انتخاب عون وتكليف سلام... الفرص والمسالك الوعرة

"حزب الله" يستعجل الاشتباك مع الرئيس الجديد

أ ف ب
أ ف ب
لبنانيون يحتفلون بتكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة في ساحة الشهداء ببيروت في 13 يناير 2025.

انتخاب عون وتكليف سلام... الفرص والمسالك الوعرة

عبّر انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية عن حل ومأزق في الوقت عينه. حل لأن الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية والذي استمر أكثر من سنتين كان علامة على غلبة الانقسام السياسي على الدستور، ولأن انتخاب رئيس يحظى بغطاء عربي ودولي واسع يتيح فرملة الاندفاعة الإسرائيلية نحو التصعيد وصولا ربما إلى تجديد الحرب مع "حزب الله". أي إن انتخاب رئيس في هذه اللحظة يحمي اتفاق وقف إطلاق النار بين "الحزب" وإسرائيل، ويدفع أكثر باتجاه تنفيذه، باعتبار أن "شرعية" الرئيس الدولية والعربية تؤمن ضمانة أكبر لهذا الاتفاق وتجعل الانقلاب عليه بمثابة تحد صريح للغطاء العربي والدولي للرئيس.

لكن في الوقت عينه فإن انتخاب قائد للجيش رئيسا للجمهورية هو كما في كل مرة تعبير عن مأزق سياسي. فأن يكون قائد الجيش الخيار الوحيد لانتخاب رئيس للجمهورية فهذا دليل على المدى الذي بلغته أزمة السياسة في لبنان بعدما فقد الانقسام السياسي أي خاصية ديمقراطية وتحول بالتالي إلى معطل لانتظام المرفق العام بدءا من رئاسة الجمهورية.

طبعا قيل وسيقال إن "حزب الله" كان المانع أمام انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري المحدد، لكن في الواقع إن فهم قدرة "الحزب" على تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية يحتاج إلى فهم أعمق لتردي الحياة السياسية في لبنان بحيث أصبحت عملية تحايل بتحايل على اللغة والدستور والجمهور. حتى أن التوافق السياسي لانتخاب رئيس الجمهورية صوّر كما لو أنه قيمة أعلى من الدستور، في حين أن هذا التوافق عينه لم يكن سوى أداة تعطيل وعرقلة بهدف إخضاع العملية السياسية ضمن المؤسسات الدستورية لحجة الفريق السياسي الأقوى خارج هذه المؤسسات من خلال أدواته العسكرية والأمنية.

وقد بلغ سوء الممارسة السياسية حدا جعل الضغط الخارجي لانتخاب رئيس جديد مبررا بل وضروريا، فلولاه لما توصل البرلمان إلى انتخابه، أيا تكن المخارج التي اجترحتها القوى السياسية للظهور بمظهر من يضع شروطا على هذا الضغط ولا يقبل به كما هو.

وهو ما يدفع إلى تفكيك مفهوم السيادة الذي تعبر عنه القوى السياسية على اعتبار أن ممارساتها التعطيلية هي ما يستدعي تدخل الخارج في العملية السياسية في اللحظة التي يشعر فيها هذا الخارج أنّ الستاتيكو القائم أصبح يشكل خطرا على مصالحه. لكن وإن كان الدفع الخارجي لانتخاب رئيس جديد قد أسقط ديناميات الإخضاع الداخلية، فإن هذا المكسب قد يتبدد بسرعة إن لم يعاد الاعتبار للمصالح الوطنية في ظل العهد الجديد وبدفع منه.

