الرواية وغواية الألعاب في "أستاذ الغو" لكواباتا

حين تتماهى بنية النص مع بنية اللعبة

الرواية وغواية الألعاب في "أستاذ الغو" لكواباتا

حسب الرواية أنها محض لعبة، تتأرجح بين الوجودي والجمالي، بين الواقعي والتخييلي، بين المادي والرمزي، بين العادي واللامألوف، بين الممكن والمستحيل، لتكون متأهبة في انفتاحها الدائم على ما يغويها من ألعاب مجاورة وأخرى تبدو بعيدة، كيما تستضيفها ضمن تجريبها الخاص، إما كموضوعة للتخييل، أو كهندسة لاختراع شكل وابتكار علامة بنائية مفردة.

لعل لعبة الشطرنج ما حظي بالوافر من التفات الرواية في تاريخها الحافل، رواية "الدفاع" لفلاديمير نابوكوف ورواية "لاعب الشطرنج" لستيفان زفايغ على سبيل المثل، ثم ألعاب مغايرة، محلية أو شائعة على نحو إنساني، مثل لعبة الحجلة التي نبغ خوليو كورتازار في الاشتغال عليها بإبهار ضمن رواية له ذائعة الصيت بالاسم نفسه، ولعبة الورق التي احتكم إلى مكرها إيتالو كالفينو في روايته الضالعة تعقيدا "قلعة المصائر المتقاطعة"، وقس على ذلك ما يمكن التفصيل فيه، لا في نوع الرواية وحده، بل يشمل الشعر والقصة القصيرة وأشكالا تعبيرية أخرى.

66 تقريرا صحافيا تتحول إلى رواية

في هذا المنحى الاستثنائي لغواية اللعبة ضمن رهان الرواية المجازف، لا يمكن القفز على مخاطرة ياسوناري كاواباتا الذي حول 66 تقريرا صحافيا عن وقائع مباراة تاريخية إلى رواية هي الأشد اختلافا وفرادة وتعقيدا في منجزه السردي، إذ كلفته صحيفة "ماينيتشي" مهمة متابعة مباراة "الغو" المثيرة بين البطل شوساي التي خسرها ضد خصمه الأصغر سنا مينورو عام 1938.

في أول إشراقة لها، بزغت رواية "أستاذ الغو" سنة 1951 في مجلة "شينشو" Shincho قبل أن تُنشر في كتاب سنة 1954، وأعقبتها روايات أخرى مثل "الجميلات النائمات" في 1961 و"العاصمة القديمة" في 1962 و"جمال وحزن" في 1964.

حوّل كاواباتا 66 تقريرا صحافيا عن وقائع مباراة تاريخية إلى رواية هي الأشد اختلافا وفرادة وتعقيدا في منجزه السردي

تستهل الرواية وقائعها بتاريخ موت شوساي، أستاذ لعبة الغو، داخل نزل "أوروكويا" صبيحة 18 يناير/ كانون الثاني سنة 1940، في السادسة والسبعين من عمره. حادثة وفاته هذه، تلي ليلة 17 في آتامي الشهيرة لمناسبة أو مهرجان يحتفي بالكاتب كويو، صاحب رواية "ذهب الجان" وتُذيّل متنها الحكائي بجنازته، في ما يشبه هندسة دائرية.

المباراة الأخيرة للبطل الأسطوري شوساي

السارد هو الصحافي أوراغامي، الذي اضطلع بتغطية صحافية لآخر مباريات شوساي في بطولة الغو، بتكليف من صحيفة "طوكيو نيشينيشي شيمبون"، ودوّن تقريرا عنها في أربعين حلقة. البطولة المثيرة استغرقت نصف عام عبر 14 جولة، أُجريت في طوكيو بدءا من 16 يونيو/ حزيران 1938 في مطعم "كويوكان " وانتهاء في 4 ديسمبر/ كانون الأول بنزل دانكوين في كيتو.

كان أستاذ الغو وصل إلى آتامي، في 15 يونيو/حزيران وتوفي في 18 منه، كأنما جاءها ليموت لا غير، وفي يوم 16 من الشهر نفسه زاره الصحافي أوراغامي، ولعب معه الشطرنج قبل أن تتدهور صحته، فكان آخر من التقط له صورة وهو على قيد الحياة.

