنعن، جميعهن، عن تحقيق رغباتهن بأي شكل، وصولا إلى حبيبته المصطفاة منهن، التي تغار عليه وصارت تهبه بعض المال من أجل أن يمتنع عن العمل في السيارة الأجرة، قبل أن يفارقها تلبية لرغبة أبيه، فيعيش في فراغ يقوده إلى الانضمام الى الجهاديين.

KHALED FAZAA - AFP
جنود يمنيون يؤمنون موقع هجوم قرب السفارة الأميركية

كل ذلك من خلال راو عليم، مشارك بالأحداث أو غير مشارك، يعرف تفاصيل ما يحدث. وهو الحال نفسه، الذي نجده في تناول حياتي الخال، الديبلوماسي العسكري، والصحافي عبده الكوكبي. وإن كان لهذين الشخصين علاقة ببعض سياق السرد، حيث أن الخال ارتبط باللعبة (الهارمونيكا) التي أهداها إلى ابنة أخته هدية فيما ارتبط الصحافي الكوكبي بنشر أخبار ما حدث لأخت عامر وبناتها، إلا أن الكثير من جوانب حياة هؤلاء الثلاثة، وغيرهم، تبدو قصصا مجاورة للقصة الرئيسة. وهي قصص تعج بالفاسدين ومتقلبي المواقف والأمزجة، والمتخاذلين والمخذولين والضحايا.

هي رواية السلامي الأولى، ومع هذا أظهرت قدرة سردية لاستكشاف بعض مشاكل اليمن التي بدا إظهارها هاجسا أساسا لديه.

font change

مقالات ذات صلة