"راجع إلى البلد "... عن السوريين العائدين من الشتات بعد "سقوط الأسد"

يحلمون ببلاد لا يحكمها "الزعيم الأوحد" ويتحكم بمصيرها المخبرون والفاسدون

AlMajalla
AlMajalla

"راجع إلى البلد "... عن السوريين العائدين من الشتات بعد "سقوط الأسد"

منذ عام 2011، ملأت أخبار سوريا الصحف والشاشات بتفاصيل مأسوية أصبحت جزءا لا يتجزأ من السرديات الإخبارية، حتى لو خفت بريقها في بعض الأحيان، وباتت كلمة "سوري" ملازمة لألفاظ أخرى مثل اللاجئ، النازح، المعارض، المهجر، المقيم، المبعد، جسّدت جميعها ملامح الشتات والوجع والانسلاخ عن أرض الوطن. غير أن تاريخ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 أعاد موضعة المفردة باستدارة نحو الداخل السوري ليحمل معنى مغايرا وفق المعطيات السياسية الجديدة والمنعطفات التاريخية التي تجسدت في سقوط نظام بشار الأسد، فأصبح السوري "العائد" هو أول فكرة تقفز على بال الجميع.

"المجلة" التقت عددا من السوريين ممن طالت إقامتهم خارج بلادهم بعد فراق امتد بالنسبة إلى بعضهم إلى عشرات السنين، ليتحدثوا عن مشاعرهم المتناقضة وعن سوريا التي يحلمون بها.

سوريا المشتهاة

نسفت ليلة الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 جميع مخططات أحمد (26 عاما) بحزم حقائبه والاغتراب للمرة الثالثة، إذ كان الشاب يتجهز للسفر إلى ألمانيا، بعدما ذاق طعم الخوف ورهاب الحبس هاربا من سوريا إلى لبنان ليقيم هناك تسع سنوات، ثم أربع سنوات أخرى في دولة الإمارات، ليقرر أخيرا تعديل وجهته النهائية. يقول لـ"المجلة": "تلقيت خبر سقوط الأسد بفرحة عارمة، كنت متيقنا من أنني لن أزور بلدي أبدا، وبدأت أتحضر للسفر في بداية 2025، لكن ما حصل غير كل شيء، سأستقر في بلدي أخيرا".

حادثة اعتقال أحمد، ابن مدينة درعا، حين كان في الرابعة عشرة من عمره إثر ظهوره في فيديو برفقة عناصر من "الجيش الحر"، كانت سببا لمغادرته البلاد، إذ أودعته والدته بعد ساعات قليلة من الإفراج عنه في أول سيارة متوجهة إلى الحدود اللبنانية خشية التحول إلى مجرد رقم في غياهب النسيان، لا سيما أن استضافته في سجن صيدنايا السيئ السمعة لم تتجاوز الستة أشهر بسبب مقايضة بين حرية الشاب ومبلغ ضخم من المال.

أمنيتي أن أزور دمشق القديمة وأسبح في بحر اللاذقية وأتجول في حمص، لا أعرف شيئا عن معالم بلادي سوى مدينة إزرع وقضبان سجن صيدنايا

أحمد

يروي الشاب: "بقيت في السجن ستة أشهر دون تعذيب جسدي بعدما رأف أحد الضباط بحالي ربما لصغر سني، لم يعرف أهلي مكاني طوال تلك الفترة، خشيت أن أصبح منسيا، بعد خروجي بساعات قليلة، وجدت نفسي في بيروت، لم أودع أبي كما يجب، ولم أشبع من حضن أمي، احتفظت بملامح أخي الذي تركته حينذاك طفلا لأعود إليه اليوم وقد بات شابا".

