مع بداية العد التنازلي لانطلاق الدورة 56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في 23 يناير/كانون الثاني الجاري، نستعيد أحد أبرز الأسماء المرتبطة بأحداث الشتاء القاتل الذي عصف بالقاهرة في 2013. ذلك العام العربي المرتبك بكل ما فيه من ظروف وأحداث سياسية واجتماعية لم تعصف بالقاهرة وحدها بل أثرت على معظم العواصم العربية.
ويعد معرض القاهرة الدولي للكتاب أحد أكبر المعارض في العالم، فقد أُدرج في عام 2006 كثاني أكبر معرض عالمي بعد معرض فرانكفورت الدولي.
ومما لا شك فيه أن ذكرى هذه الدورة ستزداد قيمة إذا ما تم خلالها تخصيص جناح يتواءم مع أحداث ذلك الشتاء القاهر الذي أخذ معه من ضمن الأشياء الثمينة تجربة إبداعية عربية تتمثل في سيرة ومسيرة الفنان التشكيلي والروائي والشاعر السوداني محمد حسين بهنس، الذي رحل في ظروف مأساوية حافرا اسمه في ذاكرة شتاء القاهرة القارس ذاك. جناح يُسلط فيه الضوء على حياته عبر عرض أعماله في خطوة تضمن له مكانا دائما في تأريخ الثقافة العربية.
ولد الراحل محمد حسين بهنس في السودان عام 1972، وكان له حضور بارز في مجال الأدب والفن التشكيلي منذ شبابه، وبدأ مشواره الفني منذ عام 1999 عندما أقام أول معرض له في الخرطوم، قبل أن ينخرط في كثير من الفعاليات الثقافية والفنية الدولية التي أضافت نجاحات جديدة إلى رصيده الفني والإبداعي. ومن بين هذه الفعاليات كانت مشاركته في ندوة "لغة الألوان" في ألمانيا عام 2000.
في أدبه السردي، تمكن الراحل بهنس من تقديم صورة فريدة عن الحياة في السودان، من خلال روايته "راحيل" التي عُدت واحدة من أبرز الأعمال الروائية السودانية
إلى جانب مشاركاته في المعارض الدولية برع الراحل بهنس في الشعر والموسيقى فكتب الكثير من القصائد التي لحنها وأداها عدد من الفنانين السودانيين، أشهرها قصيدته "أهديك الفوضى" التي عبر فيها عن اضطراب الواقع السوداني وجموح الحياة الاجتماعية والإنسانية... كما لو أنه لم يملك ما يواجه به تحديات الحياة غير صوته وفنه... لكن معاناة هذا المبدع وصراعه مع الظروف الحياتية والنفسية أظهرت الوجه الآخر لمعظم المبدعين العرب، وهو الوجه الذي غالبا ما يبقى في الظِل والتواري.
في أدبه السردي، تمكن الراحل بهنس من تقديم صورة فريدة عن الحياة في السودان، من خلال روايته "راحيل" التي عُدت واحدة من أبرز الأعمال الروائية السودانية. وقد سلط فيها الضوء على المعاناة اليومية لشخصية سودانية تدعى "هاجر غلوب" وهي فتاة من الطبقة الكادحة، الطامحة لتحقيق أهدافها وأحلامها رغم قسوة الوجود من حولها. وهي تتطابق إلى حدٍ ما اليوم مع واقع الحياة الاجتماعية المريرة في بلده السودان.
المتعمق في رواية "راحيل" هذه سيشعر كما لو أن الشتاء الذي مات به "بهنس" ظل قرينا له طوال حياته وكتاباته... يقول فيها: "كانت حركة الشارع أمامي من خلال زجاج الباب ترجعني لحركة النمل قبل حلول الشتاء، وكانت الشمس تحدق بقوة كمن يبحث عن شيء عزيز، كان ذلك اليوم الغامض الذي غير مسار حياتي". وحدث أن تغير مسار حياته فعلا، وفي الشتاء أيضا.
شكل رحيل محمد حسين بهنس في عام 2013 صدمة للمشاهد الثقافية العربية، فقد توفي في القاهرة التي اختارها مُستقَرا لفترته الأخيرة التي عاشها في معاناة نفسية صعبة، قضى معظمها على أرصفة شوارعها، وعاني من شدة الجوع والبرد حتى التهمه الشتاء ليموت في ميدان مصطفى محمود بالقاهرة، ليتم نقله إلى قسم "الدقي" ومن ثم إلى "مشرحة زينهم" ولم يتعرف عليه إلا بعد يومين، ليطلعنا تقرير الطب الشرعي إلى أن سبب الوفاة هو البرد والجوع.
خلق موت "بهنس" بهذه الطريقة الأليمة استفهامات عديدة حول أسباب معاناته في السنوات الأخيرة... فأشارت بعض الأقوال إلى أن سبب تدهور حالته النفسية ناتج عن مأساة تسببت فيها وفاة زوجته وابنه في حادث، وكذلك وفاة شقيقه في بريطانيا، إضافة إلى موت والدته دون أن يعلم بذلك لعدة سنوات... ما دفعه لاحقا إلى حالة من اللامبالاة ومواصلة حالة التشرد. بينما تذكر مصادر أخرى أن بهنس كان قد عاش في فرنسا، حيث تزوج ثانية من امرأة فرنسية، وانفصل عنها بعد فترة وعاد إلى مصر بعد إبعاده عن فرنسا التي تباهت بتعليق لوحاته الضوئية على قصرها الإليزيه.
إن فكرة تكريم الراحل بهنس عبر جناح خاص في معرض القاهرة بدورته المُقبلة في ظل الحالة الثقافية السودانية الراهنة تكتسب أهمية خاصة. كما أن استحضار ذكراه في هذا المعرض الدولي البارز سيسهم في تعريف الأجيال الجديدة بهذا المبدع الذي عاش وكتب وأبدع في الظل، ليبقى اسمه خالدا رغم كل الظروف التي مر بها. إضافة إلى أن وزارة الثقافة المصرية تملك الكثير من خيارات تكريمه عبر تسمية الشارع أو الرصيف الذي احتفظ بحياته الأخيرة باسمه.
أخيرا، يجب استمرار ذكرى مبدع عربي كـمحمد حسين بهنس في أذهان الجميع كرمز للإبداع والمثابرة في وجه الصعاب، ورحيله المفاجئ من خلال معاناته في شوارع القاهرة يعكس معاناة الكثير من المبدعين الذين قد يغيبون عن الأنظار، ولكن إبداعاتهم لا تنسى أبدا.