تراجع مكانة فرنسا على ضوء التحولات السياسية بين عامين

كان الشرق الأوسط بمثابة المسرح الذي يعكس تقلص دور فرنسا

أ ب
أ ب
جنود فرنسيون يصعدون الى متن طائرة نقل اميركية في مدينة غاو في مالي بعد انتهاء مهتمهم في 9 يونيو 2021

تراجع مكانة فرنسا على ضوء التحولات السياسية بين عامين

تجد فرنسا نفسها في عام 2025 حيال تحديات جسام بعد سنة ساد فيها التخبط السياسي داخليا، فيما استمر مسلسل الانتكاسات خارجيا. وتدلل هذه التحولات السياسية على أن الاضطراب الداخلي يزيد من انحسار موقع فرنسا على الساحة الدولية.

وتبعا لذلك ستمثل سنة 2025 اختبارا لقياس مدى تحول الأزمة البنيوية إلى أزمة مؤسساتية، وستبين تطور موازين القوى وتموضعها قبل انتخابات الرئاسة التي يمكن أن تحصل قبل موعدها في 2027. هذا التأزم السياسي لم يمنع استمرار التميز الفرنسي ثقافيا وسياحيا وتنظيميا على ضوء أحداث عالمية شهدتها خلال الأشهر الأخيرة. هكذا تبقى الفرصة متاحة لبلد موليير لتجاوز عثراته ومقاربة مستقبل واثق.

سنة 2024: السنة الأسوأ

تأرجح عام 2024 بين سلسلة من الأزمات ومناسبتين باهرتين: الألعاب الأولمبية، وإعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام في باريس، كحدثين عالميين كرسا استدامة فرنسا باعتبارها "قوة ناعمة". ولكن خلف هذين الإنجازين، لم يكن المشهد العام براقا.

انتهت السنة سياسيا مع انفراج تمثل بالإعلان عن تشكيل حكومة فرنسوا بايرو. وللتذكير، أسفرت الانتخابات الأوروبية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، عن صعود الشعبويين المحافظين واليمين المتطرف في الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص في فرنسا وألمانيا، أقوى دولتين في الاتحاد. وقد تجلى هذا الصعود للتطرف أيضا من خلال بروز أقصى اليسار في فرنسا مع حركة جون لوك ميلانشون "فرنسا الأبية". وكان حزب "التجمع الوطني" (مارين لوبان- جوردان بارديلا) قد فاز في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية في يونيو/حزيران الماضي، لكن التحالفات والتصويت التكتيكي من الوسط واليسار تسببا في تراجعه إلى المركز الثالث في الجولة الثانية، ما أدى إلى انقسام البرلمان إلى ثلاث كتل من دون أكثرية، وتوالي حكومات هشة ومنها حكومة ميشال بارنييه التي انهارت خلال اقتراح بحجب الثقة في 4 ديسمبر/كانون الأول.

في هذه السنة المحمومة التي دمغها عدم الاستقرار السياسي وتعاقب أربع حكومات في غضون عام واحد، تم تسجيل رقم قياسي لم نشهده إلا في سنة 1934. وبالفعل سيبقى العام الذي مضى محفورا في الذاكرة وسجلات التاريخ، حيث يعد من أسوأ الأعوام في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة.

من دون شك يتوجب العودة إلى بداية ولاية ماكرون الأولى في 2017 وتشكل مشهد سياسي جديد على حساب القوى التقليدية وبروز قوى من أقصى اليمين وأقصى اليسار، ما أحدث خللا تكرر وتفاقم بعد انتخابات 2024، خاصة أن قرار ماكرون القيام بحل الجمعية الوطنية أتى بنتيجة سلبية. فبدلا من تصحيح التوازن وتوضيح المشهد السياسي، أحدث المزيد من الانقسامات والتشرذم، ما أدى إلى المزيد من التشتت والجمود.