AP
أطفال يركبون على ظهر شاحنة في حمص، سوريا

لا يعرف أحمد من خريطة سوريا سوى مدينته درعا وجدران صيدنايا. صورته عن بلاده بقيت محصورة في هاتين البقعتين الجغرافيتين؛ الأولى غارقة في الضياء والثانية غارقة في السواد، لتصير أمنيته البسيطة اكتشاف سوريا والتعرف اليها، يقول: "أمنيتي أن أزور دمشق القديمة وأسبح في بحر اللاذقية وأتجول في حمص، لا أعرف شيئا عن معالم بلادي سوى مدينة إزرع وقضبان سجن صيدنايا، تخيلوا أنني أحفظ لبنان ودبي عن ظهر قلب، لكنني أجهل سوريا تماما".

ينظر أحمد إلى الحكومة الانتقالية بتفاؤل تبعا للوعود الحالية، إذ يخطط  لاستيراد السيارات المستعملة من أوروبا، وذلك لخبرته في هذا المجال خلال عمله في الإمارات. هذا المشروع لم يكن ليتجرأ على التفكير به في عهد الأسد لإيمانه المطلق بأن أحلام السوريين كان دائما يطيحها معول المحاصصة وتقاسم الأرزاق مناصفة، يقول: "استبشرت خيرا بالمرحلة الجديدة، منذ اليوم الأول لسقوط النظام بدأ الناس يلمسون تحسن الأوضاع المعيشية، فانخفضت الأسعار وتوفر الوقود، أعتقد أن أية حكومة دون الأسد ستكون أفضل بكثير".

 ANWAR AMRO - AFP
شابة تحمل علم سوريا خلال احتفالات رأس السنة في ساحة الأمويين بدمشق

لا أصدّق

استغرق جابر (35 عاما) أسبوعا كاملا لتصديق خبر سقوط الأسد، وذلك لفرط ممارسات الإلصاق القهري بفكرة "الأسد إلى الأبد" في العقل الجمعي السوري، كحالة من الاستلاب الفكري، وتعزيز "الأبد" كمفهوم غير قابل للتعديل أو الاستبدال. يقول الشاب من مدينة حمص لـ"المجلة": "آلمتني فكرة عدم تصديق سقوط النظام، فذلك يدل على مدى تحكمه بعقولنا، احتجت أياما للتأكد من أنه سقط حقا ولن يعود، ظننت في البداية أنها لعبة تمارسها الدول الكبرى".

آلمتني فكرة عدم تصديق سقوط النظام، فذلك يدل على مدى تحكمه بعقولنا، احتجت أياما للتأكد من أنه سقط حقا ولن يعود

جابر

أول ما يثير تفاؤل جابر الذي يعيش خارج سوريا منذ قرابة 10 سنوات، هو انهيار منظومة "عبادة  الشخصية" وربط البلد باسم فرد بوصفه الممثل اليتيم لهويتها الوطنية ومصيرها مرهون بشخصه، يعلق: "التحرر من عقدة القائد المخلص هو ما يدعو إلى التفاؤل في المرحلة الجديدة، الإيمان بالوطن لا بالشخص هو ما سيجعل سوريا تنهض دون تكرار الأخطاء السابقة، المهم أن لا يرفق الوطن باسم زعيم أو سياسي أو رئيس، تغيير الذهنية هو الأهم وليس تغيير الأشخاص".

AAREF WATAD - AFP
أشخاص يرفعون علم الاستقلال السوري عند معبر كسب

ينوي الشاب العودة إلى سوريا في غضون ستة أشهر ريثما تتبلور الصورة النهائية للأحداث ويتضح مسار البلاد، يعقب: "الأشهر المقبلة حاسمة لقرار عودتي، سأكون أول العائدين إذا تحسنت الأوضاع الاقتصادية وأحوال المعيشة وانفتاح البلاد، سئمت الغربة والوحشة".

ينتظر جابر العودة بفارغ الصبر ليؤسس مشروعه الخاص في تجارة الإلكترونيات دون أن تنكوي جيبه بنيران الضرائب والأتاوات، يقول: "إذا انخفضت الضرائب فسينتعش الاقتصاد السوري، الجميع يحلم بأن يكون لديه عمله الخاص، كما أن هذه الخطوة من شأنها استقطاب المغتربين للعودة إلى سوريا والاستثمار في بلادهم بعد سنوات طويلة من الغربة".

