"الريف السوري المقتلع"... الذي اقتلع النظام

 ما تشهده سوريا هو الموجة الثالثة من "الطوفان الريفي"

أ.ب
أ.ب
أولاد يركبون على ظهر شاحنة في حمص، سوريا، الجمعة 3 يناير

"الريف السوري المقتلع"... الذي اقتلع النظام

في العام الذي ورث فيه الرئيس السوري الأسبق بشار الأسد نظام الحكم عن والده، لم تحقق معدلات الهطول المطرية السنوية في محافظات الشمال والشرق الأربع- حلب والرقة ودير الزور والحسكة- حتى نصف متوسط معدل الهطول العام، ما أطاح بثلاثة مواسم زراعية في تلك المنطقة التي كانت تنعت بـ"سلة الغذاء السوري".

الريف المقتلع

لم يطل الأمر بالحاكم الجديد كثيرا قبل أن يصدر حزمة من المراسيم الاقتصادية المعززة للقطاعات الاقتصادية الخدمية، وكانت كلها على حساب القطاع الزراعي ومهددة لاستقراره ودوره الريادي في "الإنتاج الوطني"، وعلى رأسها القرارات الحكومية القاضية برفع أسعار المحروقات التي تدخل في إنتاج 48 منتجا زراعيا، من دون رسم سياسات موازية تعطي هذه المنتجات الزراعية أية قيمة مضافة، كأن يدخلها في سياق التصدير أو الصناعات الغذائية.

بعد أقل من خمس سنوات، كان الريف السوري، الشمالي منه تحديدا، الأكثر كثافة وفقرا، يشهد أوسع موجهة هجرة في تاريخه، كانت لحدتها وسرعتها وجذريتها تشبه حملات "الاقتلاع العسكري" التي تمارسها الجيوش بحق "المجتمعات العدوة". فخلال مدة قصيرة لم تتجاوز خمس سنوات، تحولت آلاف القرى في المنطقة الشمالية والشرقية إلى مجرد أطلال من البيوت الطينية المهجورة، وصارت علامات الجفاف والتصحر واضحة على كامل الطرق الممتدة بين العاصمة دمشق ومدينة القامشلي، الممتدة لأكثر من 750 كيلومترا، وتخترق أربع محافظات سورية، هي الأكبر مساحة والأكثر ريفية في البلاد.

كان "اقتلاع الريف" التحول الاجتماعي/السياسي الأكثر تأثيرا وفاعلية في الفضاء السوري خلال القرن الجديد. لأنه، ولأول مرة، أنتج مجتمعات سورية متداخلة في المدن السورية الكبرى الرئيسة الخمس (دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية)، وخلق حركية نشطة ودؤوبة بين مختلف المناطق السورية، وراكم أنواعا من المعاناة والشعور بالهوان وعدم الأمان بين هؤلاء المقتلعين، تحديدا ضمن فضاء عشوائيات تلك المدن، وصعدت معها طبقات جديدة حانقة ورافضة لأوضاعها العامة بوضوح، وإن لم تكن منظمة سياسيا.

حجبت تلك "الهجرة الريفية الجماعية" عن النظام الحاكم القدرة على ضبط وإرضاء و"تعليب" ملايين الريفيين السوريين "السابقين"، الذين كانوا يشكلون أكثر من 70 في المئة من مجموع السكان. فأدواته السابقة لم تعد فاعلة قط، والأيديولوجيا والتنظيمات المحلية المهنية والاقتصاد الريعي والاستراتيجيات الحمائية التي كانت للخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة والمواصلات، كما كان يحدد ويشرح ويفسر الباحث الهولندي ريموند هينبوش، أدوات وقدرة حزب "البعث"/نظام الأسد على ضبط نظام الحكم في البلاد، تحديدا في الأرياف، عضد ذلك النظام.

الشخصيات والطبقات التي تصدرت "المشهد السوري المقاوم" طوال سنوات الانتداب الفرنسي، مثل إبراهيم هنانو وصالح العلي وعياش الحاج جاسم وسلطان الأطرش، كانت ذات خلفية ريفية خالصة

طوال السنوات والمجريات التي تقادمت وتراكمت منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع عام 2011، بقي "شعب الريف المقتلع" ذاك الأكثر حيوية وعنادا وقابلية للاستمرار في مناهضة النظام السوري، وحده الذي لم يتراجع عما سلكه من درب وخيارات. لأنه بمعنى ما، كان الجماعة السورية الوحيدة التي ليس لها من مجال وخيار في حياة أخرى، لأن العودة بالنسبة له كانت تعني "الجحيم".

