مر شهر وبضعة أيام على سقوط حكومة "البعث" التي يرأسها بشار الأسد الذي قضى قرابة الربع قرن في رئاسة سوريا. فوّت خلالها فرصا ذهبية ليكون رئيسا ناجحا يبني البلاد ويطوّرها بدلا من سياسة القمع الأحادي في بلد يمتلك كل مقومات التطور. ومع الاحترام لكل التحليلات التي حاولت تفسير سقوط الأسد في هذا التوقيت، فإن سقوطه بذلك الشكل كان مفاجأة حقيقية.
لن نمعن في تحليل آلية سقوط الأسد والدور الإقليمي لتركيا وإيران وإسرائيل في تسارع الأحداث في سوريا. فالواقع يقول إن الأسد سقط وحل مكانه تنظيم "هيئة تحرير الشام" الذي تسلم الدولة بشكل حرفي من سلطات "البعث". يذكرنا ذلك بما حدث في أفغانستان في نهاية أغسطس/آب 2021؛ وهنا ثمة مفارقات بين الحالتين السورية والأفغانية ينبغي تسليط الضوء عليها.
على خطى طالبان، قامت "هيئة تحرير الشام" بخطوات لتثبيت نفسها كحكومة لسوريا، ساعية لتحصيل الشرعية الدولية لها كممثل حصري للشعب السوري ذي الغالبية المسلمة السنيّة الذي تعتبر شرعيتها الدينية عليه واضحة ومتحققة على قاعدة "ولاية المتغلب". وبالنسبة لنظرة الشعب لشرعية "الهيئة"، فهي متحققة عند مؤيديها بوصفها حاكما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فله البيعة الشرعية والسمع والطاعة. أما من لا يؤمنون بالدولة الدينية، فإنهم يتعاملون مع الحركة بوصفها حكومة أمر واقع فرضت نفسها بقوة السلاح. هذا بالضبط ما يحصل في أفغانستان منذ أغسطس 2021.
أما على الصعيد الدولي، فإن الدول الكبرى غير معنية بالأمور التي تمس حياة الشعب السوري كالاقتصاد والصحة والتعليم. فتلك القوى تطالب الحكومة الجديدة بأن تثبت جدّيتها في إدارة الملف الأمني بشقيه الداخلي والخارجي، وذلك لمنع العمليات الإرهابية وتهريب المخدرات. ولذلك، تُطالب الحركة بالتعاون الاستخباراتي مع دول الجوار والدول الكبرى من أجل منع العمليات الإرهابية التي قد تخطط لها الجماعات النشطة على الأراضي السورية. يُضاف لذلك بعض المطالبات الشكلية المتعلقة بالأقليات الدينية والعرقية، والمرأة، والشؤون المتعلقة بالحريات الشخصية لعامة الشعب وهي أمور داخلية يستخدمها الغرب متى أراد الضغط على دولة ما. وهذا أيضا بالضبط ما يحصل في أفغانستان منذ أغسطس 2021.
في الساحة الأفغانية، نرى تجربة طالبان تعيد نفسها بعد 22 عاما بالأساليب نفسها في الالتفاف على الأسئلة المحرجة حول وضع المرأة، ناهيك عن قناعاتهم التي لا يبدو أنها تغيرت أبدا. بل إن أساليب التبرير التي ينتهجها القادة الحاليون هي نفسها التي كانوا يستخدمونها في فترة الإمارة الأولى. وهذا ما يمارسه قادة سوريا الجدد في لقاءاتهم الإعلامية.
تختلف تجربة "هيئة تحرير الشام" بأنها كانت تحكم منطقة إدلب شمالي سوريا، وبالتالي، فإن التساؤل حول نية "الهيئة" توسعة تجربة إدلب على مجمل الأراضي السورية. وقد أكد قائد الحركة أحمد الشرع أن وضع حكم بلد كامل يختلف عن حكم منطقة صغيرة، ولكنه لم يبين لأي حد.
"الهيئة" تنوي الاحتفاظ بالحكم المطلق أربع سنوات، وفي اللغة السياسية للجمهوريات العربية، فإن تلك المدة قابلة للتمديد حسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية، والتي يحددها الحزب الحاكم. وهنا يأتي السؤال: ما الفارق بين "هيئة تحرير الشام" وطالبان؟
وفي لقائه مع قناة "العربية"، أكد الشرع أن مستقبل سوريا سيكون بيد المؤتمر الوطني الذي سيقرر صياغة الدستور السوري الذي سيرسم مستقبل الحكم في دمشق. كلام إيجابي جدا لو أُخذ بمعزل عن سياقه الحالي. فـ"الهيئة" عينت جميع وزراء الحكومة الانتقالية من أعضائها، وفي اللقاء ذاته، أكد أحمد الشرع أن الهدف من ذلك التوافق والاستقرار في المرحلة الانتقالية التي ستمتد لأربع سنوات على الأقل حتى تتمكن سوريا من إجراء انتخابات تُفرز حكومة تعبر عن طموحات الشعب السوري بكافة مكوناته.
الهدف واضح، فـ"الهيئة" تنوي الاحتفاظ بالحكم المطلق لمدة أربع سنوات، وفي اللغة السياسية للجمهوريات العربية، فإن تلك المدة قابلة للتمديد حسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية؛ والتي يحددها- بالطبع- الحزب الحاكم. وهنا يأتي السؤال: ما الفارق بين حكومة "هيئة تحرير الشام" وحكومة طالبان؟
إن حقيقة كون طالبان لم تَعدْ بتسليم الحكم لحكومة منتخبة يقابلها أن الحركة تستمد شرعيتها من كونها "استردّت" الحكم من نظام سياسي نصّبته القوى الأجنبية، ولا توجد قوى أفغانية تستطيع أن تنازع طالبان الحكم. بينما في سوريا، الوضع مختلف حيث تحكم "الهيئة" الدولة السورية للمرة الأولى، وفي ظل وجود قوى سورية- مسلحة ومدنية- لها تطلعاتها في شكل الحكم في البلاد.
خلاصة القول: إن حكام إدلب قد أحكموا سيطرتهم على سوريا كما أحكم حكام قندهار سيطرتهم على أفغانستان. غير أن الفارق بين الجماعتين الحاكمتين كبير، فطالبان تمثل امتدادا للتشدد القبلي والريفي لقبائل البشتون التي تشكل غالبية في الشعب الأفغاني، بينما يشكل تشدد أعضاء "هيئة تحرير الشام" ثقافة غريبة على المجتمع السوري المعروف بعلمانيته المتصالحة مع الدين. وعليه، فإن المستقبل السوري غير واضح المعالم.