Japan Ki Association
مباراة تعليمية بين مايجيين هونينبو ساكاتا هيديو وياسوناري كواباتا، 1963

توثّق الرواية بتقنية التسجيل الصحافي وقائع المباراة هذه بدقة محكمة عبر استرجاعات الذاكرة واحتكاما إلى تخييل ذاتي يضمر كتابة سيرة بطل اللعبة المريب من جهة والتعريف بجماليات الغو من جهة ثانية. فلعبة الغو الغامضة والمعقدة ذات أصول صينية وفدت إلى اليابان وتطورت عبر قرون لتأخذ شكلها الأجمل والأعمق عكس شكلها الأولي البسيط: "لقد فتح اليابانيون الباب أمام القوة الاحتياطية لتلك الحكمة وهو درب 361 الذي رأى الصينيون أنه ينطوي على مبادئ الطبيعة والكون والحياة الانسانية، ولهذا سمّوه نهر الخالدين، لعبة القوى الروحية الخصبة. لقد بات واضحا أن الروح اليابانية ارتقت بلعبة "الغو" فوق حد المستورد".

والصينيون الذين يحترفون لعبة الغو أنفسهم، لا تتفجر عبقريتهم في اللعب إلا بعد أن يزوروا اليابان أو يترعرعوا فيها، والحالة الأمينة لهذا المثال تجد صدقها في البطل الصيني وو، الذي ستجمعه مباراة تاريخية مع شوساي، تفرد لها الرواية فصلا كاملا.

الشهادة في سبيل الفن

ينازل بطل الغو، شوساي، في مباراته الأخيرة خصما يدعى أوتاكيه، ترصد الرواية الحالات المتعاقبة لملامح وجهيهما وانفعالاتهما على طول فراسخ الجولات: "في جلوسهما إلى الرقعة قدم الأستاذ وأوتاكيه نموذجا للتعارض الصارخ: السكينة أمام الحركة الدائمة، هدوء الأعصاب أمام التوتر". وهو رصد مشفوع بسيرورة تحولات مناخية – رذاذ ومطر وثلج وخريف وشمس...الخ - تتناغم وطبيعة أطوار الجولات و متغيرات حساسية اللاعبين.

توثّق الرواية بتقنية التسجيل الصحافي وقائع المباراة هذه بدقة محكمة عبر استرجاعات الذاكرة واحتكاما إلى تخييل ذاتي

أوتاكيه الشاب يعي تماما أنه يباري أسطورة الأستاذ الذي لا يقهر، وإن أمسى شيخا يعاني هنات حرّى، منها علة القلب ويخشى أن يلحقه عار تاريخي من أنه يواجه بحقارة مريضا وبجشع وضيع يطمع في هزيمته والظفر باللقب. الجريدة التي نظمت المباراة، تدرك مسبقا الخطر المحدق بأستاذ الغو الشيخ، لكن طموحها التجاري أقوى وهي منصرفة إلى إنجاح التظاهرة بكل شكل من الأشكال وغير مكترثة بالوعكات الصحية المتوالية التي كانت تنتاب شوساي، أما أستاذ الغو، شوساي، فكأنه نذر نفسه للشهادة في سبيل الفن.

إنه آخر نموذج لإرث الغو كنمط وجود وأسلوب فني. يخوض معترك المباراة دفاعا عن جمال اللعبة وعمقها الأنطولوجي والتاريخي. هي الكرامة والنبل والشرف والطهارة ضد الدنس والتلفيق والتقنية، صراع القديم والجديد. غير أن شهوة شوساي للعب لا تقتصر على لعبة الغو، بل يستعين بالشطرنج والبلياردو والمهاجونغ بعد انتهاء الجولات: "لعب ليلا ونهارا، وبدا هوسه مثيرا للمتاعب والقلق، فلم يكن يلعب للتخلص من الكآبة أو المال بقدر ما كان يلقي بنفسه بين أنياب شرور اللعب".

