جندوبة المنطقة التونسية المهمّشة بطلة فيلم بوليسي داكن

"الألماني" في مواجهة "لينين" في باكورة لسعد الدخيلي الروائية الطويلة

مشهد من فيلم "لا زون"

جندوبة المنطقة التونسية المهمّشة بطلة فيلم بوليسي داكن

في وسعك أن تلاعب كلبا في الطريق بعد منتصف الليل. تخبره عن أحلامك، عن رغبتك بأن تطير وتحلق، تمسده وترقص معه الفالس، ربما تكون رقصتك الأخيرة. أنت التائه في جندوبة، ذو القلب الودود الذي قست عليه الأيام، وطحنته شوارع المدينة الفقيرة، حيث كل امرئ فيها يحاول تدبير عيشه، ورسم كيانه، وحفظ كرامته، معرّض لأن يقطع الخط الفاصل بين الخير والشر، حين لا تصبح الخطوط إلا نظريات واهية، تتلاشى تحت وطأة القسوة.

ترقص مع كلب، وتموت في النهاية بطلقة رصاص في عملية مدبرة من رجال المافيا. انه قانون الغابة، الأوسع والأشرس من المناطق الصغيرة التي تظنها آمنة وبعيدة، ونارها مشتعلة على الدوام، لكي تكون دافئة، مرتعا للقبل مع الحبيب، واللعب مع الصديق، والحلم فوق الجميع.

تقع هذه المشهدية القاسية في صلب العالم الثري والمتمكن للمخرج التونسي لسعد الدخيلي في فيلمه الأحدث "لا زون" (المنطقة، او ربما البقعة بالترجمة العربية) الذي عرض في الدورة الأخيرة من "أيام قرطاج السينمائية".

شخصيات ثلاثية الأبعاد

يصور الفيلم حياة 5 شخصيات تعيش وتصارع في مدينة جندوبة في الشمال الغربي التونسي، التي تعرف معدلات تنمية متدنية وبطالة عالية وتعتبر مركز استقطاب لمحيطها بوصفها مدينة خدمات في مركز ولاية. لكن هذا لا يجردها من شراسة الليل الذي تسرح فيه كلاب ضالة، يصورها المخرج بتكرار في شريط فيلمه، في إسقاط مجازي يجسد توهان البشر أيضا وبحثهم عن أمل ما.

نسيج واسع من المشاعر يحبكها الدخيلي مع أحداث قصته، في عمقها التضامن بين الفئات المهمشة والمسحوقة

ثمة "الألماني"، كما يلقب بطل الفيلم (الممثل بهرام علوي) الخارج من السجن حديثا، لكي يعاود سيرة خرق القانون، فيشترك في تنظيم عمليات تهريب مشروبات روحية وعملات، وحين يحب كثيرا أو يغضب كثيرا، نجده يرطن ببضع كلمات ألمانية حفظها من فترة لجوئه الى تلك البلاد قبل ان يعاد ترحيله منها، لسوء سلوكه، على الأرجح.

ملصق فيلم "لا زون"

ثمة حبيبته، الممرضة نور (الممثلة أمل الجلالي) في المستشفى الحكومي في المدينة، تعاني من علاقة مركبة مع والدها المقعد الصامت، الذي تعتني به، ولا يبادلها مشاعر الامتنان، بل يفضل تسريب أوجاعه وحنانه الى قطة، يكومها في حضنه وينظر باكيا وعاجزا الى السماء المكفهرة. ترتبط الممرضة بمشاعر حب مع "الألماني" وتشكل حضنه الآمن، من دون أن تنجو من تقلبات ذهانية تجعلها راغبة في الانتحار والتخلص من ابيها. قتل الأب الذي يشكل سلطة قمع على وجدانها، حتى وهو يعيش عجزه. في "الألماني"، تجد ربما كل ما حرمت منه في صورة الاب: الفتوة، الشجاعة، التعبير.

على النقيض من الفطرة الشجاعة، وإن حُوّرت إلى عالم الشر، والإقدام الجسور الذي لـ"الألماني"، يظهر البطل النقيض مجسدا بشخصية الشرطي الملقب "لينين" (الممثل علاء الدين شويرف)، النحيل الضعيف، الذي يعاني من تنمر تاريخي من أم مبتزة عاطفيا ومشتتة لإمكانات ولدها، وأيضا من رفض امرأة أخرى له أحبها لكنها وجدته "قليلا عليها"، فيحاول التعويض عن هذا الضغط باللجوء إلى المجال الأمني، ليكون شرطيا يلاحق الأشرار في المدينة، من تجار المخدرات والممنوعات، ويجد عزاء عن ضعفه بسلطة الشارة الأمنية.

مواجهة

تضع مجريات القصة الشرطي في مواجهة مع "الألماني" حين تنشل الممرضة مسدسه في حافلة، ضمن خطتها التي لا تتحقق، فيمضي الشرطي الساعات التالية العويصة في محاولة البحث عن الراقص مع الكلاب لكي يستعيد "شرف مهنته".

