حتى لا يتحول الجيش السوري الجديد إلى طائفة داخل الدولة

إعلاء الأيديولوجيا السياسية الإسلاموية يهدد بتعزيز عقلية "نحن مقابل هم"

رويترز
رويترز
مقاتلون في إحدى الكتائب التابعة لهيئة تحرير الشام الشام، أثناء عرض عسكري في دمشق، 27 ديسمبر 2024

حتى لا يتحول الجيش السوري الجديد إلى طائفة داخل الدولة

يكمن أحد التحديات الأكثر إلحاحا وأهمية التي تواجه رئيس القيادة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، في إعادة بناء القوات المسلحة الممزقة في البلاد. وقد بدأت هذه الجهود بالفعل، حين استقطب الشرع مقاتلين من مجموعته، "هيئة تحرير الشام"، المتمركزة في إدلب.

ولا ريب في أن الشرع مدرك للأهمية القصوى في تشكيل الجيش السوري الجديد، لأنه يعكس مدى الارتباط الوثيق بين المؤسسة العسكرية وبنية النظام السياسي قيد التطور، كما أن التجربة السورية تخلو من أي تدخل غربي، على عكس الأنظمة التي خضعت لسيطرة أجنبية في كل من أفغانستان والعراق على مدى سنوات طويلة.

ويتجلى هذا التوافق العسكري السوري في عدة جوانب، بدءا من الأيديولوجيا الدينية، إلى التماسك الثقافي والولاء. ويكتسب ذلك بعدا خاصا حين نتذكر أن القيادات العسكرية الراهنة قد لعبت بالفعل دورا محوريا في الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، مما عزز هذا التوافق بشكل أكبر.

ولا شك أن هذه النقلة ستكون، بالنسبة للشرع، الذي أدار محافظة إدلب بفعالية في السنوات الأخيرة، قفزة نوعية كبيرة في سعيه الدؤوب لإنشاء إطار سياسي أكثر تنظيما لمؤسسات الدولة، يقوم على أساس الولاء. ومن ثم، لا عجب من أن يعكس تشكيل الجيش الجديد هذه السياسة.

شكل اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، بعد الحملة الوحشية التي شنها بشار الأسد ونظامه على الثورة، نقطة تحول حاسمة بالنسبة للجيش السوري

بيد أن اختيار أفضل المقاتلين ليس بالمهمة البسيطة، ولا سيما أن نظام الأسد الوحشي قد خلف على مدى العقود الخمسة التي حكم فيها إرثا من عدم الثقة العميقة تجاه الجيش، مما يفسر تشكك سوريين ومراقبين للشأن السوري تجاه القادة الجدد الذين يسعون لتأمين السلطة والموارد.

ولافت للنظر إنهاء الشرع التجنيد الإلزامي، الذي كان يمكن أن يرفد الجيش السوري الجديد بأعداد كبيرة من الجنود، والأرجح أن خيار الشرع هذا كان سعيا منه لتشكيل قوة مكونة من  جنود موالين ومحترفين حقيقيين. والفكرة وراء ذلك أن كل من ينضم طواعية إلى الجيش بعد عهد الأسد سيُعتبرون أكثر شرعية وولاء لمبادئ الدولة الناشئة، مثل تعزيز المصالحة الوطنية. ولذلك فإن إلغاء التجنيد الإجباري يمكن أن يجذب أفرادا يتمتعون بالدافع والحماسة وحسن النية.

وفي عرض تاريخي موجز،فقد  أُسس الجيش العربي السوري في أعقاب استقلال سوريا عن فرنسا عام 1946. وكان في البداية قوة صغيرة، لكنه نما من حيث الحجم والقدرات على مر السنين، خاصة خلال الخمسينات والستينات. وتميز تاريخ الجيش العربي السوري بمواجهاته مع إسرائيل، لا سيما خلال الحروب العربية الإسرائيلية. وكان أهمها حرب 1973، حيث حاولت القوات السورية استعادة مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل منذ حرب الأيام الستة عام 1967.

شكل اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، بعد الحملة الوحشية التي شنها بشار الأسد ونظامه على الثورة، نقطة تحول حاسمة بالنسبة للجيش السوري. فقد واجه الجيش تحديات جسيمة، بما في ذلك حالات الفرار الجماعي من الجيش، وصعود الجماعات المتمردة والخسائر الكبيرة. وبحلول عام 2013، كان الجيش السوري في حالة من الفوضى، حيث أصبحت وحدات كثيرة خارج الخدمة.

وفي سبتمبر/أيلول 2015، تدخلت روسيا عسكريا في سوريا، وقدمت دعما حاسما للجيش السوري. وشكل هذا التدخل بداية مرحلة إعادة هيكلة الجيش وإعادة بنائه، مع إنشاء وحدات جديدة، واستمر الاعتماد بشكل كبير على الدعم الروسي ومشاركة مختلف المجموعات شبه العسكرية.

رئيس القيادة السورية الجديدة أحمد الشرع، 30 ديسمبر 2024

الولاء للأيديولوجيا

إن التحديات المتعلقة بهوية الجيش السوري طور التشكيل في حقبة ما بعد الأسد باتت تشكل مصدر قلق كبيرا، وكان العلم الأسود والأبيض الذي يحمل الشهادة، والذي ظهر بوضوح في استعراضات عسكرية لمقاتلي "هيئة تحرير الشام" في دمشق أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، واستخدمه رئيس الوزراء المؤقت محمد البشير خلال الاجتماع الأول للحكومة الانتقالية، قد أثار تساؤلات عدة حول هوية الجيش الجديد.

