في تاريخ هذا العالم، بدءا من الإنسان إلى الأوطان، استُخدمت الهوية طويلا كمبرر لجميع الأفكار والمشاعر والمعتقدات، كما استخدمت لتبرير القوة التي يراد ممارستها، حتى سلبت الهوية معناها، وأصبح من الممكن تحويرها، وتحويل المشاعر والمعتقدات إلى أفعال، تؤثر على الآخر بشكل كبير... فكيف شكلت الهوية بتفسيراتها المختلفة طفولة أغلب الناس في العالم، وكيف ترتبت عليها مسيرة حياتهم السابقة وشكلها، ولعل حياتهم المقبلة، مخزون الحنين والفرح والوجدانيات، وعلى امتداد حياة هؤلاء الناس، ليشهدوا حقائق متغيرة ومتناقضة، من موقف إلى آخر، وحسب تفسير الهوية، تم تحديد صورتهم، تاريخياً وجغرافياً، ومن حيث التقاليد والعادات واللغة والدين، من خلال التفاعلات بين هؤلاء الناس والجهات الأخرى.
ماذا يعني أن أقول: أنا شيء ما؟ ثم إخبار الآخر بما أنا عليه من شيء ما في سياق مُعين، أو القيام بذلك الشيء، لجعل الهوية وصفية، والأوصاف ليست ثابتة، فهل نضع الهوية في سياق الوصف السلوكي والهوية بطبيعة الحال متغيرة، فإذا كانت الهوية مجرد وصف، وكل شيء متغير للغاية، فما الذي يهم أن يحدث؟
قال سقراط يوما: "اعْرف نَفْسَك"، وكما يقول الشاعر شوقي بزيغ: "يبدو أن سقراط كان يدرك أن معرفة النفس جهل بحد ذاته"، فالإنسان في نزوح دائم، لذا نعود للهوية التي تقوم بتفعيل الأشياء حولنا، ولا تقوم بتعريفنا بطريقة وجودية ما.. يعكس بعض الناس وهم يتظاهرون أو يسيئون فهم الهويات وكيف تحددهم؟ فإذا قررت أن يصفك أحدهم بشكل جوهري، لتعرف من أنت؟ فعليك إضافة معانٍ أخرى فوق تلك التعريفات.
الهوية ليست شيئا ماديا لتبقى هكذا طوال حياة الإنسان، وليست ملكية شخص واحد، بل متغيرة ومتحركة، فلا وجود لذات حقيقية موجودة داخل الشخص نفسه
ونافلة القول: الهوية ليست شيئا ماديا لتبقى هكذا طوال حياة الإنسان، وليست ملكية شخص واحد، بل متغيرة ومتحركة، فلا وجود لذات حقيقية داخل الشخص نفسه، كما أن تفسير الذات يحتاج طبقات زمنية متحولة، فقد تكون الهوية شيئا في الصباح، وشيئا آخر في المساء، تنشأ من التفاعل، ويتم صنعها باستمرار، وخاضعة للسيطرة.
وفي سياق الأمثلة المجازية، يمكنني امتلاك شيء ما مثلا، ويمكنني قول إنه ملكي، وأخبر الآخر كيف أتعامل مع ملكيتي، ثم أضع القواعد الخاصة بملكيتي، خاصة أن هناك شعورا بالألفة مع هذه الملكية، لتبدو مع مرور الوقت هوية، لأنها تبدو تعريفية، وبالتالي شيء ما يحددني، وأصبح المسيطرة على ملكية الهوية التي رسمتها، ومع الشعور بالتقادم الزمني، أستطيع أن أسيطر بشكل أكبر، حتى تصبح ثابتة وملموسة في ذهني وذهن الآخرين.
ومن زاوية أخرى هناك مفهوم اللغة، التي هي من أساسيات تفاسير الهوية، بل وأولها، وباستخدام مصطلح الهوية اللغوية، يتغير من جيل إلى جيل، ويتحدث بلغة أخرى عن سابقيه من الآباء، في أغلب دول العالم، فالجيل الجديد شرقا وغربا، عربا وعجما، يركز على الإنجليزية، والهوية اللغوية تكون مصحوبة بتغييرات نفسية وثقافية، وإن استخدمنا علم النفس والأنثروبولوجيا الثقافية مع المبدأ الأنطولوجي، وكذلك المعنى المنطقي، وهناك التاريخ، لتحديد مفهوم الهوية.. فماذا من الممكن أن يظهر عندما يتم تحديد الهوية على الإنسان؟ نجدها هوية نوعية، وهوية أخرى عددية، وهذا ما قاله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس: "النهر يجري ويتدفق بشكل دائم" وهوية الإنسان تخضع للتغيير كالطبيعة المتغيرة، بين الهوية النوعية والهوية المتعددة.
وأخيرا، لأن الهوية وصفية وليست تعريفية، تجعلنا أحيانا نقع في الفخ، فخ الاعتقاد، وفخ استخدام الهوية في مناسبات معينة، واستخدام كل ما هو معطاء لمحاولة إثبات أنها تعريفية، بل واليوم هوية رقمية يلتزم بها الجميع، لكن تبقى الهوية الحقيقية هي الأصالة التي نتماهى معها لنتعرف على الوجود من خلال أنفسنا، وأفعالنا الخاصة، لا المسيطر عليها.