استغل الكرملين المخاوف العالمية من اندلاع حرب نووية. ونجحت موسكو نسبيا في توظيف هذه المخاوف كعامل ردع، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية المتواصلة منذ نحو ثلاث سنوات، لثني الدول الغربية عن التدخل المباشر، وتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة وبعيدة المدى لاستخدامها ضد أهداف داخل الأراضي الروسية.
ولا يرتبط تلويح روسيا بقدراتها النووية الكبيرة كعامل ردع بالملف الأوكراني فقط، فأوكرانيا مجرد واحدة من مشاكل متشعبة مع الغرب. ومن المؤكد أن استخدام موسكو للتهديدات النووية سيستمر، بشكل أو آخر، كأساس من أسس عقيدتها الدفاعية، وركيزة من ركائز سياستها الخارجية في صراعها الجيوسياسي مع الغرب لتقاسم مناطق النفوذ، من مدخل العودة إلى زمن الحرب الباردة بقوالب جديدة.
ردع حلفاء أوكرانيا..
بعد يوم واحد فقط من استخدام أوكرانيا صواريخ بالستية أميركية من نوع "أتاكمز" لضرب منشأة عسكرية روسية في منطقة بريانسك، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على مرسوم العقيدة النووية المحدثة للبلاد. وخفضت العقيدة الجديدة عتبة استخدام الأسلحة النووية، لتشمل الرد على أي عدوان من جانب دولة غير نووية إذا كانت مدعومة من دولة نووية، وكذلك إذا تعرضت روسيا لهجوم تقليدي يهدد وجود الدولة، أو أي هجوم جوي واسع النطاق بطائرات وصواريخ موجهة وطائرات مسيرة تعبر الحدود الروسية.
ومن اللافت أن النسخة المحدثة تتحدث عن أن الأسلحة النووية "أداة ردع" بعدما كانت في النسخة السابقة "مجرد أداة ردع" بما ينطوي عليه حذف كلمة "مجرد" من جدية في إمكانية استخدام السلاح النووي على الأقل لفظيا.
تعديل العقيدة النووية جاء بعدما سارعت أوكرانيا إلى استغلال الإذن الغربي وتوجيه أولى الضربات بصواريخ"أتاكمز" على قاعدة عسكرية في بريانسك. وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني استخدمت أوكرانيا صواريخ "ستورم شادو" لضرب مركز للقيادة في كورسك. ولم يـتأخر الرد الروسي كثيرا، وتعمد الكرملين أن يكون الرد مختلفا من حيث الشكل والمضمون، إذا جاء على لسان الرئيس بوتين في تسجيل عرضته القنوات الحكومية الروسية، وفيه أقر الزعيم الروسي بحصول ضربتي بريانسك وكورسك بصواريخ بعيدة المدى، وأعلن أن بلاده أطلقت صاروخا باليستيا متوسط المدى جديدا في أول اختبار عملي له في المعركة ضد مصنع دفاعي في مدينة دنيبروبتروفسك. وفي الإعلان الذي تضمن عرضا للقوة أشار بوتين إلى أن الدفاعات الجوية الغربية لن تستطيع إسقاط صاروخ "أوريشنك" بسرعته التي تصل إلى 10 ماك (عشرة أضعاف سرعة الصوت). وبعث بوتين رسائل سياسية أهمها أن بلاده تستطيع الرد بطرق غير تقليدية لكنها تفضل التدرج في الرد، فالصاروخ يستطيع حمل أسلحة نووية لكنه حمل أسلحة تقليدية رغم أن العقيدة النووية الجديدة تسمح بتوجيه ضربة نووية ردا على استخدام "أتاكمز" و"ستورم شادو"، كما أن مداه يصل إلى قرابة 5500 كيلومتر ما يجعل جميع العواصم الأوروبية عرضة للخطر في حال واصلت دعم أوكرانيا.
وبدا أن بوتين يعيد رسم الخطوط الروسية الحمراء بطريقة مختلفة، فالضربة لم تكن نووية رغم القدرة على ذلك، والصاروخ استهدف مصنعا عسكريا داخل أوكرانيا، ولكن القدرة موجودة لضرب مراكز القرار وأهداف أبعد بما فيها الدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، ومن دون أي تفاصيل خلص بوتين إلى القول: "فضلنا دائما ونحن الآن على استعداد لحل جميع القضايا الخلافية بالوسائل السلمية، لكننا مستعدون أيضا لأي تطور للأحداث"، ليبقي الباب مواربا أمام جميع الاحتمالات.