فالعلم يشبه إلى حد بعيد الأعلام التي تستخدمها الجماعات الإسلاموية، كالعلم الذي ترفعه طالبان في أفغانستان منذ عام 2021. وقد أثار ذلك قلقا من أن القيادة السورية الجديدة قد تسعى لوضع مؤسسات الدولة تحت هيمنة إسلاموية من البداية. وتفاقمت هذه المخاوف في 30 ديسمبر عندما كشف تقرير لوكالة "رويترز" عن تعيين جهاديين أجانب من الأردن وتركيا وإقليم شينجيانغ الصيني كجنرالات في الجيش الجديد.

إعلاء الأيديولوجيا السياسية الإسلاموية يهدد بتعزيز عقلية "نحن مقابل هم"

وقد زادت الصور التي تُظهر الشرع كقائد كاريزمي ومُلهم من حدة المخاوف حول التشكيل الجديد للجيش والنظام السياسي، على الرغم من أنه يرفض أن ينسب فضل الثورة لنفسه بل يؤكد أن سوريين كثر شاركوا في الإطاحة بالأسد.

إعلاء الأيديولوجيا السياسية الإسلاموية يهدد بتعزيز عقلية "نحن مقابل هم"، ولا سيما بين الفصائل المسلحة التي تفصل الدين عن الدولة، فضلا عن الطوائف الأخرى غير الأغلبية السنية. وقد تشعر الفصائل المسلحة والميليشيات ذات الأيديولوجيات السياسية والإثنيات المختلفة، بالعزلة. والخطر في أن يؤدي هذا التهميش إلى ظهور هياكل قوة موازية يمكنها أن تقوض الوحدة الوطنية.

ففي مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية في الأسبوع الأول من العام الجديد، قال الناطق الناطق باسم "غرفة عمليات الجنوب" التي تسيطر حاليا على محافظة درعا العقيد نسيم أبو عرة إن الفصائل المسلحة المنضوية تحت قيادة أحمد العودة تتمسك بسلاحها رغم قرار السلطات الجديدة حل التشكيلات المسلحة كافة.

وقال أبو عرة، الذي انشق عن الجيش السوري عام 2012: "لا نقتنع بفكرة حل الفصائل، لدينا سلاح ومعدات ثقيلة وتجهيزات كاملة، وأرى أن نندمج كجسم عسكري مع وزارة الدفاع".

رويترز
عرض عسكري لكتيبة خالد التابعة لهيئة تحرير الشام، دمشق في 27 ديسمبر 2024

التعلم من الآخرين

ويمكن للقيادة السورية الجديدة أن تستخلص دروسا قيمة من التاريخ الحديث. ففي العراق عام 2003، أعاد السياسيون المدعومون من الولايات المتحدة تشكيل الجيش بعد حله بهدف القضاء على تأثير حزب "البعث" الذي كان يأتمر بأوامر صدام حسين. ولكن هذه السياسات همشت بشكل غير متناسب الضباط العرب السنة الذين كانوا يشكلون جوهر الخبرة العسكرية العراقية لعقود طويلة.

وأدى فقدان هذه الكفاءة المؤسسية إلى خلق فراغ في السلطة سرعان ما استغلته الأحزاب السياسية الشيعية التي سعت إلى إنشاء نظام سياسي جديد يستبعد التمثيل السني. وأدى هذا التحول إلى ديناميكيات طائفية مغلقة، حيث بدأت الميليشيات الشيعية تعمل بشكل شبه مستقل خارج الهيكل العسكري الرسمي، مما عمق الانقسامات بشكل متزايد.

على الرغم من أن أحمد الشرع يعطي الأولوية، كما يبدو، لحماسة الجنود وولائهم في عملية التجنيد، فإن العلامات المقلقة قد بدأت في الظهور بالفعل

وثمة درس مشابه آخر يمكن استخلاصه من الفشل في بناء جيش وطني أفغاني متماسك. لقد تأسست قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية في عام 2014 مع انسحاب القوات الدولية، ولكنها صُممت وفقا للنموذج الغربي، فاصطدمت بالواقع الثقافي والاجتماعي المحلي في أفغانستان، ثم جاء الفساد المستشري والمحسوبية ليقوض المؤسسة العسكرية ويعرقل التعيينات القائمة على الجدارة، مما جعل الولاء هو الذي يحدد من يشغل المناصب الرئيسة، بدلا من الكفاءة. وأسهم هذا التناقض مع الظروف المحلية في الانهيار السريع للقوات تحت ضغط طالبان.

وباختصار، فإن أحمد الشرع ليس في حاجة إلى البحث بعيدا لفهم المخاطر الكامنة في إعادة بناء القوات المسلحة لدولة ما. وعلى الرغم من أنه يعطي الأولوية، كما يبدو، لحماسة الجنود وولائهم في عملية التجنيد، فإن علامات مقلقة قد بدأت في الظهور بالفعل. والحق أنه لكي تتعافى سوريا من نصف قرن من المعاناة، يجب أن لا يتحول جيشها إلى كيان يشبه الطائفة داخل الدولة.

font change

مقالات ذات صلة