دفاعا عن القصيدة

هنالك من يروجون عندنا للكتابة بلا شكل

دفاعا عن القصيدة

لقد باتت الكتابة الشعرية العربية، في معظمها، تتنكر للقصيدة! وما هذا التنكر في رأيي إلا نوع من القصور أو التراخي أو التراجع، وإن كان بعض الكتاب يدعون فيه خيارا أو اتجاها فنيا. وكأن القصيدة، في نظر هؤلاء المدعين، لا تصلح (أو لم تَعد تصلح) حضنا للشعر.

ولنتفق، في بداية حديثنا هذا، على أن المقصود بالقصيدة هو النظام المحكَم في الكتابة الشعرية، الذي يقوم على عناصر عديدة، منها العنصر اللغوي والعنصر البلاغي والعنصر الموسيقي والعنصر البنائي... وغيرها. وهو نظام خاص بكل قصيدة. أي لكل قصيدة نظامها.

كما تنبغي الإشارة إلى أن الشعر له مفاهيم كثيرة، وأنه- في مفهومه الواسع- ليس محدودا بالقصائد، بل يمكنه أن يوجد في ما لا حدود له، وخصوصا في الفنون على أنواعها، كالرسم والموسيقى والمسرح... إلخ.

لهذا، ينبغي التفريق بين الشعر والكتابة الشعرية. وقد يصح القول إن القصيدة هي البناء أو الشكل الذي تنشئه الكتابة الشعرية، احتضانا للشعر أو تعبيرا عنه. أليس هذا ما نقصده في قولنا: القصيدة قطعة شعرية ؟

إذن، الرغبة عن القصيدة هي رغبة عن النظام (أو البناء أو الشكل). أو لنقُلْ هي رغبة في شعر بلا نظام (أو بلا بناء أو بلا شكل).

وإذا كان الشعر موجودا في كل شيء، ويمكنه أن يوجد في داخل القصائد أو في خارجها، فما الذي يفرق الكتابة الشعرية عن غيرها من الفنون؟ أو بالأحرى: لماذا الكتابة الشعرية؟

وقبل عصور الكتابة، ألم تكن (الشفوية) في التعبير الشعري، خصوصا في تراثنا العربي، فنا في النظم، أي في تأليف القصائد؟

نعود الآن إلى ملاحظتنا التي بدأنا بها، والمتعلقة بالتنكر للقصيدة في معظم الكتابات الشعرية العربية في أيامنا هذه. مع الإشارة إلى أن هذا التنكر ليس كاسحا، وإنما هنالك قلة من الشعراء لا يزالون يدأبون على كتابة القصيدة، محتفين بها نظاما للشعر. وفي كلامنا هذا لا نفرق بين كتاب الشعر الموزون وكتاب الشعر غير الموزون. فالقصيدة يمكنها أن تكون موزونة، ويمكنها أيضا أن تكون بلا وزن.

هنالك من يروجون عندنا للكتابة بلا شكل، أي لغياب القصيدة أو غروبها. كأنهم لم يختاروا سوى السهولة أو الاستسهال. كأنهم رموا إلى تجنب ما لا قِبَلَ لهم به. كأنهم عبروا، عن عدائهم لِما يجهلون

لقد ظلت القصائد غاية للكتابات الشعرية في الكثير من الآداب الغربية، وخصوصا في الأدب الفرنسي، وبالأخص منذ بودلير الذي عُد في بعض ما كتبه بداية لقصيدة النثر. لقد شاعت التسمية هذه: "قصيدة النثر"... فجرى التخلي عن الوزن، وظل التمسك بالقصيدة.

إذن، لا أفرق في كلامي على القصيدة والتنكر لها بين شعراء الوزن وشعراء النثر. بكلمة أخرى، لا أقول إن الوزن هو عنصر ضروري وحاسم للقصيدة، وبدونه لا تكون القطعة الشعرية قصيدة. لا أقول ذلك وإن كنت- شخصيا- أكتب القصيدة الموزونة، وأتفنن في استعمال الوزن تعبيرا عن رغبتي في البناء، أو في الشكل.

إن الذين يتنكرون للقصيدة هم- في نظري- من لا يملكون الإمكانات المطلوبة لبنائها. ومن يتقصى الكتابات الشعرية العربية في العقود القليلة الماضية يمكنه أن يتثبت من ذلك، يمكنه أن يلاحظ الضعف في معظم هذه الكتابات، ليس من النواحي المتعلقة بموسيقى الشعر فقط، وإنما أيضا من النواحي المتعلقة باللغة والبلاغة... وغيرهما.

نظام القصيدة ليس تقييدا للشعر. النظام هو شخصية الكتابة الشعرية. ومن المؤسف أن معظم الكتابات الشعرية العربية باتت اليومَ بلا شخصية. تكاد تغيب القصائد اليوم. وربما يصح القول إن ما يطغى اليومَ في ساحتنا الشعرية هو كتابة بلا شكل.

وهنالك من يروجون عندنا للكتابة بلا شكل، أي لغياب القصيدة أو غروبها. كأنهم لم يختاروا سوى السهولة أو الاستسهال. كأنهم رموْا إلى تجنب ما لا قِبَلَ لهم به. كأنهم عبروا، في ترويجاتهم تلك، عن عدائهم لِما يجهلون.

هل تغيب القصيدة ويبقى الشعر؟ ربما يكون هذا جائزا إذا نظرنا إلى الشعر في مفهومه الواسع، الذي يتعدى اللغة. أما إذا نظرنا إليه كفن لغوي، أين نجدُه؟ ألا نجده في القصائد؟ وعندما نقول "الأعمال الشعرية"، ألا نقصد القصائد التي تنطوي كل واحدة منها على نظامها الخاص؟

إن القصيدة هي حضور الشعر وقوته. وما الترويج لغيابها أو غروبها إلا مظهر من مظاهر الأزمة الثقافية التي نعيشها.

font change
مقالات ذات صلة