تعثر الشاحنات الكهربائية: هل يهدد التأخير حلم أميركا الأخضر؟

أي تعارض بين سياسات إدارة ترمب ورؤية إيلون ماسك قد يشكل تحديا كبيرا

شاترستوك
شاترستوك
قافلة من الشاحنات في صف على طريق سريع ريفي

تعثر الشاحنات الكهربائية: هل يهدد التأخير حلم أميركا الأخضر؟

منذ لحظة تعيين بنجامين فرانكلين الذي اعتبر لاحقا أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، كأول مسؤول عن إدارة البريد عام 1775، بدأت هذه الخدمة رحلة طويلة وحافلة بالتحولات.

تطورت الخدمة البريدية الأميركية من وسيلة بسيطة تعتمد على العربات التي تجرها الخيول إلى منظومة حديثة تستعين بالطائرات المتطورة ووسائل النقل المتقدمة، وخلال هذه الرحلة تمكنت من تجاوز التحديات المختلفة والتكيف مع التغيرات التقنية والاقتصادية التي شهدتها البلاد على مر العقود، مما جعلها ركيزة أساسية في حياة الشعب الأميركي.

الآن يُعَدّ النظام البريدي في الولايات المتحدة انعكاسا حيا لتاريخ تطور البلاد نفسها، حيث كان على الدوام رمزا للابتكار وأداة حيوية تساهم في ربط المجتمعات المترامية الأطراف عبر القارة الأميركية.

واليوم تواجه الخدمة البريدية تحديا جديدا يتخطى مجرد تسليم الرسائل، إذ يرتبط بإعادة تعريف دورها في ظل عصر يشهد تحولا نحو التكنولوجيا النظيفة والاستدامة البيئية.

وفي هذا الإطار، يمثل مشروع "شاحنات الجيل الجديد للتوصيل" خطوة طموحة تهدف إلى تحديث أسطولها القديم والاعتماد على وسائل نقل صديقة للبيئة. ومع ذلك، فإن الطريق نحو تحقيق هذا الهدف لا يخلو من العديد من العقبات التي تعترض مسيرته.

رؤية طموحة تحت الضغط

يُعَدّ برنامج خدمة البريد الأميركية لشراء مركبات كهربائية، المعروف باسم "شاحنات الجيل الجديد للتوصيل" (NGDVs)، خطوة محورية تهدف إلى إحداث تحول جذري نحو مستقبل نقل أكثر استدامة في الولايات المتحدة.

الشاحنات الجديدة ليست فقط مفيدة للبيئة والطاقة والاستدامة ولكن حتى تصميمها عصري ويوحي بأنها شاحنة من المستقبل، حيث تتميز بتصميم حديث يركز على السلامة والراحة والكفاءة. كما أن الشاحنات مزودة نظاما لتكييف الهواء، مما يوفر بيئة عمل مريحة للسائقين وتحتوي على كاميرات بزاوية 360 درجة، تعزز قدرة السائق على الرؤية المحيطية وتزيد السلامة أثناء القيادة.

شاترستوك
إدارة المستودعات باستخدام شاحنات كهربائية صديقة للبيئة وعلامات النقل

بالإضافة إلى ذلك، تم تحسين مساحة الشحن لتكون أكبر، مما يسمح بنقل عدد أكبر من الطرود بكفاءة أعلى. الشاحنة الجديدة أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، حيث يمكنها السفر حتى 160 كيلومترا بشحنة واحدة، مما يقلل الحاجة إلى التوقف المتكرر للشحن ويزيد الإنتاجية.

عملية تصميم شاحنات كهربائية تلبي المعايير البيئية الصارمة ومتطلبات الأداء والسلامة، تمثل تحديا هندسيا معقدا

وحظي هذا المشروع بدعم مالي كبير، في عام 2023، فقد خصص الكونغرس 3 مليارات دولار للخدمة البريدية كجزء من مشروع قانون المناخ الذي تبلغ قيمته 430 مليار دولار.