لم تكن تلك المعادلة صحيحة في دفة المعارضين فحسب، حيث الملايين الذين فقدوا كل معنى وأية إمكانية لبناء "حياة صحية" من جديد، بعد سياسات إعادة الهيكلة لصالح الاقتصاد الخدمي الذي يطابق مصالح "القطط السمان" و"الأقوياء السلطويين" فحسب، وعلى حساب القطاع الزراعي. بل كانت حقيقة وواضحة في دفة موالي النظام أيضا، فأكثر عناصر وضحايا حروبه، كانوا أيضا من "المقتلعين الريفيين"، وإن كانوا من مؤيديه سياسيا، وضحايا سياساته الاقتصادية والأمنية، التي حطمت استقرار حياتهم الريفية السابقة.

الريف الثوري

 ما تشهده سوريا راهنا هو الموجة الثالثة من "الطوفان السياسي الريفي". إذ شهدت البلاد خلال تاريخها السياسي المعاصر "موجتين سياسيتين ريفيتين" سابقتين، كانت كل واحدة منهما "النواة" الصلبة والفاعلة التي غيرت بمعنى ما "سياق التاريخ" في سوريا، وصنعت وقائع جديدة، لم يستطع "المدينيون السوريون" هضم أي منهما والاندماج معها، أو حتى تفكيك بناها، إلا بعد سنوات طويلة.  

أ.ف.ب
طفل سوري يلوح بعلم سوريا الجديد خلال الاحتفالات بالإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد في حمص في 20 ديسمبر 2024

فالحدث واللحظة السياسية التأسيسية لسوريا المعاصرة، المتمثلان في "الثورة العربية الكبرى"، كانا انتصارا لـ"الريف" وفيضانا منه على نظيره "المدينة". فالدراسات التأريخية الأكثر اتزانا لتلك المرحلة، أثبتت أن ما حدث في مدينة دمشق حين سقوط الدولة العثمانية فيها وانتصار ما سمي فيما بعد "المملكة السورية"، في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2018، إنما كان "حربا أهلية محلية"، بين الثوار الريفيين القادمين للمدينة، بقيادة شخصيات عشائرية ومناطقية بعيدة عن دمشق، مثل نوري الشعلان وعودة أبو تايه وسلطان الأطرش والشريف ناصر بن علي، من قادة الثورة العربية الكبرى، حيث كان الدمشقيون مؤسسين تاريخيا على بنية نفسية وذاكرة جمعية شديدة الارتياب من أعضاء هذه الطبقة، وبين موالي الدولة العثمانية المدينيين فيها، من أعيان وتجار وحرفيين وقادة دينيين. انهزم هؤلاء الأخيرون ورضخوا للشروط الرمزية والسياسية للمنتصرين الجدد، ولو لوقت، لكن ما حدث كان طوفانا ريفيا كسر جمود المدينة وسكينتها التاريخية في العباءة العثمانية، واستقرارها على نوع من الوعي يرى في المدينة/مدينته وكأنها "كل العالم".

الأمر ذاته حدث في باقي مدن سوريا التاريخية الثلاث الأخرى، حلب وحمص وحماة، التي هزمت بمعنى ما وفقدت أدوات سلطتها وطاقتها ودورها العام في مواجهة ريفها القادم بعنفوان، عبر الدولة/التشكيل السياسي الجديد.

