سمحت التحولات الأخيرة لتركيا بأن تُصبح فاعلا سياسيا أول في سوريا، إن عبر نفوذها وهيمنتها السياسية على السلطة المركزية الحاكمة "الشرعية" في العاصمة دمشق، أو تبعا لهيمنتها على الفصائل المسلحة المُسيطِرة على سوريا.
ويشكل ذلك تحديا سياسيا وأمنيا أمام أكراد سوريا الذين تعتبرهم تركيا- تحديدا قوتهم العسكرية الرئيسة "قوات سوريا الديمقراطية"- خطرا على أمنها القومي. وتسعى جاهدة لمنع ظهور أية تجربة سياسية/جغرافية/سيادية كردية الطابع، وإن ضمن السيادة الكلية لسوريا، شبيهة بإقليم كردستان في العراق، كما تعبر السياسة الخارجية التركية عن ذلك صراحة.
مقابل ذلك، تطمئن "قوات سوريا الديمقراطية" ذات النواة "الكردية"، و"وحدات حماية الشعب" (YPG)، والقوى السياسية الكردية المقربة منها، إلى ثلاثة عوامل فاعلة، مرتبطة بالملف السوري، يُمكن أن تخلق مظلة حماية سياسية/أمنية، تؤمن استمراراها في المعادلة السورية.
فالقوى الغربية، تحديدا الولايات المتحدة، تعتبر مكافحة الإرهاب ومنع عودة تنظيم "داعش" الإرهابي مجددا على رأس أولوياتها الراهنة والمستقبلية في سوريا؛ ولأجل ذلك ترى ضرورة في استمرار "قوات سوريا الديمقراطية" وتعزيز دورها، وتجد نفسها مُجبرة على البقاء العسكري في سوريا، حسبما صرح ساسة وأعضاء في الفريق الرئاسي للرئيس المُنتخب دونالد ترمب، وعملية إعادة الانتشار التي نفذتها القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا، وصارت تشمل كل المناطق التي انسحبت منها سابقا عام 2020، تؤشر إلى ذلك بوضوح.
وعلى المنوال نفسه، تسعى القوى السياسية الكردية، نحو إيجاد مساحة سياسية مشتركة مع السلطة الجديدة في دمشق، بغية التوصل إلى توافقات سياسية بأسرع وقت، تُبعد أية إمكانية لصدام عسكري مفتوح مع الميليشيات المحسوبة والمُدارة من قِبل تركيا "الجيش الوطني"، وأن تشكل تلك التوافقات غطاء سياسيا وأمنيا لمستقبل الأكراد في سوريا.
وقد وصلت إشارات أولية بشأن ذلك، لكن السؤال الصعب يتعلق بمدى قُدرة السلطة الجديدة على التصرف سياسيا وأمنيا دون إملاءات تركية، هذا في حال توفر غطاء عربي أو دولي أو أممي "بديل" لها عن الغطاء التركي، أو في حال حاجتها إلى حلفاء سوريين محليين، في كل المناطق، إذا ما دخلت سوريا مرحلة نظام الحُكم الديمقراطي/الانتخابي.
تطالب تركيا بأن يتم الفصل تماما بين "قوات سوريا الديمقراطية" و"حزب العمال الكردستاني"، وأن لا تكون المطالب السياسية الكردية ذات طابع جغرافي/سيادي، ولا تتجاوز حدود الحقوق الطبيعية، كالمواطنة المتساوية وبعض الحقوق الثقافية
إلى جانب الأمرين، يتطلع أكراد سوريا، بما فيهم "قوات سوريا الديمقراطية"، إلى "عملية السلام" بين الدولة التركية و"حزب العمال الكردستاني" في الداخل التركي، والتي يبدو وكأنها تسير بخطى ثابتة، لأن تغدو رافعة للتواصل والتوافق بينهم وبين تركيا، وأن لا تتعامل هذه الأخيرة معهم على أساس المعادلة الصفرية.
تبدو الأمور وكأنها في سباق مع الزمن، فتركيا تعرف راهنا أنها لا تستطيع أن تشن هجوما بريا واضحا على شرق نهر الفرات، فالولايات المتحدة لن تمنح غطاء سياسيا أو أمنيا لذلك، لأجل ذلك تضغط عبر وكلائها السوريين، وتعرض على الولايات المتحدة مجموعة من المطالب السياسية والأمنية، على القوى الكردية أن تنفذها على أرض الواقع، لتتشكل ضمانة لمخاوفها من تطور الحالة الكردية في سوريا، وإمكانية أخذها لطابع شرعي/دستوري.
تطالب تركيا بأن يتم الفصل تماما بين "قوات سوريا الديمقراطية" و"حزب العمال الكردستاني"، على أن ينسحب عناصر هذا الأخير من سوريا، مع فك كل أشكال الارتباط السياسي والأيديولوجي والتنظيمي بين الطرفين. وأن لا تكون المطالب السياسية الكردية ذات طابع جغرافي/سيادي، ولا تتجاوز حدود الحقوق الطبيعية، كالمواطنة المتساوية وبعض الحقوق الثقافية.
لا ترفض "قوات سوريا الديمقراطية" مثل تلك المتطلبات، وتعلن عن استعدادها لإغلاق كل ما تعتبره تركيا مسّاً بأمنها القومي، شريطة أن تتعهد تركيا بحماية الأكراد السوريين سياسيا في سوريا المستقبل، وأن لا تشن أو تحرض فصائل سورية مسلحة أخرى على الهجوم العسكري على مناطقها.