مؤتمر الحوار الوطني السوري... بين وعد مرتقب وخطر محدق

ثمة خطر من أن يتحول الحوار الوطني إلى فرصة مهدرة

مؤتمر الحوار الوطني السوري... بين وعد مرتقب وخطر محدق

انقضى أكثر من شهر على الإطاحة بنظام الأسد. واليوم تحولت الأنظار إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي طال انتظاره. وهو حجر الأساس في انتقال سوريا ما بعد الأسد. وفي الوقت الذي يرنو فيه السوريون إلى مستقبلهم بعيون مفعمة بالأمل، ثمة مخاوف جدية تلقي بظلالها حول شفافية المؤتمر وشموليته وشرعيته وقدرته على تلبية توقعات الشعب.

وقد أعلنت "هيئة تحرير الشام"، الزعيم الفعلي للفترة الانتقالية في سوريا حتى الآن، أن الاستعدادات للمؤتمر جارية. ويُعتبر هذا الحدث منصة لتأسيس إطار شامل لمستقبل سوريا، ويحظى بإشادة واسعة باعتباره خطوة حاسمة نحو صياغة عقد اجتماعي جديد وتحقيق المصالحة الوطنية.

ولكن بعيدا عن الخطب الرنانة، يلف الغموض تفاصيل المؤتمر بشكل مثير للقلق. فالأسئلة الملحة حول تنظيمه واختيار المشاركين فيه وبنيته ما زالت بلا إجابة، الأمر الذي أثار الشكوك حول ما إذا كان المؤتمر سيعكس تطلعات جميع السوريين بشكل صادق، أو أنه سيعمل ببساطة على ترسيخ ديناميات السلطة الحالية.

وفي ظل غياب الشفافية والمشاركة الواسعة وخارطة طريق واضحة، ثمة خطر حقيقي من أن يتحول الحوار الوطني إلى مجرد فرصة مهدرة. وبدلا من تعزيز التقدم الديمقراطي، يمكن للمؤتمر أن يعزز هيمنة هياكل السلطة الحالية، ما يقوض الآمال في مستقبل تشاركي يحظى بتمثيل حقيقي لأطياف المجتمع السوري كافة.

رؤية طموحة ووضوح محدود

في مقابلة أجريت معه مؤخرا، حدد أحمد الشرع، رئيس الإدارة الانتقالية وزعيم "هيئة تحرير الشام"، رؤية واسعة للمؤتمر غير أنها غامضة. وذكر أن العملية ستكون تشاركية. وتمثل مختلف الملل والطوائف والمجتمعات في سوريا. واقترح مسؤولون آخرون في "هيئة تحرير الشام" أن يجمع المؤتمر نحو 1200 مشارك من جميع أنحاء البلاد، يمثلون محافظات وقطاعات اجتماعية متنوعة.

أكثر ما يدعو إلى القلق هو الافتقار إلى الشفافية في التخطيط للمؤتمر. وتشير التقارير إلى أن الدعوات ستوجه إلى الأفراد بدلا من الكتل السياسية أو المجموعات المنظمة

ويضم جدول الأعمال المقترح مواضيع بالغة الأهمية مثل صياغة دستور جديد للبلاد، وحل البرلمان، وتشكيل حكومة انتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية. وألمح الشرع إلى أن القرارات سوف تتخذ من خلال عملية تصويت. وكان من المقرر أن يعقد المؤتمر في أوائل يناير/كانون الثاني، ولكن ارتأى القائمون على تنظيمه ضرورة تأجيله للسماح بتشكيل لجنة تحضيرية موسعة، بهدف ضمان التمثيل الشامل لجميع شرائح ومحافظات سوريا، على حد زعمهم.

ورغم هذه الضمانات، فالمخاوف ما زالت كبيرة بخصوص غياب الشفافية في ما يتعلق بتوقيت المؤتمر وإطاره وأهدافه وإجراءاته. ليبرز إلى الواجهة الكثير من الأسئلة الملحة: من الذي سيختار اللجنة التحضيرية؟ وعلى أي أساس سوف يُنتقى الأعضاء؟ وما الآليات الموضوعة لضمان الشمولية والمساءلة؟

تلقي هذه الأسئلة المتروكة بلا إجابات بظلال من الشك على العملية برمتها، ما يغذي المخاوف من أن "هيئة تحرير الشام" قد تستغل مركزها المهيمن للسيطرة على جدول الأعمال والتلاعب بالنتائج.

التحديات التي تواجه التمثيل الحقيقي

إن أكثر ما يدعو إلى القلق هو الافتقار إلى الشفافية في التخطيط للمؤتمر. وتشير التقارير إلى أن الدعوات ستوجه إلى الأفراد بدلا من الكتل السياسية أو المجموعات المنظمة، مع تخصيص التمثيل على أساس الحصص الجغرافية. وعلى الرغم من أن هذا النهج يهدف ظاهريا إلى تحقيق التوازن الإقليمي، بيد أنه يثير تساؤلات بالغة الأهمية في الوقت نفسه حول كيفية اختيار المدعوين والمعايير التي ستوجه إدراجهم.

كما يثير هذا الغموض مخاوف جمة من أن "هيئة تحرير الشام" ستسعى إلى اختيار المشاركين الذين يتوافقون مع رؤيتها، الأمر الذي سيفضي إلى تهميش الأصوات التي تتحدى هيمنتها. ومن خلال دعوة الأفراد المرتبطين بالهياكل الدينية والاجتماعية التقليدية- والتي اعتادت منذ فترة طويلة على العمل في ظل حكم استبدادي– فثمة خطر حقيقي يتجلى بخلق واجهة من الشمولية مع تهميش الأصوات المستقلة.