ليلة تحطيم القضبان

أصيب أنس (28 عاما) بالذهول لدى سماعه خبر سقوط الأسد، فالمحاولات الفاشلة لإسقاط النظام التي امتدت طوال سنوات الحرب الطويلة كانت كفيلة بإفقاده الأمل من انتهاء عهده، ففكرة أبدية النظام ظلت جاثمة على صدره حتى حصول العكس.

Sameer Al-DOUMY - AFP
فتى سوري يرفع علم سوريا خلال احتفالات بإسقاط الأسد في حمص

يتحدث الشاب لـ"المجلة" مستعيدا ذكريات مدينته دير الزور المدمرة، ويصف مشاعره في ليلة "تحطيم القضبان" حسب وصفه: "كانت فرحة كبيرة ممزوجة بغصة عدم الإفراج عن جميع المعتقلين، كنت أنتظر سماع خبر تحرير أصدقائي من سجن صيدنايا، لكن لا أثر لهم لغاية اللحظة، غادرت مدينتي بسبب ظلمين، الأول 'داعش' والثاني الأسد، توقعت أن يظل متمسكا بثلاث محافظات سورية على الأقل، لم يخطر ببالي أبدا أنه سيهرب، ظننت أن هذه العائلة ستظل تحكمنا إلى أبد الآبدين".

أحلم بحرية النقد ورفع جودة التعليم والصحة والتعددية السياسية وفتح المجال أمام عمل الأحزاب

أنس

يفكر أنس بالعودة إلى سوريا وذلك بعد ثماني سنوات من الإقامة في تركيا، لكن توقيت العودة مرهون بالأوضاع التي ستؤول إليها البلاد، وعن رأيه في الحكومة الجديدة، يقول: "في الوقت الحالي تقوم الحكومة بتسيير أعمال المؤسسات، الأهم هو ضبط استقرار البلاد ومنع الفوضى".

يحلم الشاب الذي درس السينما بالمشاركة في العمل السياسي المستقبلي لسوريا، كالانتساب إلى حزب سياسي ذي رؤية واضحة، والكتابة عن أداء الحكومات دون الاختباء وراء الأسماء المستعارة، يقول: "أحلم  بحرية النقد ورفع جودة التعليم والصحة والتعددية السياسية وفتح المجال أمام عمل الأحزاب".

AAREF WATAD - AFP
أشخاص يرفعون شارات النصر أثناء عبورهم إلى سوريا من تركيا عبر معبر كسب

"خطّه حلو"

كثيرا ما تداول السوريون أيام حكم البعث وآل الأسد شيفرة "خطه حلو"، في إشارة مبطنة إلى موهبة كتابة التقارير التي اعتاد النظام السوري رعايتها وتنميتها بين أوساط المخبرين والتي راح ضحيتها العديد من الأبرياء تبعا لأحقاد شخصية وضغائن مبيتة. تعلق شيرين (40 عاما) على سقوط الأسد بالقول: "لا ضحايا للتقارير بعد الآن"، إذ تأمل قمع هذه "الموهبة" التي كانت سببا في مغادرتها سوريا لمدة عشر سنوات، تقول: "كنت أجدد جواز سفري لكي أنضم الى زوجي في الكويت، لاكتشف فجأة أنني متهمة بتزوير الجواز وفق تقرير كيدي لم أعرف مصدره آنذاك، فاضطررت على إثره للسفر إلى لبنان ثم السويد".