بعد الآمال الكبيرة التي أثارها "خطاب واغادوغو" عام 2017 بإعلانه عن نية تصحيح صورة "فرنسا المستعمرة" والتعاون مع الأفارقة كشركاء، تتابعت خيبات الأمل بعدم القطيعة مع الماضي 

هكذا لا تبدو المهمة سهلة بالنسبة لحكومة فرانسوا بايرو، التي ينبغي أن تثبت قدرتها على الاستمرار، حتى يوليو/تموز 2025، موعد تمكن سيد الإليزيه من القيام بحل الجمعية الوطنية من جديد. تبعا لكل ذلك، لا يمكن اعتبار الخلل دستوريا أو داخل المؤسسات التي سبق لها وتأقلمت مع المتغيرات، لكنه ناتج في الأساس عن سوء الممارسة السياسية سواء من جانب الرئيس أو من جانب غالبية القوى السياسية. والأدهى أن أزمات الداخل تصاحبها انتكاسات في الخارج. 

فرنسا تتراجع عالميا


"هل تخرج فرنسا من التاريخ؟" عنوان كتاب على شكل سؤال، طرحه الجنرال بيار-ماري غالوا (أحد بناة قوة الردع النووي الفرنسية) في نهاية التسعينات من القرن الماضي، وأرفقه بتحليل مفصل عن القوى الكبرى ودوافع انحطاطها. وهذا التساؤل المشكك، يعاد طرحه عند كل منعطف دقيق يهز فرنسا والقارة القديمة في زمن إعادة تشكل النظام الدولي. 
ومن المصادفات الدالة على استمرار مسلسل الانتكاسات، إعلان رئيس ساحل العاج الحسن واتارا، في 31 ديسمبر 2024، عن انسحاب القوات الفرنسية من البلاد خلال شهر يناير/كانون الثاني. ويأتي هذا الانسحاب بعد انسحاب تشاد عام 2024. وبالتالي، بعد إعادة الانتشار والمغادرة القسرية للقوات الفرنسية من منطقة الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر). وحاليا، تحتفظ فرنسا في القارة السمراء بحضور رمزي في الغابون ووحدة مقاتلة في جيبوتي.
ويؤكد هذا الكسوف للوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا استمرار الانتكاسات في السياسة الخارجية خلال السنوات الثلاث الماضية وتراجع النفوذ الفرنسي بشكل عام.
 لقد تجلى "تراجع مكانة فرنسا" في السنوات الأخيرة على عدة جبهات. وظهر ذلك من خلال التخلي عن التقليد الجمهوري الديغولي الذي أسس لنوع من الاستقلالية الاستراتيجية الذاتية إزاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وبالفعل، فإن عودة باريس إلى القيادة المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2009، ثم التدخل العسكري في ليبيا عام 2011 والموقف من الحرب الأوكرانية اعتبارا من عام 2022، أبرزت كلها الانحياز الفرنسي لواشنطن، ونهاية "الاستثناء الفرنسي" في أوروبا.

رويترز
جندي فرنسي على متن مروحية مسلحة في اطار عملية "باركان" في مالي في 29 يوليو 2019

وفي أفريقيا، اتبع ماكرون سياسة خارجية متناقضة. فبعد الآمال الكبيرة التي أثارها "خطاب واغادوغو" عام 2017 بإعلانه عن نية تصحيح صورة "فرنسا المستعمرة" والتعاون مع الأفارقة كشركاء، تتابعت خيبات الأمل مع عدم القطيعة مع الماضي والحفاظ على الوجود العسكري الكثيف، وعدم نجاح عمليات مكافحة الإرهاب التي تتم منذ عام 2013، إضافة إلى سوء أسلوب التصدي للانقلابات العسكرية في منطقة الساحل، الذي قاد لدق ناقوس نهاية عصر النفوذ الفرنسي فيما كان يسمى "المربع الفرنسي في أفريقيا" (الحديقة الخلفية). 
ومن المؤكد أن من بين أسباب هذه الانتكاسات المتتالية، عدم كفاية السياسات المتبعة واحتكار الإليزيه لعملية صنع القرار. ولكن لا ينبغي لنا أن نهمل تأثير المنافسة الخارجية الشديدة على القارة الواعدة، وخاصة لجهة الاختراق الروسي والاستثمار الصيني. 