لا يمكن القول إن هيمنة "حزب الله" كانت بسبب سلاحه وحسب، بل أيضا بسبب القابلية السياسية والمجتمعية للتأقلم مع هذه الهيمنة

الواقع أن قدرة "حزب الله" وحلفائه على تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية مرة تلو المرة جعلت كل القوى السياسية تفكر بالطريقة نفسها، أي بقدرتها هي أيضا على تعطيل انتخابه أو الاستفادة السياسية منه. وفي المحصلة فإن جميع القوى السياسية أصبحت مسلمة بقواعد اللعبة التي فرضها "حزب الله"، وراحت تبحث عن مبررات لمشاركتها في العملية السياسية، بداعي معارضته والوقوف بوجه سيطرته على الدولة من داخل المؤسسات الدستورية.

وهذه لعبة سمجة ومدمرة أدت إلى تصحر الحياة السياسية وخلو الخطاب السياسي من أي معانٍ تحديثية مواكبة للتحولات على مستوى العالم. فمقابل "حزب الله" الذي كان يروج لمشروعه الإقليمي فإن القوى المعارضة له كانت أسيرة اشتباكها معه وكأن الزمن توقف بها عند هذا الاشتباك وكأن هذا الاشتباك يمكن أن يختصر سياساتها. والأدهى أن هذا الاشتباك كان يتمّ بوسائل متشابهة  لناحية التعبئة الطائفية والمذهبية للجمهور المنفعل. هذا نزع عن الطبقة السياسية الشرعية الأخلاقية والسياسية وإن ظلت مشاركتها في الانتخابات النيابية تمدها بمشروعية شعبية. 

رب قائل إن لبنان دخل مع انتخاب الرئيس عون مرحلة جديدة، وإن الكلام عن سطوة "حزب الله" أصبحت من الماضي، خصوصا بعد أن أضعفته الحرب وسقوط نظام "البعث" في سوريا. لكن في الواقع فإن اختصار أزمة لبنان في سعي "حزب الله" للهيمنة عليه هو إنكار للأسباب التي ساعدت "الحزب" في فرض هيمنته تلك. صحيح أن قوة الترهيب التي كان يمارسها "الحزب" أدت إلى تحولات عميقة في الممارسة السياسية في البلاد، لكن صحيح أيضا أن كلفة الوقوف في وجه هذا السلاح كانت أعلى من كلفة التأقلم معه، خصوصا أن الأشكال التي أخذها هذا التأقلم من قبل القوى السياسية، وحتى من قبل المجتمع، كانت تفضح استعدادهما للقبول بقواعد اللعبة التي فرضها "الحزب" ما دامت هذه القواعد لا تستبعدهما تماما وتؤمن لهما بعض المكاسب.

بالتالي، فإنه لا يمكن القول إن هيمنة "حزب الله" كانت بسبب سلاحه وحسب، بل أيضا بسبب القابلية السياسية والمجتمعية للتأقلم مع هذه الهيمنة، وذلك في دينامية فريدة وخطيرة من العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع والنظام السياسي، بحيث أصبح هذا التأقلم هو النمط السياسي والاجتماعي السائد فلم يكن التمرد عليه سوى محاولة لتحسين شروط الفريق المتمرد من ضمن اللعبة القائمة وليس ضدها.

الزخم الخارجي الذي أتاح حل معضلة الفراغ الرئاسي غير كاف وحده لنجاح العهد في حال لم يترافق هذا الزخم مع خلق ديناميات داخلية تطمح إلى تغيير الوضع القائم والانتقال بلبنان إلى مرحلة جديدة

بهذا المعنى فإن انتخاب رئيس للجمهورية لا يمكن أن يكون حلا للأزمة اللبنانية إلا بمقدار ما يتيح هذا الانتخاب والعهد الجديد إعادة إنتاج قيم سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة تعيد تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة كمدخل أو كنتيجة لإعادة تأسيس علاقة الأفراد مع جماعاتهم الأهلية بقواها السياسية وسرديتها وصورتها عن نفسها، بحيث لا تعود الانتماءات الأولية متقدمة ومن بعيد على مقتضيات العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يؤمن مصالح اللبنانيين وحقوقهم.

