من "الكيتش" إلى "النيوكيتش": تاريخ ثقافي في مصطلح

نمط حياة خاضع للاستهلاك والبحث الدائم عن "جديد"

Wikicommons/ Cassius Marcellus Coolidge
Wikicommons/ Cassius Marcellus Coolidge
"صديق محتاج"، 1903، لوحة شهيرة تمثل الكيتش للفنان كاسيوس مارسيلوس كوليدج

من "الكيتش" إلى "النيوكيتش": تاريخ ثقافي في مصطلح

"تعني كلمة كيتش موقف الشخص الذي يريد أن ينال إعجاب الآخرين بأي ثمن، أن ينال إعجاب أكبر عدد من الناس. لكي ينال المرء إعجاب الآخرين، عليه أن يؤيد ما يود الجميع سماعه، عليه أن يكون في خدمة الأفكار الجاهزة. الكيتش هو ترجمة بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان" - ميلان كونديرا.

كلمة "كيتش" آتية من ألمانيا، وتحديدا من بافاريا، ويُعتقد أنها استُمدت من فعلين: الأول kitschen، الذي يشير إلى جمع النفايات المتناثرة في الشوارع وإعادة تدويرها، والثاني verkitschen، المشتق من الفعل الأول، ويعني بيع منتج بسعر أقل من قيمته، أو تقديم بضاعة بديلة بدلا من البضاعة المطلوبة.

يشير "الكيتش" إذن إلى نوعين من الظواهر: أولا، إنتاج أشياء ذات جودة أقل بفضل التقنيات الميكانيكية الجديدة لإعادة الإنتاج على نطاق واسع. ثانيا، شكل من أشكال الأسلوب المرتبط بهذه الأشياء، يتميز بزخرفة مفرطة وطابع استعراضي، وهو إفراط زخرفي كان دائما موضع حكم سلبي وانتقاد.

مرحلتان

مرت الكلمة بمرحلتين: المرحلة الأولى ارتبطت بحضارة البورجوازية الأوروبية المنتصرة في القرن التاسع عشر وامتدت حتى منتصف القرن العشرين، أما المرحلة الثانية، فهي التي صاحبت ظهور مجتمع الاستهلاك الجماهيري في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذه الأخيرة تشكل ما يمكن تسميته بـ"النيوكيتش". وهكذا ولى الزمن الذي كان فيه "الكيتش" تعبيرا عن بورجوازية تسعى إلى تقليد ثقافة الطبقات العليا وأسلوب حياتها بهدف اكتساب اعتراف اجتماعي. من المرحلة الأولى إلى الثانية، تحول المفهوم، وانتقل من أسلوب مرفوض ومخصص لعالم مألوف يتسم بنقص الذوق، إلى "الكيتش الجديد" العصري والمواكب للموضة، الذي أعاد تشكيل ملامح عالمنا من أساسه.

ما كان يُنظر إليه بالأمس على أنه نفي للفن، يحتل الآن مكانة بارزة في أعظم متاحف العالم، وما كان موضع استهجان بالإجماع، أصبح اليوم مطلوبا

هكذا أصبحنا نعيش في حضارة مشبعة بالطابع "الكيتشي" المتعدد القطاعات والمصبوغ بألوان "الكيتش". فما كان يُنظر إليه بالأمس على أنه نفي للفن، يحتل الآن مكانة بارزة في أعظم متاحف العالم، وما كان موضع استهجان بالإجماع، أصبح اليوم مطلوبا، معجبا به مكرسا. ما كان يُعتبر "غير مواكب للعصر" تحول إلى "عصري"، كما أن "سوء الذوق" صار رؤية "كُولْ" كما يقال، رؤية حرة وغير تقليدية. وهكذا، لم يعد المكان الرمزي لـ"الكيتش" هو المتجر الكبير كما كان معروفا في "الكيتش" التاريخي البورجوازي، بل أصبح السوبرماركت الذي يوزع المنتجات الصناعية المنتجة بكميات كبيرة لعدد كبير من المستهلكين.  

AFP
الكاتب التشيكي ميلان كونديرا في براغ

حضارة الصورة

يبرز "الكيتش" اليوم كتعبير عن حضارة الصورة العالمية، وحضارة العرض والتمثيل الزائف. إنه يعكس، من خلال الإفراط والبهرجة والزخرفة المفرطة التي تشكل جزءا من جوهره، روح هذه الحضارة وعمق طبيعتها. 

