"الزعيم" العراقي عبد الكريم قاسم محور رواية جديدة لعلي بدر

عن بداية تشكل العراق الحديث

غلاف رواية "الزعيم"

"الزعيم" العراقي عبد الكريم قاسم محور رواية جديدة لعلي بدر

يبدو العراق في رواية "الزعيم" لعلي بدر تاريخ أزمات لا نهاية لها، لكننا نستكشف أيضا في هذه الرواية حيوية هذا البلد وقدرته على التغير والتجدد.

الرواية التي صدرت عن "دار المدى" (256 صفحة) تبدأ من أيام الانقلاب على الرئيس عبد الكريم قاسم (الزعيم) ومقتله عام 1963 ثم تعود لتسترجع زمن مولده في 1914. فنهاية حكم "الزعيم" لم يصدقها الفقراء الذين دافعوا عنه في الشوارع، لكن الخبر قوبل بترحيب في الأوساط الغربية، وبعض الدول العربية.

الكثير من الصحف والمجلات، التي عاد إليها بدر، تناقلت تلك الأنباء بحفاوة، باستثناء إعلام اليسار. ومن أبرز ما نُشر، تقرير للصحافي البريطاني جون رايت في مجلة "تايم" الأميركية، يصور فيه جثث أربعة قتلى، بينها جثة قاسم، الذي كان يرقد على بركة من الدماء، و"أصبح جسده أصغر من حجمه". كما ابتهجت صحف القاهرة بالخبر وأعلنت "انتهاء عصر الطاغية عبد الحكيم قاسم".

وأذيع أن الرئيس جمال عبدالناصر هنأ الضباط العراقيين "بمناسبة نجاح الثورة". أما إذاعة بغداد، التي سيطر عليها الانقلابيون، فزعمت أن أم كلثوم أهدت أغنيتها "ثوريون لآخر مدى" إلى "الزعيم العقيد عبد السلام عارف" قائد الانقلاب.

جمعٌ من البشر يعيشون خارج العقل، خارج الأفكار، يعيشون في الشظايا والرصاص. لم يعد أحد يسمعهم، لم يعد أحد يسمع غير كلمات العنف والدم

أبرز ما صاحب يوميات الانقلاب هو كثافة الاعتقالات والإعدامات التي رافقت صعود الضباط الجدد. تسرد الرواية حالات من التعذيب في السجون، والبطش الممارس على المعارضين بصورة صارت مألوفة في السجون العربية، إلا أن أهميتها هنا تبدو تأسيسية لحقبة جديدة، التصقت مع نشوء شكل الدولة الحديثة القائمة على عسكرة الدولة وقمع أجهزة الأمن، "بغداد تعيش لحظات صعبة، الأسلحة تحت المعاطف، والعيون تتابع كل حركة في الشارع".

Max Scheler/Süddeutsche Zeitung Photo / Alamy Stock Photo
قصر الملك فيصل الثاني المحترق في بغداد بعد سقوط الملكية عام 1958

ماريون فاروق صلاغليت

الرواية التي تعتمد، في شكلها الفني، على رواة كُثر وأخبار صحافية وأوراق منسوبة لشخصيات مهمة في تاريخ العراق والعالم، تورد قصة حقيقية لافتة، أبطالها ماريون وعمر فاروق الأوقاتي وبيتر صلاغليت. ماريون هي سيدة ألمانية، أخذ النازيون والدها إلى معسكر اعتقال ولم يعد منه. جاءت أوائل الخمسينات إلى بغداد مع والدتها، وكانت في السادسة عشرة. ربما، هربا من الموت "الذي صنعته الأيديولوجيات القومية والنازية في أوروبا"، دون أن تدري أن هذه الأيديولوجيا ذاتها "نبتت أيضا في هذه البلاد التي هربت إليها". في العراق تلتقي عمر، وهو شاب يعمل طيارا في الحرس الملكي، فيتحابان ويتزوجان، ولا تعرف إلا بعد عامين، مع الثورة، أن زوجها كان يساريا. عاشت ماريون معه وأنجبا طفلين (مروان وشعلان)، حتى جاء اليوم الذي شهدت فيه مجيء عسكر الانقلابيين الجدد لاعتقاله ثم إعدامه. وهو اليوم الذي تحدثت عنه لاحقا عبر تلفزيون برلين الشرقية "جمعٌ من البشر يعيشون خارج العقل، خارج الأفكار، يعيشون في الشظايا والرصاص. لم يعد أحد يسمعهم، لم يعد أحد يسمع غير كلمات العنف والدم، لم يعد في الشوارع غير الوجوه المتوحشة".

Max Scheler/Süddeutsche Zeitung Photo / Alamy Stock Photo
عبد الكريم قاسم في مؤتمر صحافي بعد انقلاب 14 يوليو 1958 ضد الملك فيصل الثاني

تتزوج ماريون لاحقا بباحث بريطاني مهتم بشؤون العراق اسمه بيتر صلاغليت، فصارت تحمل اسمه إلى جانب اسم عمر. هكذا: ماريون فاروق صلاغليت. وقد صارا يؤلفان كتبا معا عن العراق ويهديانها إلى عمر فاروق الأوقاتي، "فلقاء بيتر مع ماريون قد طبع حياته بطابع لا يتبدل أبدا، مثلما كان لقاء ماريون بعمر قد طبع حياتها بطابع لم يتبدل".