مشهد من فيلم "لا زون"

يجتمع العاشقان في مرأب مهجور في ضاحية من ضواحي جندوبة، حيث يعيش صديق "الألماني"، العطوف الذي لفظه المجتمع، بعدما سجن وعذب واعتدي على شرفه داخل السجن. هناك يقطع لحم الماشية وينزف وجدانه دماء لا تقل حرارة عن تلك السائلة من مقصبه في الهواء الطلق. هناك يتبادل الأغاني والنكات والأحلام مع العاشقين، في خلفية نار مشتعلة، ونظرات كلب حراسة. سيظل أمينا على الصداقة ويدفع ثمنا غاليا لها.

تحتدم الأحداث، ويشي "الألماني" بزعيم عصابة تربطه به علاقة متأزمة، فينتقم أزلامه لرئيسهم، بحبكة وفية لسينما "فيلم نوار" (فيلم الجريمة الداكن) توحد بين مصير الشرطي و"الشرير" في نهاية واحدة. لا خير ولا شر مطلقا، وها هما، متصارعان منذ بداية احداث الفيلم، ومتحدان في مصير واحد، تحت مظلة شر أكبر، منفلت وقاس، لا خلفية ولا محرك له غير الجشع، ولا بذرة عطف او كينونة حلم في داخله، وبالتأكيد هو شر لا يرقص الفالس مع الكلاب.

يؤكد الدخيلي مرة جديدة التزامه قضايا الفضاء الجغرافي الأضيق الذي خرج منه إلى العالم

على غرار الشخصيات أعلاه، يبرع المخرج وصناع الفيلم، في تصوير أبعاد ثلاثية نفسية لكل شخصيات الفيلم، حتى الثانوية منها، فيجعلنا، نحن المشاهدين الذين لم يرمش لنا جفن في متابعة الشريط الآسر، مقتنعين ومعايشين ومصدقين ومتفاعلين مع أحاسيس تلك الشخصيات ومبرراتها.

مشهد من فيلم "لا زون"

نسيج واسع من المشاعر يحبكها الدخيلي مع أحداث قصته، في عمقها التضامن بين الفئات المهمشة والمسحوقة، حتى لو انجرّت إلى افعال غير قانونية، تحاول من خلالها ضمان بقائها، في ظل غياب العدالة الاجتماعية. وأيضا مقاومة السلطة، التي تبدأ من البيت، في صورة أم أو أب، ولا تتوقف عند "فتوات" الشوارع والمقاهي، وتمر بمديري المؤسسات الوظيفية، كما في العلاقة المتوترة بين الممرضة ومدير المستشفى وإحساسها بفقدان الأمان من دون أن يجعلها ذلك تفرط بالتزامها ساعات العمل ودوامات الليل.

المخرج التونسي لسعد الدخيلي

ظلال ونور

لعل الإنجاز الأهم، في فيلم "لا زون"، هو الشخصية السادسة: شخصية المدينة في حد ذاتها.

جندوبة التي تذكر في تلفزة وإذاعات وأخبار تونس مئات المرات يوميا في أنباء الاقتصاد والماء والزراعة والأسواق واختفاء البطاطا وتعليق بعض رحلات القطار التاريخي الشهير الذي يصل إلى العاصمة تونس. ها نحن إزاء محاولة ناجحة ومتمكنة لتقديمها خلفية لعلاقات إنسانية شائكة وواسعة الطيف. ينجح الدخيلي، في تجربته الروائية الطويلة الأولى في السينما، بكاميرا محمولة لاهثة، ولقطات من أعلى للمدينة (كما من شرفة المستشفى الذي تعمل فيه الممرضة) مع نبض بارد يميل إلى الرمادية والقتامة لصورته، ويليق بأفلام المطاردات والجريمة، مع الاعتماد في مشاهد أخرى على أنوار طبيعية تأتي من نار مشتعلة أو أعمدة إنارة في شوارع الليل، لتلقي بالدفء والمشاعر المكنونة للشخصيات.

ومع "لا زون" يؤكد الدخيلي مرة جديدة التزامه قضايا الفضاء الجغرافي الأضيق الذي خرج منه إلى العالم، في تجربة دراسية ومهنية امتدت بين فرنسا وتونس. إذ أنه، على مدى سني عمله، لم يلبث يعود إلى جندوبة، إما بمقاربات تسجيلية كما في تسجيلاته المبكرة مع باعة شوارع وموظفين ومهنيين عن وقائع "ثورة تونس" في تلك الولاية، أو في نشاطه المستمر في التدريب وإعطاء ورش العمل لصناع الأفلام الشباب هناك. جهود تضعه مع مخرجين تونسيين آخرين، خرجوا من المنطقة ذاتها، مثل رضا البرصاوي وبلال العثيمني، في فئة صناع الافلام الذين ينتصرون للفئات المهمشة، والمراكز غير المركزية، والمناطق الحدودية، حيث الجميع يصارع النداءات الخفية لقطع الحدود.

font change

مقالات ذات صلة