في العام الذي ورث فيه الرئيس السوري الأسبق بشار الأسد نظام الحكم عن والده، لم تحقق معدلات الهطول المطرية السنوية في محافظات الشمال والشرق الأربع- حلب والرقة ودير الزور والحسكة- حتى نصف متوسط معدل الهطول العام، ما أطاح بثلاثة مواسم زراعية في تلك المنطقة التي كانت تنعت بـ"سلة الغذاء السوري".
الريف المقتلع
لم يطل الأمر بالحاكم الجديد كثيرا قبل أن يصدر حزمة من المراسيم الاقتصادية المعززة للقطاعات الاقتصادية الخدمية، وكانت كلها على حساب القطاع الزراعي ومهددة لاستقراره ودوره الريادي في "الإنتاج الوطني"، وعلى رأسها القرارات الحكومية القاضية برفع أسعار المحروقات التي تدخل في إنتاج 48 منتجا زراعيا، من دون رسم سياسات موازية تعطي هذه المنتجات الزراعية أية قيمة مضافة، كأن يدخلها في سياق التصدير أو الصناعات الغذائية.
بعد أقل من خمس سنوات، كان الريف السوري، الشمالي منه تحديدا، الأكثر كثافة وفقرا، يشهد أوسع موجهة هجرة في تاريخه، كانت لحدتها وسرعتها وجذريتها تشبه حملات "الاقتلاع العسكري" التي تمارسها الجيوش بحق "المجتمعات العدوة". فخلال مدة قصيرة لم تتجاوز خمس سنوات، تحولت آلاف القرى في المنطقة الشمالية والشرقية إلى مجرد أطلال من البيوت الطينية المهجورة، وصارت علامات الجفاف والتصحر واضحة على كامل الطرق الممتدة بين العاصمة دمشق ومدينة القامشلي، الممتدة لأكثر من 750 كيلومترا، وتخترق أربع محافظات سورية، هي الأكبر مساحة والأكثر ريفية في البلاد.
كان "اقتلاع الريف" التحول الاجتماعي/السياسي الأكثر تأثيرا وفاعلية في الفضاء السوري خلال القرن الجديد. لأنه، ولأول مرة، أنتج مجتمعات سورية متداخلة في المدن السورية الكبرى الرئيسة الخمس (دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية)، وخلق حركية نشطة ودؤوبة بين مختلف المناطق السورية، وراكم أنواعا من المعاناة والشعور بالهوان وعدم الأمان بين هؤلاء المقتلعين، تحديدا ضمن فضاء عشوائيات تلك المدن، وصعدت معها طبقات جديدة حانقة ورافضة لأوضاعها العامة بوضوح، وإن لم تكن منظمة سياسيا.
حجبت تلك "الهجرة الريفية الجماعية" عن النظام الحاكم القدرة على ضبط وإرضاء و"تعليب" ملايين الريفيين السوريين "السابقين"، الذين كانوا يشكلون أكثر من 70 في المئة من مجموع السكان. فأدواته السابقة لم تعد فاعلة قط، والأيديولوجيا والتنظيمات المحلية المهنية والاقتصاد الريعي والاستراتيجيات الحمائية التي كانت للخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة والمواصلات، كما كان يحدد ويشرح ويفسر الباحث الهولندي ريموند هينبوش، أدوات وقدرة حزب "البعث"/نظام الأسد على ضبط نظام الحكم في البلاد، تحديدا في الأرياف، عضد ذلك النظام.