ذلك أن "الكيتش" لم يعد يقتصر على السمات الجمالية للأشياء والرموز فحسب، بل أصبح يشير في الوقت ذاته إلى حالة ذهنية. إنه موقف، وأسلوب حياة لإنسان جديد هو الإنسان "الكيتشي" homo kitschicus الذي يساهم في رسم ملامح نوع من الحضارة: حضارة "الإفراط". فـ"الهايبركيتش" الفائق الحداثة، هو تجسيد لـ"الإفراط" المتفاقم والمعولم. إنها إذن ثقافة جديدة: ثقافة الإفراط، والبهرجة، والزخرفة المفرطة، والتنوع غير المتجانس، الذي يزحف بشكل متزايد على العديد من القطاعات. 

تحمل الثورة الجديدة لـ"الكيتش" في طياتها إفراطا من كل الأنواع، الأمر الذي يؤدي إلى اختلالات وشعور بعدم الارتياح، وإحساس بـ"الزيادة على الحاجة" المرتبط بعدد هائل من الظواهر المتنوعة: إفراط في التنقلات والأسفار، إفراط في أعداد السياح، في المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، في عربات التسوق المكدسة، في الأجسام المفرطة السمنة، في الأطعمة الفائقة المعالجة، في الإعلانات المزعجة، وفي الصور النمطية الجنسية. إفراط في كل شيء، كل شيء يبدو "زائدا على الحاجة": البرغر المليء بـ"الكاتشاب"، قصص الحب على "نتفليكس"، الأبطال الخارقون، أفلام الحركة، الفخامة الجديدة الصاخبة للعلامات التجارية والثروات الحديثة. الإفراط والتكديس اللذان يميزان الكيتش أصبحا الآن "إفراطا" متضاعفا ومنتشرا في كل أرجاء المجتمع. ومن يتحدث عن الإفراط في الاستهلاك، يعني بالضرورة الإفراط في النفقات.

Jon Bower Dubai 2 / Alamy Stock Photo
ديكور كيتش في "وافي سيتي"، دبي

سيادة البلاستيك

ساعد في هذا الإفراط، اختراع العديد من "المواد المركبة" المشتقة من البترول (البوليستر، البولي إيثيلين، البولي بروبيلين، البولي أميد، البولي يوريثان...)، وقد أتاح ذلك إنتاج مجموعة كبيرة من الأشياء الجديدة للمنزل وللعناية بالجسد، وبيعها بأسعار معقولة، ولعدد كبير من الناس. من بين هذه الأشياء: الأثاث القابل للتفكيك، والتكديس والطي، الكراسي، المقاعد، والطاولات المصنوعة من البوليستر، المصفيات، الغلايات، وسائل الإضاءة، الساعات المنبهة، الراديوهات، الكاميرات البلاستيكية، الهواتف التي تملأ الأسواق جميعها، النظارات النافعة والمضرة، الأحذية بأشكالها وعلاماتها اللامتناهية، والملابس الجاهزة المصنوعة من الألياف الصناعية.

تحمل الثورة الجديدة لـ"الكيتش" في طياتها إفراطا من كل الأنواع، الأمر الذي يؤدي إلى اختلالات وشعور بعدم الارتياح، وإحساس بـ"الزيادة على الحاجة"

في عام 1957، وفي كتابه "أسطوريات" أعرب رولان بارت عن حماسته تجاه مادة البلاستيك، تلك المادة الجديدة "المعجزة" و"السحرية" التي تتيح إنشاء أشياء بلا حدود وبتكلفة منخفضة. وفي العقد التالي أبدى المصممون الانبهار نفسه بتلك العجينة الصناعية العالمية، التي اعتُبرت رمزا للحداثة، ودليلا على القوة الخالقة للإنسان على المادة، والقادرة على إضفاء انحناءات خفيفة، وشفافيات ملونة على الأشياء. لقد كان ظهور البلاستيك، كما يشير بارت، "تحولا لمفهوم الكيتش ذاته: بفضله حدث تغير نظام 'التقليد'. فبينما كان الكيتش في السابق 'استخداما بورجوازيا تاريخيا'، مدفوعا بالتظاهر والادعاء والمظاهر الاجتماعية، أصبح، مع ظهور البلاستيك، 'مادة منزلية [...] أول مادة سحرية لا تتنافر مع الحياة اليومية العادية، فلأول مرة، صار الاصطناع يستهدف العموم، وليس النادر". 