رغم نقاط ضعفها السياسية أو الاقتصادية، لا تزال فرنسا تتبوأ المركز السابع في ترتيب القوى الاقتصادية العالمية. ويتميز الاقتصاد الفرنسي بتنوعه، مع التركيز على صناعة الطيران والسياحة والزراعة

وكان الشرق الأوسط بمثابة المسرح الآخر الذي يعكس تقلص الدور العالمي الذي تلعبه فرنسا. والواقع أن الرئيس إيمانويل ماكرون، خلال فترة ولايته الأولى، وأول عامين من ولايته الثانية، فشل في إسماع صوت فرنسا. وفي لبنان، الدولة الناطقة بالفرنسية والتي تمثل أولوية بالنسبة لباريس، لم تكن سلسلة المبادرات التي قادها ماكرون منذ عام 2020 ناجحة. وفي جميع أنحاء المنطقة، لم تتمكن الدبلوماسية الفرنسية من تحقيق اختراق ملموس فيما يتعلق بالهيمنة الأميركية. ومن الواضح أن خيارات فرنسا في إدارة الملف اللبناني (إعادة تأهيل الطبقة السياسية اللبنانية، والحوار مع "حزب الله"، وإيران)، والتقلبات في ما يتعلق بحرب غزة، لم تعزز رصيد فرنسا.

 أ ف ب
مواطنون فرنسيون مقيمون في الولايات المتحدة امام مركز للاقتراع في الانتخابات الرئاسية في مدينة بوربانك في ولاية كاليفورنيا الاميركية في 9 ابريل 2022

لا شك أن هذا التراجع في النفوذ الفرنسي يصدر عن التغيرات في ميزان قوى العلاقات الدولية والصعود الاقتصادي لـ"الجنوب العالمي". لكن تدهور الحالة الاقتصادية والتوترات السياسية الداخلية أثرت سلبا على صورة فرنسا في العالم. وبالتالي فإن أزمة النموذج الفرنسي طالت آثارها الكثير من أنحاء العالم. 

 

 الاختبارات الصعبة في 2025 

يبدو المشهد السياسي الفرنسي في مطلع 2025 مرتبكا ويترك الكثير من الأسئلة مفتوحة. والافتقار إلى الخط المنهجي واضح المعالم وخطر الفوضى يؤثران على عمل المؤسسات والحالة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.

وأكدت الأحداث السياسية المهمة التي شهدتها الأشهر الأخيرة ضخامة التحديات، وسيكون عام 2025 عام اختبار تتفاقم فيه أزمة النظام أو يتم التكيف وعدم الوقوع في شرك أزمة مؤسساتية.

ولكن إذا استحضرنا بانوراما العام الماضي من زاوية أخرى، فإن فرنسا، في ظل الأزمة السياسية، ظلت في كامل صعودها وعمليا "مركز العالم" خلال حدثين عالميين نادرا ما يتساويان برز خلالهما التنظيم المتطور لهذه المناسبات، والإدارة الأمنية الناجحة، والبصمات الفنية والثقافية الفرنسية، التي قدمت دليلا على التميز الفرنسي.

وبالرغم من نقاط ضعفها السياسية أو الاقتصادية (المديونية الهائلة وخمسة ملايين عاطل عن العمل)، لا تزال فرنسا تتبوأ المركز السابع في ترتيب القوى الاقتصادية العالمية. ويتميز الاقتصاد الفرنسي بتنوعه، مع التركيز على الصناعات مثل الطيران والسياحة والسلع الكمالية والزراعة. ولا تزال فرنسا تتمتع بالقدرة على الجذب كوجهة سياحية وثقافية. ويكمن التحدي في عام 2025 في تجاوز عدم الاستقرار السياسي المستمر. 

في هذا الصدد، كان لافتا تحذير الشركاء الاجتماعيين (أرباب العمل والقادة النقابيين) أواخر العام المنصرم، من "خطر حدوث أزمة اقتصادية ذات عواقب اجتماعية خطيرة".

هكذا تبدو تحديات فرنسا جمة ومتنوعة في عام 2025. وهذا يتطلب من الرئيس إيمانويل ماكرون أن يكون أكثر مرونة وأن تفكر القوى السياسية في مصالح فرنسا ومواطنيها قبل التطلع إلى الانتخابات الرئاسية القادمة.

font change

مقالات ذات صلة