تونس تنتظر معجزة اقتصادية في 2025

تحديات أمنية ومالية أولها سداد قروض داخلية وخارجية وتمويل شراء الصواريخ

المجلة
المجلة

تونس تنتظر معجزة اقتصادية في 2025

شهدت تونس خلال شهر ديسمبر/كانون الأول 2024 حدثين مهمين يختزلان وحدهما طبيعة ورهانات السنة الجديدة وتحدياتها التي ستكون بوضوح، مالية وأمنية بامتياز. يتمثل الحدث الأول في إضافة فصل على عجل في موازنة 2025 قبل المصادقة عليها بساعات قليلة لتمكين خزينة الدولة من الحصول على تسهيلات تمويلية من المصرف المركزي بـ2,2 مليار دولار. أما الحدث الثاني فهو إعلان "البنتاغون" موافقة وزارة الخارجية الأميركية على طلب قدمته الحكومة التونسية لشراء صواريخ من نوع "جافلين" المضادة للدروع بتكلفة تقدر بـ107,7 ملايين دولار.

لن تختلف سنة 2025 عن سابقاتها في تحدياتها المالية والاقتصادية، وقد تكون أصعب مع تقلص هامش المناورة بسبب صعوبات تحصيل موارد خارجية، وهي صعوبات فرضت اللجوء إلى الاعتماد بشكل قياسي على الاقتراض من السوق الداخلية بما يهدد صلابة النظام المصرفي للبلاد واستقرار الأسعار والعملة وما تبقى من النسيج الاقتصادي.

وسيكون رئيس الجمهورية قيس سعيد في قلب هذه التحديات الاقتصادية والمالية بعدما نجح في حسن إدارة وتوظيف صدمتين اقتصاديتين خلال عهده الرئاسي الأول: صدمة جائحة "كوفيد-19" التي أتاحت له إزاحة نظام "حكم الاسلاميين"، ثم صدمة الحرب الروسية الأوكرانية التي أثقلت كاهل المالية العامة ونجا سعيد من ارتداداتها بفضل دعم شعبي تمكن من تعزيزه من خلال تعهداته بالتغيير والتنمية والإعمار مباشرة بعد الانتهاء من مرحلة إعادة بناء المؤسسات الدستورية.

تقدر الحاجات التمويلية من السوق الداخلية بـ6,8 مليارات دولار في 2025، في مقابل 3,6 مليارات دولار في عام 2024، فيما تراجعت القروض الخارجية المبرمجة للسنة الجارية إلى النصف 

عرفت تركيبة الدين العام تحولا لافتا منذ العام المنصرم نتيجة الاعتماد بشكل مطرد على الاقتراض الداخلي في مقابل تراجع حصة الاقتراض الخارجي.

فاستنادا إلى قانون الموازنة العامة، تقدر الحاجات التمويلية من السوق الداخلية بـ6,8 مليارات دولار في 2025 في مقابل 3,6 مليارات دولار في عام 2024، فيما انخفضت القروض الخارجية المبرمجة لهذا العام إلى النصف مقارنة بالسنة المالية المنصرمة، وهي في حدود 1,9 مليار دولار لسنة 2025 بعدما كانت في مستوى 3,7 مليارات دولار في 2024.

تحدي سداد القروض والأجور وكلفة الصواريخ

تختلف القراءات حول أسباب وتداعيات وارتدادات هذه التحولات الجذرية في سياسات الاقتراض في ظل تواصل الانكماش الاقتصادي وفي ظل التطورات الجيوسياسية التي أعادت الهاجس الأمني والدفاعي بقوة، وليس أدل على ذلك من افتتاح الاجتماعات الرئاسية لهذا العام بلقاء مع وزير الدفاع في الثاني من يناير/كانون الثاني، أكد خلاله الرئيس قيس سعيد، الذي أعيد انتخابه حديثا لمدة خمس سنوات، عزمه تطوير القدرات العسكرية للجيش. ويأتي هذا الإعلان بعد مرور أقل من شهر على إعلان وزارة الدفاع الأميركية قبول طلب من الحكومة التونسية لشراء صواريخ من نوع "جافلين".

أ.ف.ب
الرئيس التونسي قيس سعيد يتحدث بعد مراسم أداء اليمين أمام المجلس الوطني في تونس في 21 أكتوبر 2024

على المدى القريب، ستكون الاشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية صعبة ومحدودة على المستوى المالي بسبب الضغط الكبير على المالية العامة التي لا تشمل مخصصات سداد قروض داخلية وخارجية فحسب، بل أيضا صرف أجور موظفي الدولة لشهر يناير/كانون الثاني.