أريد لطفلي أن ينام بأمان دون أن أخشى عليه الاستيقاظ في صباح اليوم التالي ويسألني أين اختفى أبي

شيرين

تفكر شيرين بالاستقرار في سوريا بعد إجراء انتخابات رئاسية تأمل بأن تكون نزيهة وليست محسومة النتائج كما كان يحصل في عهد الرئيس المخلوع: "أتوق للعودة إلى سوريا ورؤية عائلتي، أريد لطفلي أن ينام بأمان دون أن أخشى عليه الاستيقاظ في صباح اليوم التالي ويسألني أين اختفى أبي".

AAREF WATAD - AFP
أشخاص يزورون مركز الهجرة والجوازات أثناء عبورهم إلى سوريا عبر معبر كسب

فكّ الارتباط

مع سقوط الأسد تختبر الطائفة العلوية في سوريا للمرة الأولى حقيقة فكرة غرسها النظام السوري في صميم أتباعه على مدار عقود حاول فيها الظهور بمظهر الحامي الوحيد وطوق النجاة لهم، وأنها بغيابه ستتعرض للإبادة والتنكيل، فكانت السلوكيات التراكمية تهدف إلى عدم فك الارتباط بين مصير الأسد ومصير طائفته، مما خلق إحساسا بالرعب والخوف من المجهول، رغم معارضة عدد لا بأس منهم لحكمه كحال جعفر (30 عاما) الذي شعر بالتوجس والترقب عند سماعه خبر سقوط الأسد، يقول لـ"المجلة": "لا أنكر شعوري بالقلق والخوف النابعين من المصير المجهول، لقد تربينا على فكرة أنه بهلاك الأسد تهلك الطائفة، لكن في الوقت ذاته انتابني شعور بالفضول إزاء المرحلة المقبلة، رغبة بعهد جديد وتغيير شامل".

لا أنكر شعوري بالقلق والخوف النابعين من المصير المجهول، لقد تربينا على فكرة أنه بهلاك الأسد تهلك الطائفة

جعفر

يرى الشاب، رغم أنه من المبكر التنبوء بمستقبل البلاد، أن بوادر التحسن بدأت تظهر على الصعيد المعيشي والتطمينات بعدم التعرض للأقليات الطائفية، وتتجسد أحلامه بعد زوال كابوس الخدمة الإلزامية بالعودة إلى مسقط رأسه في مدينة اللاذقية بعدما جمع مبلغا من المال خلال سنوات عمله في أربيل وفتح مطعمه الخاص دون أن يتعرض للاستفزازات الطائفية. يختم حديثه: "ثمة شعور بالخفة نتيجة زوال شبح الخدمة العسكرية الذي كان سببا أساسيا لابتعادي عن عائلتي، أتمنى أن تشهد البلاد انفتاحا اقتصاديا على العالم وأن يعود السوريون إلى ديارهم".

AFP
أشخاص يقفون بجوار لوحة "أحب حماة"

أما عمر (29 عاما) فكان يستعد في العام الجديد لدفع مبلغ 8000 دولار كبدل للخدمة الإلزامية، غير أن سقوط الأسد وإلغاء الجيش أعفاه من دفع المال الذي يعتبره الشاب طريقة ابتدعها النظام السابق لسرقة أموال الشعب بصورة "شرعية"، يقول: "كانت سعادتي مضاعفة عند سماع خبر سقوط الأسد، الأول لأن البلاد ستغلق عهدا من الظلم والتعسف حان أوان زواله، والثاني شخصي لأنني لن أضطر إلى دفع مبلغ كبير جمعته بشق الأنفس طوال سنوات غربتي".

يرى الشاب الذي ينحدر من مدينة السلمية أن قرار إلغاء الخدمة العسكرية هو قرار منطقي، لا سيما بعد حالة الاستنزاف العسكري للبلاد على مدار 14 عاما، يقول: "تحتاج البلاد إلى انفتاح اقتصادي واستثمارات عربية وأجنبية، بالنسبة إلي سأعود إلى سوريا وسأوظف خبرتي في الاستثمارات العقارية لإعادة الإعمار في بلدي".

font change

مقالات ذات صلة