ثمة كتّاب كبار لا تتوقف رحلة المفاجآت السارة معهم حين توافيهم المنية، بل تستمر طويلا بعد ذلك. ينطبق هذا الأمر على الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 ــــ 1986) الذي ما برح يفاجئنا بنصوص مجهولة له، على الرغم من مرور أربعة عقود على رحيله. نصوص اكتُشفت الدفعة الأخيرة منها حديثا وجُمِعت في كتاب صدرت ترجمته الفرنسية عن دار "غاليمار"، وبقدر ما تثير الفضول، تثير مجموعة أسئلة، أبرزها: كيف أفلتت هذه المواد من الباحثين الذين أشرفوا على ترتيب أرشيف بورخيس ودراسته، قبل نشر أعماله الكاملة؟ وفي حال لم تفلت منهم، لماذا أهملوها؟ هل لأنها غير منجزة؟ أم لأنهم اعتبروها غير مهمة؟
دهشة الكينونة
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، تجدر الإشارة إلى أن عدد هذه النصوص يتجاوز السبعين، وإلى أن بورخيس كتبها، أو أملاها، بين عامي 1922 و1985، وهي في معظمها عبارة عن مقالات نشرت في صحف ومجلات مختلفة، أرجنتينية بشكل رئيس، تعاون الكاتب معها بانتظام. مقالات تتراوح بين مراجعات كتب، ومداخلات نقدية في الأدب أو الفن، وشهادات تكريمية مرصودة لكتّاب كلاسيكيين أو معاصرين، سِيَر حصيلية مقتضبة. باختصار، نصوص نجد فيها مختلف الأشكال التي مارس بورخيس بها شغفه بالأدب. وإلى هذه المواد، تضاف قصص خرافية قصيرة، مقدمات خصصها الكاتب لأعمال أدبية، وتبين رؤيته في هذه الممارسة نوعا من المختبر طرح فيه نظريات مثيرة تحدد المقدمة كجنس أدبي بذاته. تضاف أيضا كلمات ألقاها في محاضرات، وتوصل إلينا صوته الخاص، وقد شكلت بدورها لصاحب "الألِف" طريقة فريدة للقراءة والكتابة.
أما لماذا استغرق الأمر كل هذا الوقت كي تجد هذه النصوص طريقها إلى النشر في كتاب، فلأن أحدا لم يكلف نفسه عناء تقفي أثرها وجمعها من قبل، علما أنها نصوص غير ثانوية على الإطلاق، بل في غاية الأهمية لأنها تسمح باكتشاف أطراف عمل بورخيس الأدبي، التي لا تخلو من مفاجآت باهرة. وبحضورها في الكتاب الصادر حديثا وفقا لترتيبها الزمني، ترسم أمامنا، أثناء قراءتنا إياها، مختلف وجوه هذا العملاق التي نحتها الزمن وفعل الكتابة على حد السواء.