غلاف كتاب "الميثولوجيات" لرولان بارت

بينما كان "الكيتش" في مرحلته الأولى يقتصر على عالم الأشياء المنتجة صناعيا، وذات القيمة القليلة والمعروضة بطريقة متباهية في المنازل البورجوازية، فإنه، بالتوازي مع هذا المسرح الجديد للأشياء، ومن خلال اختراع السينما، والإعلانات، وأيضا، التصوير الفوتوغرافي، والصحافة ذات الانتشار الواسع، والأدب الصناعي، استحدث عالما جديدا من الصور، والقصص والعروض التي تخاطب الجمهور الأكبر، وتشكل ما أصبح يسمى بـ"ثقافة الجماهير"، تلك الثقافة التي يعتبرها أنصار الثقافة الأكاديمية ثقافة دونية ومهينة، واصفين إياها بأنها "بضاعة رخيصة" أو "تقليد رديء"، أو، كما يقولون في الولايات المتحدة، إنها "كيتش".

"النيوكيتشية"

بعد النسخ البسيط لـ"الكيتش"، جاءت الابتكارات "النيوكيتشية" التي يقدمها المصمم باعتباره "مهيئ الفضاء"، ومخترع البيئة، و"صانع العلاقات بين الإنسان والمجتمع". بينما كان "الكيتش" الأولي يتجلى كإعادة إنتاج لنماذج قديمة، فإن "النيوكيتش" الذي يقوده التصميم يتشكل كبحث عن أشكال جديدة ومنتجات مبتكرة توفر الراحة، وتحسن جودة الحياة اليومية للمستهلكين.

هكذا صار الشكل الجديد لـ"الكيتش" هو المؤقت-الدائم، القابل للاستخدام مرة واحدة، وهو الحد المنهجي لعمر المنتجات، والتدهور المتعمد لجودة السلع

مع الرأسمالية الاستهلاكية الجماهيرية، لم يعد "الكيتش" يعتمد كثيرا على إعادة إنتاج النماذج القديمة المرموقة، بل على طرح أشياء متغيرة باستمرار، "قابلة للاستخدام مرة واحدة"، أشياء عابرة، ومصممة لعدم الاستمرار، ولكي "يلقى بها، ويُتخلص منها". بينما ينتشر استخدام المواد ذات القيمة الأقل (بحلول البلاستيك محل الزجاج، والمصنوعات الاصطناعية محل النسيج الطبيعي)، يُستبدل مبدأ التسارع بمبدأ التقليد، حيث يعمل النظام الإنتاجي الجديد بالكامل نحو انتهاء الصلاحية أو "التقادم المدمج" للمنتجات التي لا تعود صالحة للاستهلاك، حتى وإن كانت لا تزال تصلح للاستعمال.

وهكذا صار الشكل الجديد لـ"الكيتش" هو المؤقت-الدائم، القابل للاستخدام مرة واحدة، وهو الحد المنهجي لعمر المنتجات، والتدهور المتعمد لجودة السلع. هذا الوضع يعمم سيطرة التافه والزائف، مستعيدا الجذر اللغوي للكلمة kitschen: أي ما يُلقى في الشارع، وما لا يستحق سوى أن يُلتقط.

Shutterstock
تعريف كلمة كيتش في قاموس

القول بأن النظام "النيوكيتشي" يقوم على "مبدأ انتهاء الصلاحية المدمج في المنتج" و"طرح أشياء جديدة في التداول" يعني أن عالم إنتاج السلع الاستهلاكية بأسره أصبح محكوما هيكليا بآليات الموضة. فكل عام، وكل موسم، يصبح من الضروري تجديد عروض العلامات التجارية.

في هذا الإطار التاريخي-الاجتماعي الجديد، لم يعد "الكيتش" يحيل إلى ما يُستخدم لتحديد ذوق طبقة اجتماعية معينة، أو نوع من الأشياء الزخرفية كما كان في معناه الأولي، بل أصبح يشير إلى نمط جديد من الإنتاج الاقتصادي، ونموذج شامل للمجتمع، وطريقة حياة جديدة تحت تأثير النزعة الاستهلاكية. وفي اللحظة التي يصبح فيها هذا النمط الاستهلاكي مهيمنا، يظهر "النظام النيوكيتش" الذي ينتج "مجتمع الكيتش العالمي"، و"الحضارة النيوكيتش"، و"الإنسان الكيتشي" (homo kitschicus)، ذلك الإنسان الذي، وكما كتب كونديرا، لا ينفك يترجم "بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان".

font change

مقالات ذات صلة