رئيس للجمهورية... صَنَعَه الخارج لإنقاذ لبنان؟

البحث عن الخروج من المأساة

رويترز
رويترز
جوزف عون في القصر الرئاسي، بعد انتخابه رئيساً للبلاد، 9 يناير 2025

رئيس للجمهورية... صَنَعَه الخارج لإنقاذ لبنان؟

بعد أكثر من 4 سنوات من الضياع وتصدع مؤسسات الحكم والدولة وفراغها في لبنان، تمكن الإيحاء العربي والدولي من حمل معظم الكتل النيابية المتنابذة في البرلمان اللبناني على انتخاب قائد الجيش جوزف عون رئيسا جديدا للجمهورية. فبعد جلسة أولى صباحية لم ينل فيها جوزف عون الأصوات النيابية المطلوبة دستوريا لفوزه (86 صوتا)، نال 99 صوتا في الجلسة الثانية التي عقدت بعد ظهر النهار نفسه.

وهكذا صار جوزف عون الرئيس الـ14 للجمهورية اللبنانية، وخامس قائد جيش يصل إلى سدة الرئاسة، وقائد الجيش الرابع الذي يصبح رئيسا، على التوالي. وذلك بعد إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. وكل واحد من هؤلاء غادر القصر الجمهوري خلال أزمات سياسية وأمنية وخلف فراغا رئاسيا. وآخرها ما تركه ميشال عون من إفلاس مالي وانهيار اقتصادي وفراغ رئاسي استمر أكثر من سنتين.

باسيل و"الثنائي الشيعي"

لم ينتخب الرئيس الجديد أمس في الجلسة الأولى، بسبب امتناع 3 كتل نيابية عن التصويت له: كتلتا نواب "الثنائي الشيعي-حركة أمل وحزب الله"، وكتلة نواب "التيار الوطني الحر" التي أسسها رئيس الجمهورية الأسبق ميشال عون، ويرأسها صهره النائب جبران باسيل. وفي امتناعه هذا وتصويته بأوراق بيضاء في الجلسة الأولى- قبل تخليه عن ذلك في الجلسة الثانية- أراد "الثنائي الشيعي" أن يظهر للقوى الدولية والعربية دوره الراجح في إنجاح الاستحقاق الرئاسي وانتخاب قائد الجيش رئيسا. أما تكتل جبران باسيل النيابي، فأصر نوابه في الجلستين على عدم انتخاب جوزف عون، وكتبوا "السيادة الدستور" على الأوراق التي وضعوها في صندوق الاقتراع، فاعتبرت ملغاة.

وبهذا حفظ "الثنائي الشيعي" لنفسه بدور ما في "إعادة تكوين السلطة" اللبنانبة وتوزيع مناصبها ومغانمها، بعد انتخاب الرئيس الجديد. هذا فيما أصر باسيل وتكتله النيابي على الخروج من هذه العملية أو البقاء على هامشها. وذلك لأن صهر الجنرال ميشال عون رئيس الجمهورية الأسبق، يعلم أن الرئيس الجديد المنتخب الآتي من قيادة الجيش، سوف تلتف حوله في الوسط المسيحي عائلات العسكريين وسواها من جمهور "التيار الوطني الحر" الذي والى العماد ميشال عون وصهره ووريثه جبران باسيل الذي فضل البقاء في صف معارضة العهد الرئاسي الجديد.

وهناك سابقة قديمة في لبنان للحال "العونية-الباسيلية" هذه: فبعد انتهاء عهد كميل شمعون الرئاسي في عام 1958، استبعدَ قائد الجيش فؤاد شهاب، المنتخب رئيسا جديدا للجمهورية، "الشمعونية السياسية" من تركيب السلطة الشهابية الجديدة آنذاك، وهمشها تهميشا كاملا. ومن ثم اتخذ شهاب من "حزب الكتائب اللبنانية" قاعدة لحكمه في الوسط المسيحي.