وحتى لو عمل المنظمون على إشراك التكنوقراط وممثلي المجتمع المدني والمشاركين غير المنتمين لأي حزب، فإن نفوذهم سوف يكون محدودا وتأثيرهم ضئيلا إذا كانت العملية مصمَّمة لترسيخ ديناميات السلطة القائمة، كي تكون النتيجة مؤتمرا يعرض مظاهر التنوع بينما يفشل في تقديم نقاش هادف أو مساءلة ذات مغزى.

لا ينبغي البتّ في القرارات التأسيسية- مثل الدستور، ونموذج الحكم، وغير ذلك من القضايا المحورية- من خلال تصويت الأغلبية البسيطة

إن الافتقار إلى الآليات الواضحة التي تضمن العدالة والإنصاف سوف يؤدي حتما إلى تعميق هذه المخاوف. وفي ظل غياب ضمانات الشرعية والشمولية، يخاطر المؤتمر بإبعاد أولئك الأشخاص الذين يهدف إلى تمثيلهم، ما يقوض الهدف الأوسع في الوصول إلى المصالحة الوطنية.
 


رسم الطريق نحو المستقبل


يقدم مؤتمر الحوار الوطني فرصة نادرة لإعادة رسم ملامح مستقبل سوريا، لكن نجاحه يعتمد على معالجة ثلاث قضايا حاسمة: الشفافية والشمولية والمساءلة.
أولا، لا بد من إعطاء الأولوية للشفافية. فالسوريون يستحقون أن يعرفوا كيف تُتخذ القرارات، ومن هم المشاركون، وما التدابير المتخذة لضمان العدالة. ويعتبر وضوح الرؤية بالنسبة لعامة الشعب ضرورة حتمية لبناء الثقة في العملية وفيما سوف يتمخض عنها على حد سواء. 
ثانيا، على المؤتمر أن يتوجه فعليا بحواره إلى عدد أكبر من الناس، وليس إلى أولئك الحاضرين في القاعة وحسب. كما ينبغي للحوارات المحلية والمشاورات العامة أن تغذّي المناقشة الوطنية، فتخلق جسرا بين الأصوات الشعبية وأولئك الذين يصنعون القرار الرسمي. إن هذا النهج سيقدم ضمانا على أن يعكس الحوار تطلعات الشعب السوري المتنوعة.  
وعلاوة على ذلك، لا ينبغي البتّ في القرارات التأسيسية- مثل الدستور، ونموذج الحكم، وغير ذلك من القضايا المحورية- من خلال تصويت الأغلبية البسيطة. بدلا من ذلك، تتطلب هذه القضايا إجماعا واتفاقا في الرأي لمنع أي مجموعة من تحديد مسار الأمة من جانب واحد. ويشكل اتخاذ القرارات على أساس الإجماع ضرورة حتمية لتعزيز الثقة والوحدة بين المجتمعات السورية المجزأة.
وأخيرا، لا بد من إرساء آليات صارمة للمساءلة تضمن التزام المشاركين بمخرجات الحوار. وفي غياب هذا النوع من الحماية والضمانات، ثمة خطر كبير من أن تستغل الجهات الفاعلة القوية العملية برمتها لتحقيق مكاسبها الخاصة، الأمر الذي سوف يقوض التطلعات الديمقراطية الأوسع.

وبعد أكثر من عقد من الصراع الدامي والمدمر، لم يتكبد السوريون كل هذه التضحيات والخسائر كي يقبلوا في النهاية بدور هامشي وممارسة جوفاء على المسرح السياسي. لا بد للحوار الوطني أن يقدم خطوات ملموسة نحو الديمقراطية والشمولية وعدم الإقصاء، بدلا من أن يكون ذريعة لتعزيز السلطة القائمة. وأي شيء أقل من ذلك سيكون خيانة لتطلعات أمة تتوق إلى السلام والعدالة وتقرير المصير.
وفي حين يجب أن تظل هذه العملية بقيادة سورية، فإن الأطراف الإقليمية والدولية المعنية لها دور حاسم في هذا السياق. ويتعين على هذه الأطراف كافة أن تدعو إلى قدر أكبر من الشفافية والتشاركية، وأن تكون الضامن كي يتحول المؤتمر إلى خطوة حقيقية نحو المصالحة والاستقرار، وليس فصلا آخر في تاريخ سوريا من الفرص الضائعة.
وللوصول إلى هذه الغاية، لا بد للجهات الفاعلة الدولية أن تذهب إلى ما هو أبعد من الإدلاء بتصريحات الدعم العامة وتبدأ بطرح أسئلة واضحة تغطي أدق التفاصيل حول العملية والتدابير المتخذة التي من شأنها ضمان العدالة والشمولية.
ولكي تمضي سوريا بثبات نحو المستقبل، يتحتم على الحوار الوطني أن يتجاوز الخطب الرنانة  ويفي بوعوده. وإذا لم يرتق إلى ما هو مطلوب منه فثمة خطر حقيقي في إهدار هذه الفرصة التاريخية التي تلوح أمام السوريين لبناء مستقبل ديمقراطي، والحكم عليهم بدورة أخرى من الاستبداد واليأس.

font change