يقول رئيس لجنة المالية في البرلمان عبد الجليل الهاني لـ"المجلة"، إن قيمة القروض الواجب تسديدها في الأشهر الثلاثة الأولى تبلغ 2,8 مليار دولار (9 مليارات دينار). وكشف أن هذه القروض تتوزع بين 1,5 مليار دولار (5,1 مليارات دينار) كدين خارجي و1,2 مليار دولار (3,9 مليارات دينار) كدين داخلي.

وتابع الهاني أن "هناك  ضغطا كبيرا على الموازنة العامة يشمل صرف أجور شهر يناير/كانون الثاني والنفقات الموجهة للدعم (المحروقات والمواد الأساسية) التي تقدر بـ1,8 مليار دينار (نحو 570 مليون دولار) علاوة على نفقات الاستثمار البالغة 1,9 مليار دينار (نحو 600 مليون دولار).

حسابيا تبلغ قيمة القروض، الواجب سدادها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة فقط، نصف حجم أصل الدين العام لكامل سنة 2025 المقدر بـ5,7 مليارات دولار (18,2 مليار دينار).

من وراء هذه الأجندة المالية المزدحمة، يبرز التشكيك في مدى قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها، وتتعاظم معه التحذيرات من أخطار التعثر المالي.

لكن على الرغم من دقة الوضع المالي، فإن فرضية العجز عن سداد الديون لا تبدو مطروحة بالمطلق وفق ما أكد رئيس لجنة المالية في تصريح لـ"المجلة"، وأشار إلى أن روزنامة سداد الديون ستنطلق آخر الشهر الجاري بتسديد "قرض رقاعي" (قرض من الاكتتاب الوطني في سندات خزينة) بمليار دولار قال إن الدولة كانت قد حصلت عليه من السوق المالية العالمية عام 2015.

نصف أصل الدين العام لكامل 2025 المقدر بـ5,7 مليارات دولار، يجب أن يسدد في الأشهر الثلاثة الأولى من السنة

وأوضح أن استحقاق المليار دولار سيسدد دفعة واحدة، وأضاف أنه ستتم تغطية سداد قرض بقرض آخر بقيمة 500 مليون دولار من البنك الأفريقي للاستيراد والتصدير من مخزون العملة الأجنبية الذي يغطي بتاريخ 6 يناير/كانون الثاني، 123 يوم توريد.

كما ذكر الهاني أن الأشهر الأولى من السنة تعتبر أساسية لجهة قيمة إيرادات الدولة، خصوصا هذه السنة، والمحصلة من موارد استثنائية تزامنا مع تفعيل قرار العفو الجبائي (الضريبي) والجمركي، تضاف إليها مداخيل الضريبة على الشركات المتوقع تحصيلها خلال شهر مارس/آذار 2025.

هل تتحقق نسبة النمو المستهدفة بـ 3,2 في المئة في 2025

وتستهدف الحكومة تحقيق نسبة نمو بـ3,2 في المئة عام 2025، وهي نسبة وصفها رئيس الحكومة كمال المدوري بالواقعية، فيما توقع البنك الدولي تحقيق الاقتصاد التونسي نسبة نمو لا تزيد على 2,3 في 2025.

ويأتي تباطؤ الاقتصاد في سياق تراجع طويل الأمد في النمو على مدى العقد الماضي حيث كان بمعدل 1,6 في المئة بحسب البنك الدولي، مع تراجع معدلات الاستثمار والادخار التي انهارت بشكل غير مسبوق منذ الاستقلال ولم تتعد سنة 2020 الـ4 في المئة من الناتج المحلي و5,7 في المئة نهاية سنة 2023.

من جهته يرى أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي، وهو من ضمن نخبة الاقتصاديين الذين استشارهم رئيس الجمهورية منذ فترة، أن تحقيق نسبة نمو بـ3,2 في المئة من "المستحيلات السبعة".

ويضيف الشكندالي في تصريح لـ"المجلة" : "سينتج من لجوء الدولة عام 2025 للاقتراض الداخلي، تجفيف السيولة وإقفال منافذ التمويل أمام الاستثمار الخاص وسيتسبب ذلك في خفض الموارد الجبائية وبالتالي لا أتوقع أن تتجاوز نسبة النمو 1,3 في المئة".

