أمام ترمب فرصة تاريخية في لبنان

نحو تعزيز جيش وطني قادر على الدفاع عن البلاد ضد جميع أشكال العدوان

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، يلوح بيده للحضورفي تجمع انتخابي في بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، 4 نوفمبر 2024.

أمام ترمب فرصة تاريخية في لبنان

ثمة لحظة تاريخية في انتظار الرئيس المنتخب دونالد ترمب الذي يستعد لبدء ولايته الثانية في وقت لاحق من هذا الشهر. ومعروف عن ترمب مبادراته الجريئة في السياسة الخارجية، ويبدو أن هذه اللحظة تتماشى تماما مع أجندته المعلنة: "أميركا أولاً".

وإليك تفسير ذلك: يمكن أن تتعهد إدارة ترمب بترقية قدرات الجيش اللبناني– الذي يُعتبر واحدا من أكثر الاستثمارات فعالية للمصالح العسكرية الأميركية في المنطقة– شريطة أن يتخلى "حزب الله" عن أسلحته لصالح الجيش، ليصبح الأخير القوة العسكرية الشرعية الوحيدة في لبنان.

أفهم تماما لو جاء أحد ما وقال لي إن هذا الاقتراح غير واقعي. فمن غير المرجح أن يوافق "حزب الله"، أو داعمه إيران، على نزع سلاحه ودمج قواته في الجيش اللبناني، وهذا أمر متوقع بطبيعة الحال. ولكن الغرض من هذا الاقتراح الأميركي هو تسليح الإصلاحيين اللبنانيين بحجة قوية للأمن والاستقرار، يمكنهم استخدامها في صراعهم السياسي ضد "حزب الله"، فيبرزون أن "حزب الله" هو العقبة الأساسية أمام مستقبل سياسي واعد للبنان وتعزيز جيش وطني قادر على الدفاع عن البلاد ضد جميع أشكال العدوان.

والحال أنه مع انتخاب جوزيف عون– القائد السابق للجيش اللبناني والمُلتزم ببناء الدولة– مؤخرا رئيسا للجمهورية، حان الوقت للتعامل مع التحديات الأوسع التي تواجه لبنان. ويكمن في صميم هذه التحديات تحديد المصير العسكري لـ"حزب الله". ولكن لكي تنجح هذه المبادرة، يتعين على إدارة ترمب تجاوز النهج التقليدي، وتستبدل به عرضا قويا وتحويليا يمكن أن يعزز بشكل كبير قدرات الجيش اللبناني، بهدف أن يتمكن الجيش من أداء مهامه الحالية في تأمين الحدود الجنوبية بكفاءة، وحماية لبنان بشكل موثوق من التهديدات الأجنبية والمحلية.

لقد لعبت الولايات المتحدة، على مدى العقدين الماضيين، دورا رئيسا في تحويل الجيش اللبناني إلى قوة قتالية أكثر كفاءة، حيث قدمت أكثر من 3 مليارات دولار من المعدات والتدريب والدعم الاستشاري. بيد أن حزمة المساعدات التي أفكر فيها هنا تمثل تحولا أكبر من كل الجهود السابقة، إذ ستعطي الأولوية لتطوير أنظمة الدفاع الجوي وتعزيز قدرات أمن الحدود– وهي مجالات لطالما تجاهلتها واشنطن بسبب الصراع المستمر بين لبنان وإسرائيل.

ومن خلال تجهيز الجيش اللبناني للقيام بمسؤولياته الوطنية في الدفاع بفعالية، سيحصل الإصلاحيون اللبنانيون على أداة قوية لمواجهة رواية "حزب الله" وتقويض نموذجه في المقاومة، الذي لم يجلب للبنان سوى الدمار.

لعبت الولايات المتحدة، على مدى العقدين الماضيين، دورا رئيسا في تحويل الجيش اللبناني إلى قوة قتالية أكثر كفاءة، حيث قدمت أكثر من 3 مليارات دولار من المعدات والتدريب والدعم الاستشاري

وفي الوقت نفسه، لن يكون من السهل على "حزب الله" أن يرفض هذا العرض الأميركي. ولا ننسَ أن "حزب الله" لم يعد اليوم، في واقع الحال، في موقع القيادة كما كان في السابق. وعلى الرغم من أنه لم ينتهِ بشكل كامل، فإنه بات مثخنا بجروح عميقة ويمر بمرحلة انتقالية حساسة، حتى وإن رفض الاعتراف بذلك. ولذلك، فإن هذا هو الوقت المثالي لممارسة المزيد من الضغط عليه.

لقد وجّهت إسرائيل ضربة قوية جدا لـ"حزب الله"، وهي ضربة لم يتلق مثلها "الحزب" طوال 43 عاما من الصراع مع الدولة اليهودية، وقطعت إسرائيل عمليا رأس "الحزب"، بما في ذلك زعيمه الأعلى وأيقونة "المقاومة" حسن نصرالله، ما ترك "حزب الله" أمام تساؤل وجودي كبير في صفوف الطائفة الشيعية: كيف يمكنه البقاء دون نصرالله؟

كما أن إسرائيل قضت على قدرات "حزب الله" العسكرية. وقد تبين أن تهديد "حزب الله" بإلحاق الدمار بالمدن والمواقع الاستراتيجية الإسرائيلية خلال المواجهة لم يكن سوى وعيد فارغ، فقد ظل "الحزب" يتلقى ضربات شبه يومية من قبل إسرائيل لأكثر من عام في الجنوب والبقاع، وفي مقره المحصن في الضاحية الجنوبية، وكل ما استطاعه هو الرد بوابل من الصواريخ والقذائف التي لم تفعل الكثير للتعويض عن الخسائر.