خلال مرحلة الانتداب الفرنسي "1920-1946"، تمكنت النخب/الأعيان المدينيون من استعادة نوع من الحضور والنفوذ الذي فقدوه، لأنهم أولا باتوا يملكون ويستخدمون أدوات سياسية كسبوها بسرعة عن "المحتلين الفرنسيين"، ما كانت متاحة سابقا، مثل الصحافة والأحزاب المنظمة وحق التظاهر والجمعيات الأهلية والنقابات وشرعية الدولة وامتلاك أدواتها وأجهزتها والعلاقات الدولية، وهي أدوات ما كان للريفيين امتلاكها أو استخدامها وتجييرها لصالحهم. ثانيا لأنهم استفادوا من قوانين خاصة أصدرها الانتداب الفرنسي وقتئذ، تحديدا "قانون الملكية المتمم لقانون إنشاء السجل العقاري رقم 3339)، الذي صدر في أواخر عام 1930، ومنح ملكية آلاف القرى وملايين الهكتارات الزراعية السورية لعدد محدود من العائلات المدينية المقربة من أجهزة الانتداب، التي صارت فيما بعد عائلات "البرجوازية النافذة"، وبقيت "معادية" طوال عقود تالية للطبقات الريفية الأكثر حرمانا.

قبالة التداخلية والشراكة بين الانتداب الفرنسي والبرجوازيين المدينيين، كان الريفيون السوريون يشغلون ويستولون على الفعل المناهض للانتداب، تحديدا عبر الانتفاضات الريفية المناطقية، التي كانت تمزج وطنية ذات نفس قومي/ديني أيديولوجياً، مع ميولٍ دائمة للخروج من السلطة القانونية والرمزية والسياسية لزعماء المدن. فالشخصيات والطبقات التي تصدرت "المشهد السوري المقاوم" طوال سنوات الانتداب الفرنسي، كإبراهيم هنانو وصالح العلي وعياش الحاج جاسم وسلطان الأطرش، كانت ذات خلفية ريفية خالصة.

نتيجة لما جرى خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، صارت طبقات الأعيان المدينية "البرجوازية الوطنية"، مالكة لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمناطق العقارية الأهم ضمن المدن

وفي العمق، كان الريف السوري يمزج في مقاومته بين مناهضة "محتل أجنبي"، تجمعه مع النخب القومية في المدن الرئيسة، بنزعات سلطوية محلية للغاية. فمختلف الزعماء الريفيون هؤلاء جمحوا وكانوا جزءا من محميات وتطلعات سياسية مناطقية، غير محبذة لسلطة المركز التي بقبضة زعماء المدن، الذين كانوا يبادلونهم شعورا مشابها. فبعد كل الانتفاضات وحركات التمرد الوطنية/الريفية، لم يضم الوفد الذي مثل سوريا في مفاوضة فرنسا على الاستقلال و"المعاهدة السورية الفرنسية" عام 1936، شخصا أو زعيما ريفيا واحدا، حتى من زعماء المناطق والانتفاضات هؤلاء، بل كانوا جميعا من التنظيمات والشخصيات السياسية المدينية فحسب.

الريف الشعبوي

خلاصة احتكار أعيان المدن وساسته للتعاقد السياسي والسيادي مع سلطة الانتداب، والذي كان ممزوجا بشراكة ومنافع اقتصادية متبادلة بين الطرفين، أنتج شرخا عموديا ضمن الفضاء الاجتماعي والسياسي السوري، موزعٍ في واحدٍ من أهم أبعاده على أساس ريف/مدينة، ودخل تحولات عديدة، وامتد حتى حدوث انقلاب حزب "البعث" عام 1963، الذي كان تتويجا واضحا للريف السوري على مدنه، كتجربة انتصار ثانية له، بعد التجربة التأسيسية الأولى عام 1918.

أ.ف.ب
سوق في مدينة حماة بوسط سوريا

فنتيجة لما جرى خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، صارت طبقات الأعيان المدينية "البرجوازية الوطنية"، مالكة لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمناطق العقارية الأهم ضمن المدن، وغدا أبناؤهم قادة الأعمال الإنتاجية الجديدة، مثل المصانع الحديثة والخدمات المصرفية ووسائل النقل والوكالات الأجنبية. في وقت صاروا هم أنفسهم يتزعمون أحزابا سياسية ذات رمزية عالية، بسبب احتكارها لـ"مروية الاستقلال"، وذات شرعية وسيطرة على مؤسسات الدولة، ويرتبطون بوشائج سياسية إقليمية وثيقة.