Mario De Biasi per Mondadori Portfolio via Getty Images
ياسوناري كواباتا، الحائز نوبل، في منزله بكاماكورا، مارس 1970

ولأن المعارك الفعلية تشهد تحقق الغامض الذي كان طي المجهول مع الأقدار التي تختتم في برهة وجيزة وفق توصيف ايواموتو بوقار: "هكذا تكون الحروب"، فالمنعطف الحاسم سيفاجئ الصحافي أوراغامي الذي لم يدرك كهاوٍ بأن نقلة الأبيض 130 تعني هزيمة الأستاذ الذي لا يقهر، وهذا ما تأكّد له حين همس أستاذه بخفوت متوتر: "المباراة انتهت. لقد أفسدها أوتاكيه بتلك اللعبة الختامية. كانت أشبه بإهراق الحبر على صورة جهدنا كثيرا لرسمها. شعرت عقب رؤيتي للعبة أن المباراة باطلة. كأننا نقول للعالم إنها القشة الأخيرة".

لم تكن مباراة إذن بقدر ما كانت عملا فنيا خلاقا حرص أستاذ الغو على إنجازه بإخلاص وجسارة، لولا أن أفسدها الخصم بحركة مخاتلة، وضيعة وغير عادلة.

تعقيد اللعبة وتركيب الرواية

يسلك ياسوناري كاواباتا مسلكا مغامرا في رواية "أستاذ الغو" – المفضلة لديه شخصيا من بين كل أعماله- إذ يحول وقائع مباراة تاريخية حدثت بالفعل سنة 1938 وثّقها بنفسه لصالح صحيفة "ماينيشي"، إلى عمل سردي، لكن ينزاح بها تخييل الرواية عن الخلفية الواقعية ويصوغ عالما حكائيا يوهم بفن السيرة. فالارتهان للسيرة والتوثيق الصحافي هنا يتحول ضمن اشتغال أدبي صرف تتحقق معه جمالية نص مختلف.

ينجح كاواباتا في رسم الأشياء بلغة بلورية كأنه ينجز بورتريهات بالغة الشفافية، فالتعقيد يظل قائما في ما يتعلق بفهم منطق اللعبة 

مغامرة كاواباتا في هذه الرواية ليست في اتكاء نصه الروائي على خلفية تاريخية وصحافية، بل في جسارته على تحويل وقائع ويوميات عادية لمباراة إلى عمل فني خلاق. عملٌ مركب يتماهى مع تركيب تعقيد لعبة الغو نفسها. فتداخل الزمن يوازيه اشتباك السرد بالشعر وامتزاج الوثيقة بالأدب وتواشج التحليل السيكولوجي بالمقال.

وإذ ينجح كاواباتا في رسم الأشياء بلغة بلورية كأنه ينجز بورتريهات بالغة الشفافية، فالتعقيد يظل قائما في ما يتعلق بفهم منطق اللعبة وقانونها وطرائق ممارستها. فهمٌ امتنع حتى على الصحافي أوراغامي نفسه الذي يسجل يوميات المباراة، وهو يقر بذلك في أكثر من مناسبة، وهنا الوجه الآخر لمجازفة الرواية، التي وسمها يوكيو ميشيما بأخطر أعمال كاواباتا، ربما لأن المادة الحكائية للعمل تبدو علنا باردة ومؤسسة على فكرة ليست في قيمة إغواء رواياته السالفة "ضجيج الجبل" على سبيل المثل، غير أن المضمر في العمل ينجح تماما في صنع الدفء الممتنع وراء المادة الباردة للحكاية ويبتكر من شخصية شوساي بطلا مأسويا يتمثل تاريخ مرحلة ما قبل 1945، ومباراة الغو 1938 تجسيد رمزي للتحول الياباني الصارخ، بانجراف ثقافته الأريستوقراطية أمام الزحف الدامغ للغرب الرأسمالي والتقني.

إنها لعبة سردية موسومة بالخطورة فعلا، يلعبها كاواباتا في روايته على مقاس لعبة الغو، إذ تتماهى بنية النص مع بنية اللعبة، ولا يكتفي فقط بإرفاق نماذج صور بيانية لها، بل يشتبكان ويختلقان شكلا جديدا للرواية يصعب استبيانه مباشرة، لأنه إيحائيّ، طيّ الغامض والمضمر.

font change

مقالات ذات صلة