الفيلسوف المنسي

الشيء الوحيد الذي يمكن دراسته هو شعور الإنسان

الفيلسوف المنسي

قد يبدو غريبا أن يمارس الفيلسوف سلطة قمعية وهو الإنسان المشغول بالحقيقة. لكن لأنه إنسان، مارس القمع واستخدم السلطة لرفع رأي على آخر، بل سعى لطمس آراء مخالفيه وإخفائها عن التاريخ. هذا ما فعله أفلاطون وأرسطو، الفيلسوفان المؤرخان. لعلهما من أول من أرخ للفلسفة وحفظ مقولات الفلاسفة، لكنهما لم يحفظا كل المقولات. من هؤلاء الذين دفنت فلسفتهم أو كادت لولا محاسن الصدف، الفيلسوف اليوناني أرسطبوس، تلميذ سقراط، الذي لا يكاد يعرفه أحد.

ولد في سنة 435 ق.م. ومات في 356 ق.م. وهو فيلسوف عظيم، لكنه سيئ الحظ، فشهرته لا تتناسب مع إنجازه، فالرواقية ليست سوى فرع من دوحته. وفي "الأخلاق النيقوماخوسية" نقاش طويل لمذهبه دون ذكر اسمه، وهو الذي أسس المدرسة القورينائية في الفلسفة، مدرسة اللذة أو الهيدونية، أو بعبارة أخرى، هو السفسطائي الذي وجد نفسه وقد أسس مذهبا فلسفيا جديدا. إنه لا يرفع رأسا بالرياضيات لأنها لا تفيد في الحياة العملية ولا بالعلم الطبيعي لأن نسيج الطبيعة لا يمكن أن يُعرف. الشيء الوحيد الذي يمكن دراسته هو شعور الإنسان، ووعينا المباشر بشعورنا، مع أن إحساس البشر ليس سوى سراب للواقع الذي يعيشونه.

هناك قرابة فكرية بين أرسطبوس وبروتاغوراس أمير السفسطائيين، فكلاهما يقران بأن معارف الإنسان تنتهي حيث تنتهي حواسه، ولا يعترفان إلا بالمعرفة الذاتية، أي الحركة الداخلية النفسية. ومن هنا طور أرسطبوس فكرة أن كل المعرفة ذاتية والشيء في ذاته يبقى مجهولا بالنسبة إلينا، فلا ندرك منه إلا آثاره عند وقوع الفعل، أي إن الأحداث والأشياء تظهر للمراقب بمظاهر مختلفة.

يمكن أن نضيف بأنه قد طور مذهب السفسطائيين القائل بأن المعرفة هي فقط ما يبدو لكل إنسان على أنه حقيقي، وقام بإعطاء أسباب محددة تدعو لإنكار إمكانية معرفتنا بالأشياء في ذاتها. نحن لا نعرف ما طبيعة الشيء في ذاته، لكن من المؤكد أننا على دراية بمشاعرنا الخاصة، وإن كنا لا نعرف بم يشعر الآخرون. فعل أرسطبوس كل هذا بوضوح تام، بعد أن تخلى عن سربال الخطابة الذي كان بعض السفسطائيين يختفون خلفه أحيانا.

لقد سبقه السفسطائيون إلى جحود وجود الأفعال التي لا تقبل التغيير، لكنهم لم يتقدموا نحو نتيجة الفكرة بحيث يقال إن القانون والأخلاق نتاج ميثاق صريح أو ضمني بين الأفراد، وأن هناك نقطة اتفاق واجب بين الأفراد، هي التي تحثهم على إبرام العقد الاجتماعي. نقطة الاتفاق هي لذة الفرد التي تحولت فيما بعد إلى منفعة المجتمع.

هذا يدلل على انتمائه أو قربه من السفسطائيين، لكنه يختلف عنهم بأنه المطوِر، وأنه قد خطا بهم خطوة لم يخطها عندما اعترف بغاية للحياة هي اللذة بينما لا يعترفون هم بالغاية، وأنه قد أسس لمذهب ومدرسة تحمل اسمه، بحيث صارت آراؤه أكثر إقناعا ووضوحا، خصوصا بحديثه المفصل عن غاية الحياة، وأنها اللذة والخلاص من الألم. هنا يختلف أرسطبوس عن السفسطائيين بأنه قد أثبت معرفة ما، بل قد أسس فلسفة ثابتة، بينما انجرفوا هم إلى انتحار معرفي.

ومن علامات تطويره لهذا الخط من الفكر، تقريره بأن ثمة غريزة تدعونا إلى أن لا نرضى حتى نجد المبدأ الذي تستند إليه أقواله، ومن هنا انطلق ليُثبت أن كل معرفة، يمكن إرجاعها إلى القناعات الخاصة أو إلى مشاعرنا الفردية المباشرة. إنه يختلف عن كل من تبعوه على مذهب اللذة برغبته الملحة في استبعاد التفكير بكل صوره، بحيث جعله عنصرا دخيلا على وعي الإنسان.

طور أرسطبوس فكرة أن كل المعرفة ذاتية والشيء في ذاته يبقى مجهولا بالنسبة إلينا، فلا ندرك منه إلا آثاره عند وقوع الفعل

مثل غيره من المفكرين الأخلاقيين الإغريق، تتمحور أخلاق أرسطبوس حول جوهر النهاية وخلاصة الوجود الإنساني، أي إنه الهدف الذي تسعى إليه أعمالنا والقيّم في حد ذاته. حدد أرسطبوس النهاية على أنها متعة. هذا التعريف للمتعة على أنها النهاية يجعل أرسطبوس متعصبا للمتعة. معظم الملذات المحمودة لها علاقة بالإشباع الحسي، مثل النوم مع المحظيات والاستمتاع بالطعام الجيد والنبيذ المعتق. ومن تعاليمه أنه لا ينبغي لنا تأجيل الملذات الجاهزة من أجل ملذات المستقبل.

لقد كان على استعداد لكسر التقاليد الاجتماعية في عصره والانخراط في سلوك يعتبر غير لائق أو صادم من أجل الحصول على تجارب ممتعة. وصف معظم الإغريق حياته المثالية بأنها مستعبدة للمتعة، وقد طورت المدرسة القورينائية هذه الأفكار بشكل أكبر وأثرت على أبيقور والشكوكيين الإغريق اللاحقين، غير أن أفكاره في النهاية نُسبت لأبيقور الزاهد، رغم أنه بريء منها.

font change