كانت أحزاب مثل "الكتلة الوطنية" و"حزب الشعب" و"حزب التعاون"، والنخب الاقتصادية والسياسية من حولها، تبني هيمنتها العامة على كل ذلك، وتجنح لاحتكار السلطة الرمزي وأعلى السلم الاجتماعي والتعليمي والقيمي في البلاد، في شراكة نفعية مع رؤساء العشائر وزعماء الأرياف، على شكل تخادم متبادل، يدخل فيه الزعماء السياسيون جهاز الدولة، تحديدا القضاء وأجهزة الشرطة، تحت خدمة رؤساء العشائر وزعماء الأرياف، ضد أية ميول تمردية من قِبل الفلاحين "فلاحيهم". فيما يتعهد "قادة الأرياف" بالولاء وتأمين الأغلبية في القبة البرلمانية.

على العكس من الصورة الوردية المنتشرة عن سوريا في المرحلة ما بعد الاستعمارية، وإن كان ثمة ملامح واضحة للحريات العامة والإعلامية والانتخابات الحرة بها وقتئذ، فإن الريف السوري كان غارقا في مأساة اقتصادية وتعليمية وتنموية، ومثله التهميش السياسي والازدراء الرمزي. كنتيجة لسوء التوازن الشديد في القوة بين الطبقتين وقتئذ.

"الانقلاب البعثي" عام 1963، كان بمثابة انتصار سياسي واجتماعي واقتصادي ماحق للريف على المدينة، ولأجل ذلك صاغ مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الريف

أفرز ذلك الفرق الهائل ما عرف لاحقا بـ"المسألة الزراعية" في سوريا، التي بقيت طوال عقدين كاملين الخزان والدينامية الأكثر حيوية لإنتاج الفعل السياسي في البلاد. فرداً على تلك السطوة الطافحة من قادة المدن وشركائهم من زعماء الأرياف، انزاح الريفيون من جهة للأحزاب الشعبوية/الخطابية، مثل حزب "البعث" و"الشيوعي السوري" و"الاتحاد الاشتراكي" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي"، ومن جهة أخرى انضموا إلى الجيش بأعداد وفيرة، كونه المؤسسة الوطنية الوحيدة التي تقبل بهم دون شروط مسبقة ومعايير طبقية، وتحقق لهم صعودا ضمن أوساطهم الاجتماعية، وتوفر أمانا اقتصاديا وشعورا بالجدارة، كان مفتقدا بالنسبة للريفيين السوريين وقتئذ.

ثلاثة أحداث وتحولات سورية جرت خلال تلك المرحلة، حسمت بتراكمها وتعاضدها الداخلي الصراع لصالح الريف مجددا، فككت "الهيمنة المدينية" السورية، وعاد الريف بموجبها إلى صدارة مشهد الحياة السياسية وقتئذ.

الهزيمة العسكرية في مواجهة إسرائيل عام 1948، أحرجت البرجوازية الحاكمة، وفتحت المجال واسعا لاندلاع موجة الانقلابات العسكرية، التي تتالت وصار العسكر لاعبين أساسيين ضمن لوحة البلاد، وإن كانوا عسكرا مدينيين في مرحلة الانقلابات الأولى، لكن ذلك لم يمنع كونهم الجهة التي فتحت الباب واسعا أمام نظرائهم "العسكر الريفيين" لأن يعيدوا الكرة، ولو بعد سنوات.

نمو الفاعلية التنظيمية والأيديولوجية للأحزاب الشعبوية وتوسعها الأفقي ضمن الأوساط الريفية، تحديدا حزبي "البعث" و"الشيوعي السوري"، كان عاملا حيويا آخر في ذلك السياق. مع الأمرين جاءت الوحدة الاندماجية مع مصر جمال عبدالناصر عام 1958 بمثابة قطع شريان الحياة الأخير عن تلك الطبقة البرجوازية. فالنظام الوحدوي فكك ما بقي لها من تنظيمات سياسية وأدوات قوة مثل البرلمان والصحافة الحرة، لكن أولا أفرغ كل ما بجعبتها من ثروات خاصة، عبر عمليات التأميم. كل ذلك هيأ الأجواء المناسبة لحدوث "الانقلاب البعثي" عام 1963، كظاهرة سياسية ريفية، واستمراره.  