وتهدف هذه الأموال إلى شراء نحو 66 ألف مركبة كهربائية، مما يجعل أسطول البريد الأميركي من بين أكبر أساطيل المركبات الكهربائية في الولايات المتحدة في حلول عام 2028.

يمثل هذا البرنامج ركيزة أساسية ضمن جهود إدارة بايدن الطموحة لمكافحة تغير المناخ وتقليل الانبعاثات الضارة. مع ذلك، تواجه عملية تنفيذ المشروع تحديات كبيرة، في مقدمها التأخيرات المتكررة التي تثير العديد من التساؤلات في شأن قدرة البلاد على تحقيق أهدافها البيئية ضمن الإطار الزمني المحدد.

التأخيرات تثير القلق

حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم تستلم خدمة البريد الأميركية سوى 93 شاحنة كهربائية فقط من شركة  "أوشكوش" المصنعة، وهو رقم بعيد للغاية عن الهدف الأولي الذي كان يفترض فيه تسليم 3000 شاحنة في هذه المرحلة من البرنامج.

تبرز هذه الفجوة الكبيرة بين المخطط وما تم تحقيقه فعليا تحديات عميقة قد تتجاوز مجرد عقبات لوجستية عابرة، مما يشير إلى وجود مشاكل هيكلية أكثر تعقيدا في عملية التنفيذ. فمثل هذه التأخيرات تثير القلق في شأن قدرة المشروع على التزام الجدول الزمني المحدد والتقدم بخطوات ثابتة نحو تحقيق الأهداف المرجوة.

عند تحليل العقبات التي تعرقل تقدم المشروع، يتضح أن المشكلات المرتبطة بسلاسل التوريد العالمية تحتل الصدارة. لا يزال العالم يعاني من تداعيات جائحة كوفيد-19 وما خلفته من اضطرابات واسعة النطاق، إلى جانب التوترات الجيوسياسية التي تؤثر بشكل مباشر على التجارة الدولية. هذه الأزمات انعكست بشكل واضح على توفير المكونات الأساسية، مثل البطاريات وأشباه الموصلات، وهو ما أدى إلى تقليص قدرة شركة "أوشكوش" على الإنتاج بالوتيرة المطلوبة لتحقيق أهداف المشروع.

من الناحية التقنية، تمثل عملية تصميم شاحنات كهربائية تلبي المعايير البيئية الصارمة ومتطلبات الأداء والسلامة تحديا هندسيا معقدا. تواجه شركة "أوشكوش" صعوبات كبيرة في دمج التقنيات الحديثة، بما في ذلك تحسين أداء البطاريات وضمان كفاءتها في ظروف تشغيل متنوعة. إلى جانب ذلك، يشكل تشييد بنية تحتية متكاملة للشحن تحديا إضافيا، إذ يتطلب إنشاء شبكة واسعة من محطات الشحن تعتمد على مصادر طاقة متجددة لتجنب التأثيرات السلبية على البيئة. مع ذلك، فإن عدم التزامن بين تسليم الشاحنات وتجهيز البنية التحتية، يزيد الموقف تعقيدا، حيث يؤثر بشكل مباشر على فعالية البرنامج وقدرته على تحقيق الأهداف المرجوة.

يمثل هذا المشروع فرصة استثنائية لتعزيز قطاعات التصنيع والتكنولوجيا النظيفة، إضافة إلى خلق فرص عمل جديدة في مجالات مرتبطة بالطاقة المتجددة

كما أن التكلفة المتزايدة للإنتاج تضيف بعدا آخر للتحديات التي تواجه المشروع. فمع استمرار مشاكل سلاسل التوريد وتزايد التعقيدات التقنية، ترتفع التكاليف بشكل كبير، مما يشكل ضغطا إضافيا على الميزانية المخصصة. هذا الارتفاع في التكاليف يؤثر بشكل مباشر على القدرة على تصنيع وتوزيع العدد المستهدف من الشاحنات، مما يهدد بتحجيم نطاق المشروع وتقليص فرص تحقيق أهدافه.

