يبدو أن نهاية حزب "البعث" في سوريا ستكون مختلفة عنها في العراق، مثلما تباين مساره في كل من البلدين منذ تأسيسه الأول عام 1947. بدأ حزب "البعث" بمبادرة من السياسي السوري ميشال عفلق في ذلك العام، تأسيسا على كتابه "في سبيل البعث". كان اسمه في البداية حزب "البعث العربي"، ثم أُضيفت إليه كلمة "الاشتراكي" بعد اندماجه مع "الحزب العربي الاشتراكي" بقيادة أكرم الحوراني عام 1952. وكان وجوده في العراق قد بدأ في العام السابق على ذلك الاندماج كفرعٍ للحزب السوري "قطر العراق". لكنه لم يلبث أن صار حزبا مستقلا. وأُنشئت "قيادة قومية" ضمت الحزبين، إلى جانب أحزاب أخرى صغيرة أو قزمية في عدد من البلدان العربية مثل لبنان والأردن واليمن، فيما فشلت محاولة إقامة "حزب للبعث" في مصر.
ولم تمض سنوات حتى بات الحزبان اللذان كانا حزبا واحدا وظلا يحملان الاسم نفسه، متنافسين ثم متصارعين. واشتد الصراع بينهما بعد وصول "البعث السوري" إلى السلطة عام 1963، واستيلاء نظيره في العراق على الحكم عام 1968. وبدا غريبا في البداية أن يتصاعد الصراع بينهما إلى حد تحوله إلى صدام بين الدولتين اللتين أُخضعتا لحكمهما، قبل أن يصبح هذا الصدام معتادا ويصير جزءا من تفاعلات ما أُطلق عليه نظام إقليمي عربي.
اضطرب مسار الحزبين في كل من سوريا والعراق، فارتبكت الأوضاع في البلدين، ثم اضطربت بفعل خيارات غير واقعية وتحركات غير محسوبة قادتهما إلى نهاية دراماتيكية في 2003 و2024. ومن غرائب العلاقات بينهما أن النظام الذي حكم باسم حزب "البعث" في سوريا أسهم بمقدار معين في إنهاء سلطة نظيره الذي كان الحزب نفسه واجهته الأساسية. كانت مغامرة غزو الكويت في أغسطس/آب 1990 بداية نهاية "البعث" العراقي ونظامه. وإذا كان غريبا أن يبلغ الصراع بين حزبين حملا اسم "البعث" المبلغ الذي وصل إليه، فالأغرب أن نظاما استند إلى أحدهما شارك في حرب ضد نظيره الذي اعتمد على الثاني. فقد أرسل نظامٌ كان يرأسه الأمين العام القطري لحزب "البعث" في سوريا كتيبة من الفرقة الرابعة المدرعة ضمن قوات التحالف الدولي الذي شُكل لتحرير الكويت (عملية عاصفة الصحراء) بين 24 و28 فبراير/شباط 1991. صحيح أن تلك الكتيبة لم تشارك في القتال بشكل مباشر، إذ اتُفق في قيادة القوات المشتركة على أن تكون قوة احتياط، ولكن مدرعاتها كانت قريبة جدا من مواقع قوات عراقية، وكان احتمال الاشتباك بين الطرفين قائما في أية لحظة خلال تلك الأيام.
ما يجمع سلوك نظامي "البعث" في العراق وسوريا أن كلا منهما اختار طريقا ظن أنه يقود إلى تقويته ودعم نفوذه وهو لا يدري أنه يورده موارد التهلكة
وإذ هُزمت القوات العراقية وأُرغمت على مغادرة الأراضي الكويتية التي غزتها، فقد أُضعف النظام الذي أرسلها وبدأ العد التنازلي لنهايته ومعه حزب "البعث" بعد فترة حصار أعقبها هجوم أميركي بريطاني في مارس/آذار2003.
لم يحدث مثل ذلك في سوريا التي لم يُقدم النظام الذي حكم باسم "البعث" فيها على مغامرة من هذا النوع. ولكن خياره مغادرة الصف العربي والاتجاه صوب طهران أضعفه تدريجيا، وهو الذي لجأ إليه اعتقادا في أنه يُقويه لوجوده في محورٍ بدا لوقت غير قصير أنه قويٌ اعتمادا على حلفاء أو أذرع في بعض البلدان العربية، واستنادا على شعارات كانت لها شعبية في أوساط قطاعات لا يُستهان بها من الجمهور العربي، مثل الممانعة والمقاومة.
