من الصياغة إلى التطبيق... السياسة الأميركية نحو سوريا

ثمة تحولات سريعة في واشنطن بخصوص كيفية التعاطي مع دمشق

أ ف ب
أ ف ب
مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط بربرا ليف اثناء مشاركتها في "منتدى الدوحة للحوار" في السادس من ديسمبر

من الصياغة إلى التطبيق... السياسة الأميركية نحو سوريا

كانت باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، في زيارة للعراق يومي 11 و12 ديسمبر/كانون الأول، أي بعد أربعة أيام من الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، للتداول مع مسؤولين عراقيين في "مجموعة قضايا ثنائية وفرص الأمن الإقليمي وتحدياته" بحسب البيان الرسمي الأميركي، قبل أن تسافر من بغداد إلى أنقرة لتحضر مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، اجتماعات مع مسؤولين أتراك عن الشأن السوري، لتعود بعدها إلى واشنطن. خلال أيام قليلة قررت الإدارة إرسالها إلى الشرق الأوسط مرة أخرى، هذه المرة في زيارة مهمة إلى دمشق، لتلتقي بزعيم "هيئة تحرير الشام" والرئيس الفعلي لسوريا، أحمد الشرع، في زيارة أنهت مقاطعة رسمية أميركية لسوريا دامت نحو 13 عاما.

تؤشر حقيقةُ أن شاغلة أعلى منصب في الحكومة الأميركية يختص بشؤون المنطقة تعود إليها في مهمة جديدة بعد أيام من مغادرتها لها، إلى أن ثمة تحولات سريعة في واشنطن بخصوص كيفية التعاطي مع دمشق من دون الأسد.

نتجت هذه التحولات عن المفاجأة السورية التي صُنعت في خلال 11 يوما بين السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، والثامن من ديسمبر/كانون الأول، مدة شن "هيئة تحرير الشام" هجومها العسكري الذي أطاح بنظام الأسد. دشنت هذه المفاجأة سيناريوهات مختلفة لـ"سوريا الجديدة" لا يمكن للولايات المتحدة أن تغيب عنها لأسباب جيوسياسية مفهومة تماما. لم تتوقع إدارة الرئيس جو بايدن في أسابيعها الأخيرة، هذه المفاجأة ولم تُعد نفسها لها كما لم تتطلع لها إدارة دونالد ترمب المقبلة. بخلاف تحليلات سائدة كثيرة، بينها نظريات مؤامرة معتادة واعلانات سياسية واثقة، لم يتوقع احدٌ هذا السقوط السريع والمدوي لنظام شمولي اعتمد، في بقائه لأكثر من نصف قرن، على توظيف قمعي ناجح لبراعة الأمن وولاء العسكر. حتى تركيا، المستفيد الأكبر من هذه الاطاحة، بل على الاكثر حتى ابو محمد الجولاني نفسه الذي قاد هجوم الإطاحة، لم يتوقعا ان ينتهي النظام بسبب هذا الهجوم.

التفكك المفاجئ، السريع والواسع، لقوات النظام هو الذي صنع مشهد النهاية ونشوة الانتصار، او خيبة الانهيار للطرف الاخر، والاعلانات التالية المختلفة بخصوص حقيقة ما حدث، ومعها رسم السيناريوهات المختلفة بما تتضمنه تسابق إقليمي ودولي على معنى "سوريا الجديدة" وعلاقتها بالعالم الخارجي.

تضمنت بعض القضايا التي أثارتها باربرا ليف جوانب أمنية ذات طبيعة عاجلة تهم الولايات المتحدة كاستمرار قتال أميركا لتنظيم "داعش" في شمال شرقي سوريا بالتعاون مع "قوات سوريا الديمقراطية"