ألف صلاغليت كتابا بعنوان "العراق منذ عام 1958: من الثورة إلى الديكتاتورية"، التفت إليه علي بدر حين شارك مع مؤلفه في ندوة ببرشلونة عام 2014، وكان ذلك بعد وفاة ماريون بسنتين. حينها سأله صلاغيت الذي تعرّف إليه: لماذا لا تكتب رواية عن عبد الكريم قاسم؟

العنف والسلطة

تبحث الرواية في إشكالية تلازم العنف مع السلطة. هناك صوت في الرواية يرى أن اليساريين "فعلوا ذات الشيء إزاء خصومهم، صوروهم أيضا ووصفوهم بأبشع النعوت"، إلا أن هناك من رأى أن هؤلاء "لم يبيدوا خصومهم بشكل ممنهج". وإذ ردّ صاحب الصوت الأول بالقول "ربما لم تسنح لهم الفرصة لفعل ذلك"، فإن الصوت الثاني القريب من الزعيم أكد أن "هذا لم يحدث، لأي سبب كان". وأن الموت تحت التعذيب بدأ في العراق مع الانقلابيين عام 1963.

 نجد خيط الموت يمتد من زمن إلى آخر وبمسميات كثيرة كأن ناس العراق وجدوا فقط لإشعال الانتفاضات والثورات وتحقيق الانقلابات

مع هذا، تسرد الرواية وقائع مرعبة تكشف تعامل الثوار اليساريين مع جثث العائلة الملكية وسحل بعضهم في الشوارع. وإن كانت بعض الآراء في الرواية تشير إلى عدم رغبة "الزعيم" في استخدام العنف، فإن كل المؤشرات تقول إن هيجان الشارع العراقي، كما تصوره الرواية، كان جزءا من تحول أرسى وجهته الضباط الذين ناقشوا كل خطوات الثورة قبل إعلانها.

Pictorial Press / Alamy Stock Photo
الملك فيصل الثاني (1935-1958)

هكذا، نجد خيط الموت يمتد من زمن إلى آخر وبمسميات كثيرة "من قَتّلَ يُقتل". كأن ناس العراق وجدوا فقط لإشعال الانتفاضات والثورات وتحقيق الانقلابات. وإن أظهرت الرواية حراكا سياسيا في العصر الملكي، من خلال الأحزاب والصحافة والحركة الثقافية، فإن القمع والمصادرة وتغلب الرأي الواحد، تأسس بالرغم من كل هذا الحال ودام بعد ذلك.

طفولة فقيرة

طفولة عبد الكريم قاسم جاءت مع تحولات عاصفة في العرق، فحينها اندثر الحكم العثماني ليأتي الإنكليز وقواتهم إلى العراق داعمين السلطة الجديدة. فخلال فترة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين تشكلت ملامح خريطة العراق الحديث.

Associated Press / Alamy Stock Photo
جنود الثورة في شوارع بغداد خلال انقلاب 14 يوليو 1958

تستعيد الرواية طفولة عبد الكريم مع أبيه النجار الذي كان ينتقل من قرية إلى أخرى بسبب فقره. ومن خلال أصوات عدة، إلى جانب صوت قاسم نفسه، يظهر شغفه المبكر بالقراءة والسياسة. إذ عمل مدرسا قبل أن يلتحق بالكلية العسكرية، وكان يلاحظ تهرب أبناء علية القوم من دخول هذه الكلية فوجدها مناسبة لطبقته وأحلامه المستقبلية، وصارت صورته بالبدلة العسكرية محل اعتزاز وافتخار والدته أينما ذهبت. يلاحظ أن قاسم منذ بداية اهتمامه بخط التغيير، احتل المكانة القيادية بين الضباط، فأدار حواراتهم عن الكثير من المسائل. ومن هذه الحوارات بدأت تتكشف أوجه الاختلافات بينهم.

Ulf Andersen/Getty Images
الكاتب العراقي علي بدر

هناك سرد لافت للعلاقات الاجتماعية في بغداد منذ عشرينات القرن العشرين حتى الخمسينات منه، فنتعرف إلى بعض الفاعلين الاجتماعيين من الطوائف الدينية غير الإسلامية مثل اليهود والمسيحيين، مع إشارات إلى تحالفات بين الشيعة والسنة. وفي كل حال، كانت الأيديولوجيات الحديثة اليسارية والقومية والليبيرالية هي الجامعة الأساس لأفراد المجتمع. وفي إطار هذا المجتمع، نقرأ عن العائلة الملكية وسلوك ساكني القصر، ومعهم نوري السعيد الذي بقي كثيرا في السلطة. كما نعرف نزعة عبد السلام عارف (الإسلامية) وكرهه لليسار. كل ذلك في سرد يبدو قريبا من وجهة نظر "الزعيم"، مع أن تعدد الرواة والمعلومات والحوارات قد يمنح القارئ تصورات واستنتاجات عن حال العراق ليس في زمن الرواية، فحسب، وإنما في الأزمنة التي تلته.

font change

مقالات ذات صلة