وما يجمع سلوك نظامي "البعث" في العراق وسوريا أن كلا منهما اختار طريقا ظن أنه يقود إلى تقويته ودعم نفوذه وهو لا يدري أنه يورده موارد التهلكة. ولكن الفرق أن التهلكة الناتجة من الخيار العراقي في 1990 كانت فورية تقريبا، في حين أنها كانت تدريجية في حالة الخيار السوري. فقد بدأ العد التنازلي الطويل لنهاية نظام البعث السوري منذ أن أساء التعامل مع الهبة الشعبية التي بدأت في مارس/آذار 2011، وفشل في احتوائها فخلقت أزمة ممتدة أخذت طابعا مسلحا. ثم كان فشل "محور المقاومة" الذي اختاره نظام "البعث" السوري، في اختبار لا يعد كبيرا في 2015-2016، وحاجته إلى دور روسي مباشر لإنقاذ هذا النظام، علامة أولى على ضعف غطاه نفوذٌ اكتسبه "حزب الله" داخل لبنان بعد حرب 2006. ولكن هذا الغطاء كُشف خلال المعارك التي ترتبت على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والضربات المؤلمة التي تعرض لها "حزب الله" واضطراره لسحب مقاتليه من سوريا في لحظة اضطراب كبير أتاحت لفصائل المعارضة التقدم من إدلب إلى دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد وحزب "البعث" السوري بعد 21 عاما من القضاء على نظيره العراقي.
اختلفت، إذن، طريقة نهاية "البعث" في الحالتين. وربما يختلف أيضا مصير أعضائه في سوريا عنه في العراق. لم تلجأ الإدارة الجديدة في سوريا إلى انتقام منهجي من أعضاء "البعث"، ولم تستهدفهم على الهوية الحزبية، بخلاف ما حدث في العراق تحت شعار "اجتثاث البعث". ويبدو حتى الآن أن الاستهداف مقصور على قادة الحزب وأعضائه الذين ارتكبوا جرائم أو شاركوا في ارتكابها. ويُفهم من قرار استمرار عمل المؤسسات ودعوة موظفيها إلى أداء أعمالهم أنه قد لا تحدث ملاحقةٌ لأعضاء "البعث" في المستوى القاعدي، وربما الوسيط، باعتبارهم موجودين ضمن هؤلاء الموظفين.
كما يبدو الاختلاف واضحا فى مبادرة قيادة "البعث" السوري إلى إعلان تعليق أنشطته حتى إشعار آخر، وتوجيه كوادره لتسليم ما لديهم من وثائق وأسلحة إلى الإدارة الجديدة، بخلاف ما حدث في العراق 2003 حين حاول بعض قادة "البعث" تنظيم مقاومة ضد الوجود الأميركي والنظام الذي كان قيد التشكل في ذلك الوقت.
وهكذا اختلفت طريقة نهاية "البعث" في سوريا والعراق. ولكنها تظل نهاية دراماتيكية في الحالتين بعد عقود طويلة. أكثر من 75 عاما هى عمر حزب "البعث" منذ بدايته الأولى. وخلالها حكم سوريا 61 عاما، والعراق 35 سنة. وطول تلك الفترة، كثُرت الاختلالات الداخلية وليست الأخطاء والمغامرات الخارجية فقط. ويبدو هذا طبيعيا نتيجة الاعتماد على شعاراتٍ تبدو للوهلة الأولى ملهمة، ولكنها في حقيقتها خاوية، مثل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، و"وحدة– حرية– اشتراكية"، وغيرهما. وكانت سياسات نظاميه بعيدة كل البعد عن فكرة الوحدة التي اعتُمدت كأساس لشعاراتهما. وعلى سبيل المثال بدل أن يُوحد الحزبان سوريا والعراق عندما توليا السلطة فيهما، أدخلا البلدين في صراع وصل إلى حد قطع العلاقات وحشد القوات على الحدود في بعض الفترات.
فيا له من مسارٍ مضطرب رسم صورة نهاية كلٍ منها، وصارا تاريخا يصح أن يُدرس وأن تُستوعب دورسه... وما أكثرها.