جدير بالذكر أن التقرير الأخير (نوفمبر/تشرين الثاني 2024) للبنك الدولي كان قد حذر من أخطار تحويل نسبة متزايدة من تمويلات المصارف المحلية التونسية إلى احتياجات الحكومة التمويلية بدلا من القطاعات الاقتصادية، معتبرا أن ذلك يمثل أيضا تحديا لاستقرار العملة والأسعار.

وقد ارتفع الدين المحلي، وفقا للبنك الدولي، من 29,7 في المئة من إجمالي الدين العام سنة 2019 الى 51,4 في المئة حتى شهر أغسطس/آب 2024.

من الصمود إلى الإقلاع في 2025

يقود كمال المدوري، وهو خامس رئيس حكومة منذ 2020، خطة لإعادة تنشيط الاقتصاد. ويعول المدوري، الذي يوصف برجل الملفات، على حسن إدارة معادلة صعبة تتراوح بين ضغوط المالية العامة وضرورات الحفاظ على توازناتها الكبرى من جهة وموجبات تنفيذ الإصلاحات ودفع عجلة الاستثمار والتنمية مع إعادة الدور الاجتماعي للدولة من جهة أخرى.

لكن على الرغم من هذه المعادلة الصعبة وحتى المستحيلة في السياقين المحلي والإقليمي، بدا المدوري واثقا خلال مناقشة موزانة 2025 عند تحديده الأولويات الاستراتيجية للمرحلة المقبلة التي يقول إنها تتمثل في العبور بالاقتصاد الوطني من مرحلة الصمود إلى مرحلة الإقلاع. معتبرا أن العوامل متوفرة لتحقيق هذه الأهداف من خلال تشريعات ترمي الى حلحلة مشاريع كبرى معطلة أكد أنه تم جردها وأن عددها يبلغ 1126 مشروعا.

وتستوجب تحقيق هذه الأهداف مراجعة الخيارات الاقتصادية وفق وزير التجارة السابق محسن حسن الذي ذكّر في تصريح لـ"المجلة" بعدم حلحلة الاشكاليات القائمة على مستوى السياسات القطاعية وعلى مستوى التصرف في المنظومات الانتاجية والزراعية، وكذلك على مستوى مناخ الأعمال. وخلص إلى أن كل هذه العوامل ساهمت في تراجع الاستثمار بنسبة 15,7 في المئة.

ويثير استمرار تردي مناخ الأعمال تساؤلات مختلف الفاعلين الاقتصاديين الذين يرتقبون قرارا سياسيا حاسما لإنهاء حالة الركود والتردد، وإصلاحات جذرية تتيح التنافسية واستعادة القدرة الإنتاجية وجاذبية تونس كوجهة استثمارية، وخصوصا فتح قنوات التمويل.

تونس تحولت إلى "جهنم ضريبية"، وفشل مقاربة التعويل على رفع الضرائب على حساب الاستثمار

هشام العجبوني، برلماني سابق وخبير في المحاسبة والتدقيق

فقد طرح الرئيس قيس سعيد منذ سنتين قانون "الصلح الجزائي" أو المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين، وقال إنه سيمكن الدولة من تحصيل 4,2  مليارات دولار (13,5 مليار دينار)، وهو مبلغ يوازي ثلثي أصل الدين العام لسنة 2025.

وكشف مصدر رفيع المستوى لـ"المجلة" أن لجنة الصلح الجزائي تلقت 370 ملفا لعقد صلح مع الدولة، مبينا أن اللجنة عقدت 100 جلسة عامة، توصلت خلالها إلى اتفاق شمل 80 ملفا. وكشف أن أعلى مبلغ من مساعي الصلح قدر بـ140,6 مليون دولار (450 مليون دينار).

الإشكال المطروح الآن في مسار المصالحة، هو حالة الفراغ القانوني القائمة بعد نهاية الآجال دون المصادقة على أي ملف، والتي يعود الحسم فيها بحسب قانون الصلح الجزائي، إلى مجلس الأمن القومي الذي لم يعقد أية جلسة، مما يعني مواصلة سجن عدد من كبار رجال الأعمال وتحصّن آخرين بالفرار إلى خارج البلاد.

أ.ف.ب
مزارع يحصد الزيتون من حقل في بلدة منزل كامل غرب مدينة المنستير الساحلية في تونس في 5 ديسمبر 2024

يضاف إلى ذلك الضغط الضريبي الذي يعدّ أحد أهم أسباب تردي مناخ الأعمال وتراجع الاستثمارات. ويوضح هشام العجبوني، الخبير  في المحاسبة والتدقيق والبرلماني السابق، في تصريح لـ"المجلة"، أن تونس تحولت إلى "جهنم ضريبية"، لافتا إلى فشل مقاربة التعويل على رفع الضرائب على حساب الاستثمار.