هذا المسرح الأهلي البلدي، احتفالًا بالفوز بالمنصب الرئاسي، لم يكن غائبًا - وإن بشكل آخر مختلف في معناه ودلالته - عن قاعة انتخاب الرئيس الجديد في المجلس النيابي أمس

مشاهد مسرح بلدي

وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن من يصل إلى منصب الحكم والسلطة في لبنان، غالبا ما يمكنه وصوله إليها من بناء قطب شعبي يواليه في جماعته الأهلية والطائفية التي تنفك عن موالاة سياسي آخر خرج من المنصب وانتهى عهده في الحكم. فالجنرال ميشال عون، شأن صهره جبران باسيل، لم يكن لأي منهما جمهور سياسي ولا كتلة نيابة في البرلمان، قبل وصولهما إلى مناصب الحكم والسلطة.

وفيما كانت المحطات التلفزيونية تنقل أمس وقائع فوز قائد الجيش جوزف عون بمنصب رئاسة الجمهورية في البرلمان ببيروت، راحت تنقل في الوقت نفسه مشاهد من الاحتفال الشعبي البلدي بفوزه في قريته الجنوبية العيشية التي خرج أهلها إلى ساحتها محتفلين: ذبحوا في الساحة خرافا، وفتحوا زجاجات شمبانيا، ورقصوا ودبكوا على أنغام الطبول.

عاش اللبنانيون أخيرا حربًا دموية مدمرة، ما أن توقفت حتى باشروا حياتهم العادية، كأنما تلك الحرب لم تقع

واحتفالا بالفوز بالمنصب الرئاسي، لم يكن هذا المسرح الأهلي البلدي غائبا- وإن بشكل آخر مختلف في معناه ودلالته- عن قاعة انتخاب الرئيس الجديد في المجلس النيابي أمس. والأرجح أن هذه الأشكال المسرحية على اختلافها، هي ما تبقى من "الديمقراطية اللبنانية".

فالجلسة الأولى لانتخاب الرئيس الجديد في قاعة المجلس النيابي أمس، سادتها في بدايتها مشاهد من ذاك المسرح. اتخذ مشهدٌ منها طابع عنف لفظي: فيما كانت النائبة بولا يعقوبيان ترد على كلام النائب جبران باسيل- تحدث قبلها عن أن طريقة انتخاب جوزف عون تنتهك الدستور- قائلة إن تياره عندما كان ميشال عون رئيسا للجمهورية، إنما كان عهده كله حافلا بانتهاكات متواصلة للدستور، فانبرى لها فجأة النائب الباسيلي سليم عون ورد عليها بكلام ذكوري فاحش. أما يعقوبيان فردت عليه ردا "أنثويا" أو "نسويا" لا يقل توترا عن توتره الذكوري.

السياسة مرض؟

سبقت هذه المشاهد البلدية، التي لابست جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقائع تماثلها، لكنها أوسع وأعمق منها دلالة على اعتلال الحياة السياسية اللبنانية، بل خرابها المديد. لكن هذا الخراب لا يشمل لبنان فحسب، بل يتجاوزه إلى بلدان مشرقية عدة، تقتصر السياسة فيها على العصبيات والولاءات لزعماء ملهمين. وإلهامهم لا يعصمهم من أن يكونوا ملحقين بقوى ودول إقليمية أو تابعين لها، مع جماعاتهم وأحزابهم وميليشياتهم. وهذه الأخيرة وظيفتها خوض حروب داخلية، والتورط في أخرى إقليمية. والحروب هذه مدمرة للمجتمعات وعمرانها وللسياسة فيها.

وسبق لبنان سواه من البلدان المشرقية في خراب حياته السياسية وتحويلها حروبا أهلية داخلية وإقليمية. حدث ذلك منذ عام 1975. واستمر متقطعا منذ تصاعد قوة "حزب الله"، وحتى نحو شهرين سبقا انتخاب رئيس الجمهورية أمس.

رويترز
لبنانيون يحتفلون بعد انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزيف عون رئيسا للبنان

واللبنانيون- سواء كانوا موالين للعصبيات الحربية أم خارجين عليها- لا يتوقفون في معظمهم عن الكلام في شؤون السياسة وشجونها في حياتهم ولقاءاتهم اليومية. حتى ليبدو أن انهمامهم وانهماكهم بالحديث فيها وجعله شغلهم اليومي الشاغل، أقرب إلى مرض عضال هو من آثار خراب السياسة وخراب حياتهم وبلادهم.