استوعبت إدارة بايدن، المشغولة بالتوصل لوقف إطلاق نار في غزة كجزء من تركتها في اسابيعها الأخيرة في البيت الأبيض، هذه المفاجأة السورية بسرعة وفي خلال أيام مكتظة بالأحداث طورت استراتيجية عامة للتعامل مع سوريا وتواصلت مع إدارة ترمب المقبلة بخصوصها لضمان تمثيل هذه الاستراتيجية لفهم مشترك بين الإدارتين وأن الإدارة الجمهورية المقبلة ستواصل البناء عليها ولا تنقضها. لا تحتل سوريا موضعا هاما في السياسة الشرق-أوسطية لهذه الإدارة الجديدة، ولذلك لم يبدُ ترمب سعيدا عندما وصف إسقاط الأسد، وعلى نحو مغلوط، بأنه "سيطرة غير ودية من جانب تركيا" على سوريا. يشي هذا بأن إدارة الرجل ستقنع ببذل أقل جهد ممكن لتنفيذ استراتيجية تصوغها الإدارة السابقة لها ما دامت هذه الاستراتيجية تتسق مع أهداف ترمب في المنطقة الساعية للتركيز على مواجهة إيران وصناعة تقارب جاد بين إسرائيل والعالم العربي، خصوصا دول الخليج، عبر استئناف "الاتفاقات الإبراهيمية".

تستند هذه الاستراتيجية، كما مَثلتها ليف في لقائها مع الشرع، على خليط متشابك من الإغراءات والضغوط لدفع الأشياء في سوريا نحو نظام حكم جديد، تمثيلي وتعددي، بعيدا عن احتكار أيديولوجي ومؤسساتي لحركات إسلاموية سنية لسوريا المقبلة، ونظام منشغل داخليا بصناعة سوريا مستقرة سياسيا ومزدهرة اقتصاديا، من دون الانضواء في مشاريع خارجية أو إقليمية كبرى تدور حول الصراع والمواجهة. يُقلق هذا الاحتكار الحالي أطرافا كثيرة، عربية وغربية، في مقدمتها الولايات المتحدة التي لا تريد رؤية نموذج إسلاموي في الحكم ينتشر في المنطقة ويوقظ آمالا راديكالية دينية بعد أن تراجعت هذه الآمال كثيرا في السنوات الأخيرة. يغذي هذا القلق استثمارا أميركيا حذرا في "هيئة تحرير الشام" الحركة الإسلاموية الأقوى التي تتمتع هذه الأيام بشهر عسل شعبي واسع ومفهوم، بوصفها "بطل التحرير" الذي يتصاعد زخمه المعنوي من خلال الحضور الكاريزمي لزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقا)، وذلك لدفعها بعيدا عن تبني نسخة سورية سنية لهذه الراديكالية الدينية. تكشف حقيقة حدوث زيارة ليف على هذا النحو السريع في نهاية عمر الإدارة الحالية والعلنية الرسمية للزيارة ولقاء المسؤولة الأميركية بالشرع العجلة الأميركية لوضع الاستراتيجية موضع التنفيذ عبر استخدام الأدوات القوية المتاحة للولايات المتحدة إزاء سوريا.

تضمنت بعض القضايا التي أثارتها ليف في لقائها جوانب أمنية ذات طبيعة عاجلة تهم الولايات المتحدة كاستمرار قتال أميركا لتنظيم "داعش" في شمال شرقي سوريا بالتعاون مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وتأطير هذا القتال رسميا في سياق السلطة الجديدة في سوريا. في عهد الأسد، كانت أميركا تقاتل في سوريا دون استئذان الحكومة السورية التي كانت تطلق على الوجود العسكري الأميركي تسمية الاحتلال الأجنبي، فيما كانت أميركا تدافع عن وجودها العسكري هناك تحت مبررات دولية، عابرة للسلطة المحلية السورية، على أساس قرارات اتخذها مجلس الأمن الدولي بخصوص ضرورة مقاتلة الإرهاب في سوريا كجزء من الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وينبغي أن تُترجم أي تفاهمات أميركية-سورية متوقعة بهذا الصدد عبر أشياء ملموسة، الأبرز بينها كيفية تدوير القوات الأميركية في سوريا (يجري التبديل عموما مرة كل عشرة أشهر).

بسبب غياب الغطاء والتعاون الرسمي السوري مع أميركا في عهد الأسد في هذا الملف، كان الجيش الأميركي يُضطر لتبديل قواته في شمال الشرق السوري ويمدها بالكثير مما تحتاجه بالطائرات من قواعده المختلفة في المنطقة سواء في تركيا أو الخليج، وهي عملية مكلفة ماديا ومرهقة تقنيا (أو عبر الأراضي العراقية كما حدث في العام الماضي لأول مرة).

