منذ حصول البلدين على استقلالهما في أربعينات القرن الماضي، لم تكن العلاقات بين سوريا ولبنان علاقات ندية كأي دولتين مستقلتين، ولطالما شابت هذه العلاقات شوائب كثيرة وإن كان أبرزها وأهمها هو ما تم في ظل حكم الأسدين الأب والولد.
دخل الجيش السوري إبان حكم حافظ الأسد لسوريا إلى لبنان في عام 1976 ليغتال الشهيد كمال جنبلاط في عام 1977، وشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، وشارك بعدها في مرحلة ما بعد الحرب ومرحلة ما بعد حافظ الأسد، أي مرحلة استلام ابنه بشار الحكم في دمشق، وبقي في لبنان يعيث إجراما وفسادا كما كان يفعل في سوريا إلى أن اغتال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، فأخرج وجيشه ومخابراته من لبنان في أبريل/نيسان 2005.
جرت ضغوطات عربية ودولية على نظام الأسد بعد خروجه من لبنان، ليرضخ لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين ولكن العلاقات الدبلوماسية أخذت طابعا شكليا وبقيت علاقة الدولتين تشوبها الكثير من الشوائب، وبعدما كان نظام الأسد يعتبر لبنان ملحقا، صار البلدان ملحقين بالتبعية لإيران والتي صارت أكثر وضوحا بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وبداية التدخل العسكري الايراني في الحرب التي شنها بشار على السوريين من خلال ميليشيا "حزب الله" اللبناني.
اليوم تأتي زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى دمشق ولقاؤه والوفد المرافق بالإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، بعد زلزال سقوط نظام الأسد، وانهيار محور إيران في المنطقة، لتعيد فتح ملفات عالقة بين البلدين والشعبين منذ عشرات السنين.
ولكن في البداية يجب التذكير بأنه، ورغم الأهمية الشكلية لهذه الزيارة والتي قد تتمكن من وضع أسس لعلاقات طبيعية بين الدولتين، فإن الطرفين لا يملكان اليوم صلاحية دستورية وقانونية للبت في كثير من الملفات.
يجب التذكير بأنه، ورغم الأهمية الشكلية لهذه الزيارة والتي قد تتمكن من وضع أسس لعلاقات طبيعية بين الدولتين، فإن الطرفين لا يملكان اليوم صلاحية دستورية وقانونية للبت في كثير من الملفات
وفي سوريا لم يحصل السيد الشرع بعد على الشرعية الدستورية أو التمثيلية لعقد أي اتفاقات دولية، وفي لبنان فإن حكومة ميقاتي هي حكومة تصريف أعمال لا تملك أيضا صلاحيات إبرام اتفاقات، رغم أن الكثير من الملفات ليس بحاجة إلا لقرارات سياسية ليبدأ حلها، ولتكن كإشارة إيجابية من الطرفين على جدية النية بإقامة علاقات ندية.
وقبل أيام انتخب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية اللبنانية بعد فراغ استمر أكثر من عامين وأربعة أشهر، والمهلة التي أعطاها الشرع نفسه للحكومة المؤقتة في سوريا يتبقى عليها شهران قبل الشروع ببدء المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة تمثل جميع السوريين، وتبدأ بإعداد دستور للبلاد، وانتخابات لممثلي الشعب.
إن ترسيم الحدود بين البلدين بدءا من مزارع شبعا، مع كل ما ألحقه هذا الملف من ضرر على لبنان وسيادته، حيث كان الذريعة التي استخدمت لإبقاء سلاح "حزب الله" بعد التحرير عام 2000، سيكون من الملفات المؤجلة إلى أن يكون الطرفان قادرين دستوريا على إتمام الاتفاق، كذلك الأمر بالنسبة إلى الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وحل المجلس الأعلى اللبناني-السوري، فهذه تحتاج إلى برلمان للمصادقة عليها.
لكن من الملفات التي بُحثت ويجب أن تأخذ طريقها للتنفيذ ملف ضبط الحدود بين البلدين، هذه الحدود بمعابرها الشرعية وغير الشرعية التي كانت ممرا لدخول المقاتلين والإرهاب والمخدرات وحتى تهريب البضائع، والتي كان نظام الأسد و"حزب الله" يصران على بقائها غير مضبوطة، كيف لا وهما الشريكان في كل عمليات التهريب.
اليوم سيكون ضبطها لصالح البلدين وسيادتهما، وخصوصا بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بين لبنان وإسرائيل قبل أسابيع، فقد أصبح لبنان الرسمي ملزما بضبط حدوده، ولم تعد ذريعة أن الدولة أضعف من "حزب الله" تسري هنا.
من الملفات العالقة أيضا ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، والذي طالما تخلت السلطات اللبنانية عن البحث فيه مع نظام الأسد، بسبب طبيعة العلاقة بين البلدين، فقد آن الأوان لكشف ما حل بهم، بعد أن كادت تنعدم إمكانية وجود أحياء منهم بعد اليوم.
من الملفات التي بُحثت ويجب أن تأخذ طريقها للتنفيذ ملف ضبط الحدود بين البلدين، هذه الحدود بمعابرها الشرعية وغير الشرعية التي كانت ممرا لدخول المقاتلين والإرهاب والمخدرات وحتى تهريب البضائع
أما ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، ولا نتحدث عن المدانين جنائيا، بل عمن تم سجنهم ومحاكمة بعضهم بتهم كلها تدور في فلك دعم الثورة السورية، وتمت فبركة ملفات لهم في ظل سيطرة "حزب الله" وحليفه بشار على الكثير من القضاء وأجهزة الأمن اللبنانية، فهذا من الملفات التي تحتاج إلى معالجة فورية بعد أن قضى بعضهم أكثر من 13 عاما في السجن دون ارتكابه أي جرم في الأراضي اللبنانية.
ملف اللاجئين السوريين وتنظيم عودتهم إلى سوريا بما يحفظ كرامتهم بعد كل ما تعرضوا له على يد نظام الأسد ومن ثم حلفاء الأسد وحتى مناوئيه في لبنان.
كذلك ملف وثائق الاتصال وبلاغات الإخضاع بحق السوريين في لبنان يجب البحث في إلغائها فورا، بعد أن كانت قد صدرت بقرار من رؤساء أجهزة أمنية ينتمون لمحور الأسد-"حزب الله"، لملاحقة كل معارض لبشار الأسد أينما كان، والشيء بالشيء يذكر، فقد تم إيقاف أحد السوريين قبل أيام في مطار رفيق الحريري الدولي لساعات بسبب إحدى هذه "الوثائق" التي تقول إنه مرتبط عقائديا وتمويلا بـ"داعش" مع أن الموقوف مسيحي.
من المفترض أن يكون اللقاء قد وضع آلية تواصل وشكّل لجانا لحل الملفات التي يمكن حلها والتي لا تحتاج إلى انتظار تشكيل حكومات شرعية في البلدين. ولكن يبقى أهم ما في هذه الزيارة أنها أتت بعد انهيار محور إيران في المنطقة وخصوصا في لبنان وسوريا، ومع جدية سوريا على إقامة علاقات ندية بين البلدين. ويبقى التخوف من المتضررين من هذه الندية أو ممن اعتادوا على التبعية. مع إصرار على أن يصبح حلم سمير قصير بديمقراطية سوريا واستقلال لبنان واقعا.