وهم ربما يملأون بالكلام السياسي فراغا ما يحيق بحياتهم وعلاقاتهم العامة والخاصة. أو يعوضون بهذا الكلام عن إدراكهم أنهم عاجزون عن الفعل والتأثير في مصير بلدهم، المعطلة مؤسساته السياسية الدستورية، وعاش بلا رئيس جمهورية وبحكومة منتهية الصلاحية وبمجلس نيابي مشلول، أقله منذ أكثر من سنتين. وهم عاشوا أخيرا حربا دموية مدمرة، ما إن توقفت حتى باشروا حياتهم العادية، كأنما تلك الحرب لم تقع.

سوق الزجل اللبناني

وقبل نحو أسبوعين ارتفعت وتيرة كلامهم الاحتفالي عن انتخاب رئيس جديد لجمهوريتهم. كثيرون منهم اعتبروا أن انتخابه يشكل معجزة خلاصية تضعهم على جادة الصواب وانتهي في يوم واحد ما خربوه وخربه الدهر في بلادهم.

وقد يضاهي انتخاب الرئيس، وربما يتفوق عليه، انشغال اللبنانيين الكلامي بالشأن السوري، فرحا وسرورا، كمدا وغما، حسب كل جماعة، بعد سقوط نظام الأسد وتولي أحمد الشرع قيادة الإدارة العامة الجديدة في سوريا. وغالبا ما يتداخل ويختلط الكلام في أحوال سوريا ولبنان بمستجدات وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل التي لا تزال تخرقه في الجنوب، فيما مسيرات استطلاعها تحلق يوميا في سماء بيروت.

وفيما كان اللبنانيون يتداولون أسماء الشخصيات المطروحة للرئاسة، شعرت قلة قليلة منهم بالضجر والسأم، ما دام الخوض في شؤون السياسة كلها يظل طي الغموض والمجهول ومن "أسرار الآلهة" الإقليمية والدولية. هذا فيما جعل أهل الإعلام والصحافة ما يسمى الاستحقاق الرئاسي الدستوري، لغوا خالصا ينسبون ما يوردون عنه من "معلومات" إلى مصادر أكثر غموضا من تلك الأسرار.

آخر سوق زجلي أقامه زعماء الجماعات اللبنانية، هو السوق الذي اختتم أمس لانتخاب رئيس جديد لجمهوريتهم الخاوية والممزقة والمفلسة، أقله منذ 5 سنوات. والسوق تتجدد قريبًا مواسمه عندما يزف موعد تكليف شخصية ما تأليف حكومة جديدة

أما زعماء الجماعات اللبنانية- وهم من يقال إنهم أهل الحل والربط، لكنهم في الحقيقة والواقع القيمون على تقطيع الأوصال بين تلك الجماعات وبعث تنابذها، و"شد عصب" كل منها وعصبيتها والإمعان في تحللها من داخلها- فيكررون في كل مناسبة، وكلما استجد حدث أو استحقاق سياسي، رياضتهم الشائعة والمفضلة: المهاترات الكلامية المتبادلة في ما بينهم. وهي مدار عملهم ومتعتهم، وورثوها عن أجدادهم الأقدمين. وتسمى في لبنان فن الزجل الذي يوازيه ويشبهه في التراث العربي الجاهلي سوق عكاظ.

وهذه سوق كانت تعرض فيها البضائع وتلقى القصائد. وسمي عكاظ لإجماع عرب الجاهلية على أن يعكظ فيه بعضهم بعضا بالمفاخرة والتناشد والهجاء. وحين كان يقال إن فلانا يعكظ خصمه، كان يعني أنه يمعكه ويعركه ويجادله ويقهره. ويعد الدلك والتمنع من أعراض عكاظ ووقائعه.

وآخر سوق زجلية أقامها زعماء الجماعات اللبنانية، هي السوق التي اختتمت أمس بانتخاب رئيس جديد لجمهوريتهم الخاوية والممزقة والمفلسة، أقله منذ 5 سنوات. والسوق تتجدد قريبا مواسمها عندما يزف موعد تكليف شخصية ما بتأليف حكومة جديدة.

