في الولايات الأميركية المتحدة جدال قام ثم توارى أمام جدالات أخرى كما حال كل شيء في عصر "الثورة الرقمية" التي يقودها إيلون ماسك، والتي تهدف "إلى استبدال الديمقراطية الليبيرالية بأوليغارشية تكنولوجية تروج لثورة رقمية بلا حدود أخلاقية" (خوسيه ماريا لاسييه، صحيفة إل باييس، 6 يناير/ كانون الثاني 2025).
شاب أميركي في السادسة والعشرين من عمره يدعى لويجي مانيوني، يعمل في مجال هندسة الكومبيوتر (أي ينتمي إلى المقلب الآخر من عالم ماسك)، اتهم في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2024 بقتل رئيس تنفيذي لشركة تأمينات صحية يُدعى بريان تومبسون، وألقي القبض عليه في مشهد مسرحي أريد منه عرض القوة. كثر يرون في هذا الشاب "مجرما" حتى قبل إدانته، والمؤسسة السياسية والقانونية نفسها حرصت على ألا يخرج وصفه عن هذا الإطار، بل على أن يعدّ القبض عليه انتصارا على "الإرهاب". كثر آخرون يرون فيه "بطلا" واجه إمبراطورية الجشع والفساد وسيطرة الشركات الكبرى الأميركية، وقتل أحد رموزها، وانتقم للآلاف من ضحايا النظام الصحي الجائر.
هذه واحدة من قصص زمننا الدالة. على مسافة بعيدة جدا من نيويورك، حيث قتل تومبسون، وهو في المناسبة رجل أعمال ومستثمر لا علاقة له بمهنة الطب، كان طبيب فلسطيني يدعى حسام أبو صفية، يتصدر، لفترة وجيزة آلت أيضا إلى الانحسار تحت وطأة أحداث أخرى، الأخبار أيضا. كان القطاع الصحي في قطاع غزة المدمر يتهاوى تحت ضربات الاحتلال الإسرائيلي. أكثر من ألف عامل في القطاع الصحي قتلوا، بمن فيهم أطباء وممرضون، وبعضهم قتل تحت التعذيب في الأسر. لم يستدع مقتل ابنه في أكتوبر/ تشرين الأول، احتجاج المؤسسة الأميركية، السياسية أو الصحية أو الحقوقية، كما لم تثر محاصرة المستشفى الذي يديره، "مستشفى كمال عدوان"، المسمى للمناسبة على اسم إعلامي فلسطيني اغتالته إسرائيل في بيروت عام 1973، حفيظة أحد.
قبل "كمال عدوان"
الرجل ذو المعطف الأبيض مشى سابقا في جنازة ابنه، وصلّى عليه، ثم واصل عمله في معالجة ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية، في المستشفى الوحيد الذي ظل واقفا في شمال غزة، حتى حرقه نهائيا وقتل واعتقال من فيه بعد حصاره ومهاجمته مرات لا تحصى، يوم اعتقال حسام أبو صفية.