وعلى الرغم من أن "حزب الله" أجبر عشرات الآلاف من الإسرائيليين في الشمال على إخلاء منازلهم مؤقتا– ما شكل ضغطًا على الحكومة الإسرائيلية– فإن ذلك كان إنجازا بسيطا نسبيا إذا ما قيس بالمواجهة التي وُصفت بأنها وجودية. ولعلنا لا نبالغ إذ نقول إن الجيش الإسرائيلي قد نجح في تفكيك أسطورة "حزب الله" الذي لا يُقهر.

حتى عدة أشهر مضت، كان يعرف عن "حزب الله" أنه منظمة سرية ومتماسكة نادرا ما ينشق أعضاؤها أو يرتكبون أخطاء استخباراتية فادحة 

وأضافت إسرائيل لنفسها نصرا آخر حين اخترقت "حزب الله" بشكل لم يسبق له مثيل، وما كان هذا الأمر واردا من قبل. فحتى عدة أشهر مضت، كان يعرف عن "حزب الله" أنه منظمة سرية ومتماسكة نادرا ما ينشق أعضاؤها أو يرتكبون أخطاء استخباراتية فادحة أو يشي بعضهم ببعض. ولكن الأشهر القليلة الماضية كشفت عن تصدعات داخل التنظيم وقاعدته الداعمة، مما أتاح لإسرائيل فرصا ثمينة لتنفيذ عمليات تجسس.

ولا شك أن اللحظة المحورية في هذا السياق كانت تعطيل آلاف أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي الخاصة بأعضاء "حزب الله". ولئن كان ذلك الإنجاز يعود جزئيا إلى براعة إسرائيل، فإنه يشير أيضا إلى وجود نقاط ضعف داخلية، ولا ريب في أن ثمة خللا ما داخل المنظمة أو شبكتها المحيطة سمح لإسرائيل باستغلال هذه الثغرات.

ثم تأتي قدرة إسرائيل على تحديد مواقع حسن نصرالله وكبار الشخصيات العسكرية لتُظهر ثروة من المعلومات الاستخباراتية التي يُرجح أنها نتجت عن مزيج من المراقبة التكنولوجية المتقدمة والعمل الميداني لعناصر بشرية. وأقل ما يمكن وصف "حزب الله" به اليوم أنه يشعر الآن بالانكشاف، فشبكة اتصالاته، التي تُعد حيوية للتنسيق والفعالية القتالية، في حالة من الفوضى، وإعادة بنائها أمر مشكوك فيه. إنها باختصار نكسة كبيرة لتنظيم يعتمد بشكل أساسي على استمرارية الاتصالات لتحقيق النجاح العملياتي.

أ.ف.ب
الرئيس اللبناني المنتخب جوزيف عون يبتسم أثناء دخوله إلى اجتماع في القصر الرئاسي في بعبدا، شرق العاصمة بيروت، في 10 يناير 2025

وتوّج ذلك كلَّه انهيارُ نظام الأسد في سوريا، الذي كان يشكل شريان حياة رئيسا لـ"حزب الله". ولكن اليوم، مع وصول قوى معادية لـ"الحزب" إلى السلطة في دمشق، لم تعد سوريا ممرا موثوقا للأسلحة. وفي ظل غياب الإمدادات المنتظمة، يواجه "الحزب" احتمال تراجع قدراته القتالية، ما يثير تساؤلات جدية حول قدرته على الاستمرار في عملياته على المدى الطويل.

أخيرا، وعلى الرغم من صعوبة إثبات ذلك بشكل قاطع، يقال إن "حزب الله" فقد بشكل كبير مكانته على الساحة المحلية بسبب قراره الأحادي بشن حرب مدمرة أخرى ضد إسرائيل- على غرار حرب 2006- وما تبعها من هزيمة كبيرة. وبالفعل، بات الغضب اللبناني تجاه "حزب الله" واضحا لا لبس فيه، لدرجة أن بعض مناصريه التقليديين في الجنوب، الذين دُمرت منازلهم مرة أخرى، بدأوا في إعادة النظر في ولائهم الذي كان يومًا غير مشروط.

وباختصار، يعاني "حزب الله" من ضعف شديد، ولا يزال مسار تعافيه غير مؤكد، وهذا الوضع يتيح فرصة مثالية لإدارة ترمب لاستغلال الظرف الراهن وإعادة تشكيل الديناميكيات السياسية في لبنان من خلال تحويل الجيش اللبناني إلى شريك أمني أميركي أفضل تجهيزا وأكثر فعالية يمكنه المساهمة بشكل أكبر في المصالح الأمنية الجماعية.

وبالنسبة لفريق ترمب، لا يمكن أن تقتصر الحكاية في لبنان على وصول جوزيف عون إلى الرئاسة وقدرة الجيش اللبناني على تطبيق وقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً الذي اتفقت عليه إسرائيل و"حزب الله" في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، فالرهانات هنا أكبر بكثير، وثمة أمامنا فرصة لتحقيق الاستقرار في لبنان وإرساء سلام دائم مع إسرائيل. وإذا كان ثمة من يستطيع اغتنام هذه اللحظة، فهو ترمب.

font change

مقالات ذات صلة