وطوال أكثر من سنتين بعد مغادرة ميشال عون قصر بعبدا الرئاسي، ظل القصر الجمهوري فارغا خاويا. وقد أيس ويئس العالم من أن يملأ فراغه وخواءه برئيس آخر، ما دام "حزب الله" لا يريد سوى رجل يختاره أو يعينه هو وحده رئيسا من دون سواه. وهذا ما لم يتنازل عنه "الحزب" المذكور إلا بفعل القوة الحربية الإسرائيلية الدموية والمدمرة!

هل يخرج لبنان من مأساته؟

لكن تلك الحرب التي كان "حزب الله" قد استدرج إسرائيل إليها قبل أكثر من سنة- وكان الشهران الأخيران منها الأقسى والأشرس على لبنان- لم تحظ بعد توقفها بغير طي سائر اللبنانيين صفحتها وبقائهم صامتين عن ويلاتها ومآسيها، كأنها لم تحدث في بلادهم، أو لم تكن سوى كارثة طبيعية حلت بهم.

وقد يكون أعجب وأقسى ما انجلت عنه هذه الحرب هو اكتفاء المتضررين ومن دمرت حياتهم فيها، بالمطالبة بتعويضات مالية، حسابا وحيدا عن التدمير الدوري لحياتهم ومنازلهم ومصائرهم وقتل أهلهم.

أ.ف.ب
لوحة إعلانية تحمل صورة للرئيس المنتخب جوزيف عون

وقبل أيام من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقف مسؤول وحدة الارتباط في "حزب الله" الحاج وفيق صفا في موقع اغتيال إسرائيل حسن نصرالله في ضاحية بيروت الجنوبية، وقال: "ليس لدينا فيتو على قائد الجيش. الفيتو الوحيد على (قائد القوات اللبنانية) سمير جعجع، لأنه مشروع فتنة وتدميري للبلد". ثم تابع كلامه مهددا كعادته: "لا تجربونا. نحن على بعد أمتار من المطار".

وجاء الرد على صفا من النائبة في البرلمان السيدة ستريدا جعجع، فقالت: "أين الفتنة لدى سمير جعجع؟ هل باستقبالـ(نا أهل) بيئتكم الحاضنة في عقر دار "القوات اللبنانية" ومعاقلها من بشري ودير الأحمر إلى سائر مناطق جبل لبنان، أم بسيطرتكم على البلد وتهشيل الاستثمارات وضرب علاقة لبنان بمحيطه العربي، وبحروبكم العبثية، وباغتيال رفيق الحريري وسائر شهداء ثورة الأرز؟".

عاش اللبنانيون أخيرا حربا دموية مدمرة، ما إن توقفت حتى باشروا حياتهم العادية، كأنما تلك الحرب لم تقع

أما رئيس المجلس النيابي ورئيس "حركة أمل" نبيه بري، فرد على سؤال عن الضغوط الإقليمية والدولية التي تمارس عليه في مسألة انتخاب الرئيس، بالقول لزائريه إنهم "سيعرفون من أنا". وربما كان عليه أن يقول ما كتب على لافتات تحمل صورته: "ويلكم إذا نفد صبره".

يعلم اللبنانيون وزعماء جماعاتهم أن بلدهم، منذ نشأته دولة معاصرة، إنما نشأ جمهورية جماعات متنازعة تستلهم مواقفها ومنازعاتها الداخلية من الخارج الدولي والإقليمي. وذلك حسب ظروف وتشابكات معقدة. وغالبا ما يستأنس اللبنانيون بحريتهم في الكلام السياسي وغير السياسي، قدر ما يشاءون ويرغبون، فيتزاجلون ويختصمون ويحتربون على إيقاعات تلك التشابكات المعقدة. وهذا ما صار رياضة متأرثة يمارسونها كأنها هي السياسة.

لكن الحق يقال إن القوى العربية والدولية التي مكنت الكتل النيابة اللبنانية من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ليست أرأف بلبنان وأهله من جماعة عصبية السلاح والتهديد بالسلاح فحسب. بل إن تلك القوى أرأف من مسلحي تلك العصبية بأهلها. وتلك القوى نفسها هي المعول عليها في احتمال إخراج لبنان من مأساته المزمنة. وهذا ما أشارت إليه كلمة الرئيس الجديد عقب انتخابه.    

font change

مقالات ذات صلة