وهذا مسار لا يستقيم من دون تحول العقد الاجتماعي والصيغة الدستورية إلى عنوان رئيس في الأجندة السياسية للمجتمع اللبناني، ومن دون أن يعيد المجتمع هذا إنتاج وعي مختلف للسياسة. وعند هذه النقطة تحديدا يقاس نجاح العهد الجديد، أي بقدرته على التفاعل مع تطلعات الشرائح "المحايدة" داخل المجتمع وتحفيزها بعدما انكفأت عن المشاركة السياسية طيلة السنوات الماضية.

أ.ف.ب
عون يستقبل وفدا عسكريا أميركيا برئاسة قائد المنطقة الوسطى الجنرال مايكل كوريلا، ورئيس لجنة مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار جاسبر جيفيرز، والسفيرة الاميركية في بيروت ليزا جونسون، وعدد من الضباط

لا شك أن هذا برنامج طموح جدا لعهد يرث أزمات كبيرة ومعقدة وتاريخية، خصوصا أن الرئيس المنتخب لا يملك أدوات كافية للحكم في ظل تجذر مراكز النفوذ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لكن في الوقت نفسه فإن الزخم الخارجي الذي أتاح حل معضلة الفراغ الرئاسي غير كاف لوحده لنجاح العهد في حال لم يترافق هذا الزخم مع خلق ديناميات داخلية تطمح إلى تغيير الوضع القائم والانتقال بلبنان إلى مرحلة جديدة فعلا، أو أقله أن يدخل لبنان في مرحلة انتقالية نحو مستقبل يعد بحياة طبيعية للبنانيين الذين استنزفتهم الحروب والأزمات وأصبحوا مثالا على قدرة التأقلم مع الأوضاع الصعبة عوض أن يكونوا مثالا للقدرة على إنتاج ظروف أفضل للعيش وإعطاء معان إيجابية لهذا العيش في منطقة تتنازعها صراعات النفوذ ,السرديات وباتت في أمسّ الحاجة للتطلع إلى المستقبل عوض المكوث في الماضي.

وهذا هو المعنى العقلاني للحياد الإيجابي الذي تحدث عنه الرئيس عون في خطاب القسم، أي أن لا يكون لبنان معزولا عن محيطه بأزماته ومشكلاته، بل أن يكون طرفا في خلق وعي جديد لهذه الأزمات والمشكلات كمقدمة لتغيير أدوات التعامل معها وفي مقدمة كل ذلك المسألة الفلسطينية. وهذا جزء أساسي من أي إصلاح لبناني لأن الإصلاح يتطلب وعيا مختلفا بواقع لبنان ضمن محيطه وواقع هذا المحيط عينه، وبغير ذلك فإن أي إصلاح وتغيير داخليين سيحتفظان بكل عناصر الهشاشة والضعف فضلا عن أنهما لن يحملا قيما إيجابية وذكية، لأنهما سيقومان على وعي مجتزأ بواقع لبنان في المنطقة والعالم.

ولا شك أن تكليف القاضي نواف سلام بتأليف حكومة العهد الأولى يدعم مسعى الإصلاح الذي أعلن عنه الرئيس عون في خطاب القسم، لكن في المقابل فإن عدم تسمية نواب "حزب الله" وحركة أمل لسلام مؤشر مبكر إلى العراقيل التي ستواجه العهد في مطلعه. فلا تفسير لعدم تصويت هؤلاء لسلام إلا أنهم يريدون الاشتباك مبكرا مع العهد، وهو اشتباك يأخذ في تفسير أوسع معنى "الثورة المضادة" على التغيير الذي حصل بانتخاب عون وبالأخص بتكليف سلام. وهذا اشتباك لن يكون من السهل على العهد تجاوزه، أو بالأحرى فإن تحقيق وعوده مرتبط إلى حد بعيد بقدرته على تجاوزه.... هذا إن لم يسلك هذا الاشتباك مسالك وعرة وخطيرة.

font change

مقالات ذات صلة