تأخر تنفيذ البرنامج يهدد التقدم نحو تحقيق أهداف الحياد الكربوني في الولايات المتحدة، خاصة أن قطاع النقل هو أحد أكبر القطاعات المسؤولة عن انبعاثات الغازات الدفيئة. فالاستمرار في الاعتماد على الشاحنات التقليدية لفترة أطول من المتوقع يعني تأجيلا في تقليل الانبعاثات، مما يعرض التزامات البلاد بموجب اتفاقية باريس للمناخ للخطر. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التأخر في التحول نحو الشاحنات الكهربائية يضعف صدقية الجهود الأميركية على الساحة الدولية، خصوصا في ظل التزام دول أخرى تحقيق تقدم أسرع.

على الصعيد الاقتصادي، يمثل هذا المشروع فرصة استثنائية لتعزيز قطاعات التصنيع والتكنولوجيا النظيفة، إضافة إلى خلق فرص عمل جديدة في مجالات مرتبطة بالطاقة المتجددة. ومع ذلك، فإن التأخيرات قد تفوت هذه الفرصة المهمة، مما يضعف القدرة التنافسية للشركات الأميركية في سوق المركبات الكهربائية العالمية الذي يشهد نموا متسارعا. إلى جانب ذلك، فإن استمرار استخدام المركبات التقليدية يفاقم مشكلة تلوث الهواء، مما ينعكس سلبا على الصحة العامة ويزيد الأعباء المالية المرتبطة بالرعاية الصحية نتيجة الأمراض الناجمة عن التلوث.

الحلول المقترحة

لتجاوز هذه التحديات، يتعين على الجهات المسؤولة اتخاذ خطوات عملية وسريعة. أولا، يمكن العمل على تنويع مصادر توريد المكونات الحيوية، مثل البطاريات وأشباه الموصلات، بهدف تقليل الاعتماد على موردين محددين، مما يساهم في تخفيف تأثير أزمات سلاسل التوريد. ثانيا، يُعد الاستثمار في البحث والتطوير خطوة ضرورية لتطوير بطاريات تتميز بالكفاءة العالية والتكلفة المنخفضة، وهو ما يساهم بشكل مباشر في تحسين أداء الشاحنات وخفض تكاليف الإنتاج بشكل كبير.

تسريع وتيرة بناء شبكة الشحن يشكل جزءا أساسيا من الحلول المطلوبة. ينبغي أن تتركز هذه الجهود على إنشاء محطات شحن تعتمد على مصادر طاقة متجددة لضمان انسجامها مع الأهداف البيئية. علاوة على ذلك، فإن تعزيز التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص يمكن أن يوفر الدعم المالي والتقني اللازم لتنفيذ المشروع بكفاءة. إلى جانب ذلك، يُعد إعداد خطط طوارئ للتعامل مع الأزمات غير المتوقعة أمرا ضروريا، حيث تضمن هذه الخطط استمرار الإنتاج والتنفيذ دون انقطاع كبير.

ترمب وإيلون ماسك

مع عودة دونالد ترمب إلى المشهد السياسي، تثار تساؤلات جادة حول مستقبل البرامج البيئية الطموحة، بما في ذلك مشروع "شاحنات الجيل الجديد للتوصيل".

وتشير التقارير إلى أن إدارة ترمب تعكف على دراسة خطة لإلغاء عقود الخدمة البريدية الأميركية التي تهدف إلى تحديث أسطولها بشاحنات كهربائية، وذلك ضمن سلسلة من الأوامر التنفيذية المرتقبة التي تستهدف صناعة السيارات الكهربائية، وقد يتم إعلان هذه الخطوة في الأيام الأولى من تولي ترمب منصبه في 20 يناير/كانون الثاني المقبل.

وتأتي هذه الخطوة في إطار تعهدات ترمب خلال حملته الانتخابية بالتصدي لسياسات الرئيس السابق جو بايدن، التي تهدف إلى تقليل انبعاثات الكربون من قطاع النقل. ترمب يرى أن هذه السياسات غير ضرورية وقد تضر بالاقتصاد الأميركي.