الريف الأخير

"الانقلاب البعثي" عام 1963، كان بمثابة انتصار سياسي واجتماعي واقتصادي ماحق للريف على المدينة، ولأجل ذلك صاغ مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الريف، مثل عمليات التأميم الزراعي والصناعي وقرارات الاستيلاء والمصادرة، مرورا بتوسيع عمليات التعليم والصحة والجيش والخدمات العامة المجانية واستيعاب مئات الآلاف من الريفيين في جهاز الدولة، الذي صار بطالة مقننة ليس أكثر، وتشكيل شبكات تنظيم ريفية على طول البلاد، واتحادات فلاحية وجمعيات زراعية وتنظيمات حزبية، بطريقة صارت أغلب القواعد الاجتماعية الريفية ذات علاقة زبائنية مع النظام البعثي/الأسدي، وإن بالحد الأدنى من الموارد.

مع وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم، تخلى النظام عن كل أشكال الدعم للطبقات الأكثر ضعفا، ولم تبق من المواد الغذائية المدعومة إلا أشياء نادرة مثل الخبز، ومن الخدمات العامة إلا التعليم الأساسي

لم تكن تلك الاستراتيجيات قادرة على الاستمرار والحفاظ على جودة خدماتها لسنوات كثيرة، فسوريا في المحصلة لم تكن دولة نفطية ذات موارد مالية وافرة ومستدامة، وطبيعة النظام الشمولية سمحت للفساد والمحسوبيات والترهل أن تتسرب بسرعة إلى كافة بنى تلك القطاعات التي شيدت وتم التوسع بها لصالح الريف، فيما كانت المركزية الاقتصادية والإدارية التي ناسبت تطلعات النظام وهواجسه الأمنية، الركن الأكثر هشاشة ضمن ذلك الهيكل.

تفاعلا مع كل ذلك، واعتبارا من أوائل التسعينات، عقب شعور نظام الرئيس حافظ الأسد بحتمية تفكك المنظومة الاشتراكية، اتخذ النظام مجموعة من الاستراتيجيات الاقتصادية/السياسية الجديدة، أدت بالتقادم إلى "اقتلاع الريف السوري". فأصدر النظام قانون الاستثمار (رقم 10) عام 1991، وتخلى بموجبه فعليا عن أيديولوجيته الاقتصادية التقليدية، تبعه رفع الدعم عن التعليم والصحة والمواصلات، فانهارت تلك القطاعات خلال سنوات قليلة، وكلها لصالح القطاع الخاص، ما أخرج مئات الآلاف من الريفيين من مظلة ونعيم هذه الخدمات التي كانت شبه مجانية، ولأنهم كانوا الأكثر ضعفا في ذلك السياق، فقد كان كل ذلك على حسابهم.

أ.ف.ب
صور ممزقة للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد ووالده الراحل حافظ الأسد معلقة على مدخل ميناء اللاذقية في سوريا

وفي سنوات لاحقة، مع وصول النجل بشار الأسد إلى سدة الحكم، حدث أمران مركبان: تخلى النظام فعليا عن كل أشكال الدعم للطبقات الأكثر ضعفا، ولم تبق من المواد الغذائية المدعومة إلا أشياء نادرة مثل الخبز، ومن الخدمات العامة إلا التعليم الأساسي، ومن جهة أخرى لم يعد الاحتكار الاقتصادي الذي تمارسه الطبقة المحيطة برأس الحكم ولصالحه مجرد "ممارسة للفساد"، بل هو "نهب عام" واضح، حجر عن الخزينة العامة موارد هائلة، وأفقد الجهاز الحكومي القدرة على إقرار وتنفيذ سياسات تنموية، ولو بالحد الأدنى. ومع الأمرين كانت القضية المناخية ذات تأثيرات جذرية وسريعة على أكثر المناطق فقرا وتريفا.

حطم كل ذلك الريف السوري، ودفع الملايين منهم إلى أن يقطنوا ضواحي وعشوائيات المدن، اعتبارا من السنوات الأولى لحكم بشار الأسد. ومن هناك راكموا ترسانة من مشاعر المظلومية وآليات التعاضد وكثافة التواصل وتبادل الأفكار الجديدة، مع رؤية وملاحظة الفروق الهائلة بين أنماط حيواتهم، وما يناظرها ويعيشها الآخرون، "المركزيون المدينيون الملتفون حول نواة السلطة"، المحتكرون لكل شيء، من الاقتصاد والتعليم ومصادر القوة، وصولا للرموز والسياسة وأعلى السلم الاجتماعي، فكانت الثورة.

font change

مقالات ذات صلة