رويترز
زعيم "هيئة تحرير الشام" احمد الشرع متوسط وزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو ونظيرته الالمانية أنالينا بيربوك في دمشق في 3 ديسمبر

وإذا تضمن إجراء التبديل المقبل، المتوقع في صيف هذا العام، تعاونا مباشرا مع "هيئة تحرير الشام" بوصفها سلطة الأمر الواقع المعترف بها دوليا على نحو غير رسمي، واستخدام منشآت أو تسهيلات سورية تحت إدارة هذه السلطة لجلب القوات الأميركية الجديدة وإخراج القديمة، فهذا يعني أن تعاونا جديا قد بدأ بين الطرفين، ينعكس إيجابا أيضا على العلاقة مع "قوات سوريا الديمقراطية" المتلهفة لتأطير رسمي سوري لتحالفها العسكري مع الولايات المتحدة يقوي موقفها إزاء تركيا. وعلى الأكثر سيسبق مثل هذا التعاون العسكري، إزالة التصنيف الإرهابي عن "الهيئة"، أو نهاية العمل بهذا التصنيف واقعيا عبر إلغاء "الهيئة" وتشكيل حركة سياسية جديدة لن يشملها التصنيف الأميركي. 

حتى الآن يتحاشى الشرع- ككل الساسة الإسلاميين تقريبا- استخدام مصطلح الديمقراطية في خطابه، بل سبق له مهاجمتها بوصفها ابتداعا غربيا سيئا

وبموازاة هذا التعاون الأمني الذي يستند على تاريخ سابق من تعاون استخباري غير معلن بين الطرفين ضد تنظيم "داعش"، هناك التعاون السياسي الأهم والأوسع تأثيرا ويتعلق جوهره بتأهيل أميركا للنظام السياسي السوري الجديد ليكون حليفا حقيقيا للغرب عبر دعمه سياسيا ورفع العقوبات الأميركية الاقتصادية عنه ("عقوبات قيصر" التي فرضها الكونغرس في 2019) مترافقا أو منسقا مع رفع للعقوبات الأوروبية ضد سوريا. هذا التأهيل الغربي مشروط بالتزام "هيئة تحرير الشام" بخارطة طريق سياسية تؤدي إلى إنشاء نظام سياسي تمثيلي، تعددي وتداولي، وليس إسلاميا بنسخة إخوانية أو سلفية أو خليطا من الاثنتين، نظام مغلق ينتهي بأن يكون جزءا من معسكر مناهضة الغرب في المنطقة بيافطة إسلامية، كما كان نظام الأسد تحت عنوان القومية العربية بنسختها البعثية. 

بلينكن وإعلان الاستراتيجية الأميركية نحو سوريا

في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول الفائت، بعد أربعة أيام من سقوط نظام الأسد، وصل وزير الخارجية الأميركي بلينكن للعاصمة الأردنية، عمان، في بداية جولة إقليمية له للتعاطي مع الحدث المزلزل في دمشق. عَبرَ الرجل عن هذا الاستعداد الأميركي للتأهيل السوري، باستخدام اللغة الدبلوماسية المهذبة المعتادة في هذه السياقات الحساسة عندما تحدث عن التنسيق الأميركي المتواصل مع الشركاء الإقليميين لمساعدة سوريا "الجديدة": "نحن هنا، عدنا للمنطقة في وقت يحمل وعدا حقيقيا، وخَطَرا أيضا بالنسبة لسوريا وجيرانها. نُركز عملَنا هنا على تنسيق الجهود على امتداد المنطقة لدعم الشعب السوري وهو يمر بعملية انتقالية بعيدا من الحكم الديكتاتوري المتوحش للأسد". من افتراض هذا التحول الانتقالي الذي أشارت له أيضا تصريحات مبكرة للشرع في إطار عام شحيح بالتفاصيل على نحو متوقع ومفهوم حينها، شَرح بلينكن بعض تفاصيل هذا التحول التي غابت في كلمات الشرع: "أعتقد أنه من أجل النجاح والخروج من الماضي الذي هيمن عليه الأسد، فإنه لا بد لأي حكومة انتقالية من الالتزام بمبادئ أساسية محددة، بينها أن تكون هذه الحكومة شاملة، تضم كل الجماعات السورية، وأن لا تكون، طائفية، ذات لون ديني محدد. ينبغي أن ترسخ هذه الحكومة وأن تحمي حقوق كل السوريين، بينهم الأقليات والنساء".