وقال العجبوني إن "تونس تحتل المرتبة الأولى أفريقيا في نسبة ضغط الجباية الضريبية التي كانت في حدود 19,75 في المئة سنة 2010 وارتفعت سنة 2024 إلى 24,4 في المئة وستكون في حدود 24,7 في المئة سنة 2025، وهذا يحد من الاستثمارات ومن القدرة المعيشية. وفي اعتقادي مشكلة تونس في خلق الثروة والضغط الضريبي مكبل للنمو".

ودعا الخبير العجبوني إلى التعجيل في تخفيف نسبة الضريبة، مما سيساهم في إعادة محركات النمو وتحديدا الاستثمار والاستهلاك، وبما يمكن من إدماج الاقتصاد الموازي. وذكّر بانخفاض المداخيل الضريبية بـ470 مليون دولار (1,8 مليار دينار) مقارنة بما كان متوقعا بسبب تراجع نسبة النمو التي لم تتعد 1,2 في المئة سنة 2024.

معجزة اقتصادية مطلوبة... ومؤشرات إيجابية

يرتكز الخطاب الاقتصادي-المالي للسلطة السياسية في تونس على معادلة تجنب الأسوأ وتفادي الكارثة، وخصوصا تكذيب توقعات الانهيار المالي بسبب أخطار التخلف عن سداد الديوان. وتبدو تونس في انتظار معجزة اقتصادية إن تحققت التعهدات التي قدمتها الحكومة حول المشاريع الاستراتيجية خصوصا في مجال الطاقات المتجددة والفوسفات والمشاريع الكبرى المعطلة.

وكانت سنة 2024 الأصعب منذ سنوات على مستوى تحصيل الموارد لسداد خدمة الدين وتأمين نفقات الدعم وتخليص الموردين بسبب القيود المفروضة على التمويلات الخارجية منذ قرار إيقاف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي نهاية سنة 2022.

يتوقع تواصل انتعاش قطاع السياحة الذي حقق عام 2024 إيرادات بلغت 2,3 مليار دولار، وتجاوز عدد السياح للمرة الأولى 10 ملايين سائح، مع مؤشرات باستمرار النمو السياحي

لكن على الرغم من الصعوبات، كانت سنة 2024 استثنائية أيضا من حيث مداخيل صادرات زيت الزيتون التي تجاوزت 5 مليارات دينار (1,57 مليار دولار)، وعلى مستوى إيرادات السياحة وتحويلات المغتربين (2,3 مليار دولار عام 2024)، وايضا تراجع مهم في نسبة التضخم من 9,3 في المئة سنة 2023 إلى 6,2  في المئة متوقعة لسنة 2025.

ويصف تقرير لمركز الدراسات السياسية الدولية، وهو مركز إيطالي غير حكومي، ذلك بالمؤشرات الإيجابية التي مكنت البلاد من الصمود. لكن التقرير أكد في المقابل أنها تبقى غير كافية لمواجهة ارتفاع الدين العام الذي تتوقع الحكومة أن يبلغ 80,46 في المئة من الناتج المحلي، ولمعالجة اختلال توازن المالية العامة.

ما قد يختلف هذه السنة هو التراجع المحتمل لمداخيل تصدير زيت الزيتون بعد الانخفاض الكبير في الأسعار في الأسواق العالمية، فيما يتوقع تواصل انتعاش قطاع السياحة الذي حقق سنة 2024 إيرادات بـ2,3 مليار دولار وتجاوز عدد السياح لأول مرة 10 ملايين سائح مع مؤشرات بتواصل هذا الانتعاش.

وتخفي التطورات الأخيرة مخاوف على تواصل انتعاش هذا القطاع، خصوصا من خطر الإرهاب الذي عاد ليمثل تحديا في المنطقة وفي الداخل، وانعكاس ذلك على الأمن القومي التونسي وعلى اقتصاد البلاد.

وتبقى رهانات 2025 مالية واقتصادية بالتأكيد وأيضا أمنية وتتطلب مثلما يدعو جل الخبراء، خطة إنقاذ وطني تعيد الى الاقتصاد الوطني ثقة مدفوعة بتهدئة سياسية.

font change

مقالات ذات صلة