كما تشمل الخطط المقترحة مراجعة عقود ضخمة للخدمة البريدية الأميركية مع شركات مثل "أوشكوش" و"فورد"، التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. وقد شهدت أسهم شركة "أوشكوش" انخفاضا بنسبة 5% بعد التقرير، حيث قالت الشركة في بيان: "نحن ملتزمون شراكتنا القوية مع الخدمة البريدية ونتطلع إلى توفير مركبات حديثة وآمنة ومستدامة، حتى مع تغير احتياجات البريد". أما شركة "فورد"، فلم تصدر أي تعليق على الخطط المحتملة.

رغم استقلالية الخدمة البريدية الأميركية ووجود مجلس إدارة خاص بها، فإن إلغاء هذه العقود قد يكون صعبا على المستوى القانوني. مع ذلك، فإن سياسة ترمب المعلنة قد تختبر حدود السلطة التنفيذية في قضايا الإنفاق الفيديرالي.

وقال محللون في مؤسسة "جيفريز" للاستشارات المالية إنهم لا يتوقعون إلغاء العقود بالكامل، ولكن قد يتم تعديل مزيج المركبات لتشمل نسبة أكبر من المركبات التي تعمل بالوقود التقليدي.

وفي بيان صادر عن المتحدثة باسم فريق ترمب الانتقالي، كارولين ليفيت، أكدت أن الإدارة الجديدة ستضمن حرية الأميركيين في اختيار المركبات التي يفضلونها وستعزز التعريفات الجمركية على السيارات المستوردة من الصين لحماية الصناعة الأميركية.

ولن يقتصر تأثير إلغاء هذه العقود على عرقلة خطط التحول نحو وسائل نقل صديقة للبيئة، بل قد يهدد أيضا التزامات الولايات المتحدة البيئية، مما يساهم في زيادة الانبعاثات الضارة ويؤدي إلى تأخير الجهود الرامية لتحقيق الحياد الكربوني.

على صعيد آخر، يُعد تعيين إيلون ماسك، رئيس شركة "تسلا" وأحد أبرز رواد صناعة المركبات الكهربائية، كمسؤول عن وزارة كفاءة الحكومة في إدارة ترمب المحتملة، تطورا مثيرا للاهتمام. يُعرف ماسك بدعمه القوي للتحول نحو الطاقة المستدامة، وقد تتيح له خبرته ورؤيته الطموحة فرصة لتعزيز المشروع ودفعه نحو النجاح. باعتباره من أبرز الشخصيات في إنتاج السيارات الكهربائية عالميا، قد ينظر ماسك إلى المشروع كفرصة استراتيجية لترسيخ مكانة الولايات المتحدة في هذا القطاع المتنامي. مع ذلك، فإن أي تعارض بين سياسات إدارة ترمب ورؤية ماسك قد يشكل تحديا كبيرا، مما يعقد مسار المشروع ويهدد تحقيق أهدافه البيئية والاقتصادية.

شاترستوك
منظر خارجي لمصنع "تيسلا فيرمونت" أحد أكبر مواقع التصنيع في كاليفورنيا

رغم التحديات التي يواجهها برنامج "شاحنات الجيل الجديد للتوصيل"، فإنه يظل فرصة ذهبية لتحويل قطاع النقل في الولايات المتحدة نحو مستقبل أكثر استدامة. نجاح هذا البرنامج لا يقتصر على تحديث أسطول خدمة البريد فقط، بل يُعد أيضا دليلا على قدرة الولايات المتحدة على أخذ زمام المبادرة وقيادة الجهود العالمية لمواجهة أزمة المناخ.

لتحقيق هذا النجاح، يجب أن تتكاتف الجهود بين مختلف الأطراف، سواء على المستوى الحكومي أو في القطاع الخاص، مع التركيز على تعزيز الاستثمارات في التكنولوجيا والبنية التحتية. فإذا تم تجاوز العقبات الحالية، فإن البرنامج لن يساهم فقط في تحسين البيئة وتقليل الانبعاثات الضارة، بل سيعزز أيضا مكانة الولايات المتحدة كرائدة عالمية في تبني التكنولوجيا النظيفة والابتكار في مجال الاستدامة.

font change

مقالات ذات صلة