 اي بي ايه
الوفد الدبلوماسي الاميركي برئاسة مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط بربرا ليف، يغادر فندقا في دمشق في 20 ديسمبر

تشير كلمات بلينكن هذه إلى الرغبة الأميركية بخصوص التركيبة الداخلية والأيديولوجية لأى حكومة سورية انتقالية: حكومة ديمقراطية تعكس التنوع السوري. لحد الآن يتحاشى الشرع- ككل الساسة الإسلاميين تقريبا- استخدام مصطلح الديمقراطية في خطابه، بل سبق له مهاجمتها بوصفها ابتداعا غربيا سيئا. ليس مهماً أن يواصل الرجل تحاشي الإشارة الصريحة للديمقراطية، ما دامت الحكومة السورية الانتقالية (التي يُفترض أن تتشكل في مارس/آذار المقبل بعد نهاية حياة حكومة تصريف الأعمال الحالية التي تهيمن عليها "هيئة تحرير الشام") تعكس تمثيلا سورياً واسعا ولا تسعى لتقويض حرية التعبير تحت الحجج والذرائع المألوفة شرق أوسطياً من خصوصية ثقافية وتقاليد محلية وعقائد دينية. 

يُفترض أن الشرع يُدرك أهداف الاستراتيجية الأميركية إزاء بلده. وسواء كان الرجل يتفق مع هذه الأهداف أم لا، فسيكون صعبا عليه معارضتها كلها أو معظمها

الجانب الآخر ذو الأهمية المتساوية هو سلوك هذه الحكومة خارجيا عبر ابتعادها عن سياسة المحاور الأيديولوجية والمشاريع الإقليمية العابرة للدول (كما كان مشروع "محور المقاومة" الذي انضوت فيه سوريا الأسد). هذا كان معنى التأكيد القوي لبلينكن على التوقعات الأميركية بهذا الصدد: "علينا أن نتأكد من أن أي حكومة انتقالية سورية ستضمن أن لا تُستخدم سوريا كقاعدة للإرهاب أو التطرف أو تمثل تهديدا لجيرانها أو تتحالف مع مجاميع مثل (داعش). تحتاج أيضا أن تسيطر وتدمر أي أسلحة كيماوية لديها". بالتأكيد الانسحاب السريع والمنطقي الذي أكده الشرع من "محور المقاومة" أمر مبهج لواشنطن والعالم العربي المهتم بتفكيك النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن هذا لا يضمن أن سوريا المقبلة لن تدخل في تحالفات إسلاموية عابرة للحدود (في قيادة "هيئة تحرير الشام" وصفوفها إسلاميون عرب وأجانب مطلوبون لحكومات بلدانهم). تأتي هنا الإشارة الأميركية بعدم "تهديد الجيران" لتعني ضمنا تطبيعا مقبلا للعلاقة مع إسرائيل، أو على الأقل إنهاء رسميا للعداء معها). 

يُفترض أن الشرع يُدرك أهداف الاستراتيجية الأميركية إزاء بلده. وسواء كان الرجل يتفق مع هذه الأهداف أم لا، فسيكون صعبا عليه معارضتها كلها أو معظمها، فرفع العقوبات الأميركية سيكون مشروطا بتحقق بعض هذه الأهداف على الأقل، في المدى المنظور. وعلى هذا الأساس ذكر مشرعون أميركيون، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أنه من المبكر رفع العقوبات عن سوريا، إذ قام الكونغرس بتجديدها حتى مع سقوط الأسد. كما طلبت إدارة ترمب من إدارة بايدن عدم العمل على رفع هذه العقوبات ولا التصنيف الإرهابي لـ"هيئة تحرير الشام" وترك بقية هذا الملف لها. وسيكون بيد إدارة ترمب، وحتى الإدارة الحالية، إصدار بعض الإعفاءات الجزئية من هذه العقوبات لتقليل الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الحكومة السورية الحالية، لكن يستبعد رفعٌ كاملٌ لها قبل أن تتخذ هذه الحكومة خطوات ملموسة وجدية نحو تطبيق الرؤية التي عرضها بلينكن.

وسيواجه الاستعجال السوري الحالي، الذي يتصدره الشرع بنفسه، لرفع العقوبات والحصول على الدعم الأميركي تأنٍ سياسي أميركي بانتظار خطوات ملموسة ومستمرة، على أكثر من صعيد، ستحتاج أن تقوم بها دمشق تتجاوز شهر العسل الحالي، السياسي والشعبي، الذي أعقب سقوط نظام الأسد. 

font change

مقالات ذات صلة