مشهد الرايات الصفراء وأعلام "حزب الله" وصور قادته، المنصوبة فوق ركام الأبنية في المناطق الشيعية المنكوبة، يعطي انطباعاً بأن "البروباغندا" التي يستخدمها "الحزب" لتسويق شرعيته وقدسية خياراته وأهدافه، أصبحت هذه الأيام، مسألة مصيرية تتجاوز الدعاية الحزبية إلى حماية الوجود.
لطالما استعان "الحزب" بـ"عروض الشارع" أي نشر الأقوال والشعارات والرايات والأعلام والصور و"المشهديات" وحتى التماثيل، للتعبير عن وجوده وإظهار سلطته وسيطرته على المجتمع الشيعي، من جهة، ومن جهة أخرى لجعل بيئته تشعر بأن الزعيم والقائد والمسؤول ورجل الدين والمقاتل والشهيد، جزء أساسي من كيانها وهويتها وحياتها اليومية.
يشرح الباحث الفرنسي غي ديبور في كتابه "مجتمع المشهد"، كيف يصبح "المشهد" أي "عروض الشارع" أداة لأدلجة الرأي العام والسيطرة عليه، وكيف تسعى الأنظمة الاستبدادية والأحزاب الشمولية خاصة الدينية منها، عبر "المشهد"، إلى خلق واقع مزيف، يعمل على استدعاء العاطفة واستعداء العقل.
في الأنظمة الاستبدادية، تُستخدم "عروض الشارع" لغرس شرعية النظام وقدسية القادة في وعي "المشاهدين" بشكل مباشر، وفي لا وعيهم بشكل غير مباشر. ومن خلال تكرار مشاهد الصور والرموز في الفضاء العام إلى حد جعلها جزءا منه، يقع الجمهور تحت سيطرة الخطاب الموجه، ويتولد لديه شعور بالتماهي مع القائد الرمز وفكره، فلا يعود يناقش أو يشكك في المفاهيم المطروحة أمامه أو بالأحرى المفروضة عليه.
ووفقا لنظرية "مجتمع المشهد"، تلعب "عروض الشارع" دور وسائل الإعلام التقليدي وغير التقليدي نفسه، من حيث "التلاعب بالعقول"، ذلك أنها تكرس "الخطاب الرسمي"، من خلال احتلالها الفضاء العام، كما يتعاون الإعلام مع "عروض الشارع"، في التحكم بالرأي العام، وإدارته وتوجيهه.
في سوريا على سبيل المثال، نجح نظام الأسدين على مدى 54 عاما في محاصرة عقول السوريين وتفريغها، عبر خاصية "نصب التماثيل"، إلى جانب وسائل إعلام تمكنت من جعل الفئة الأكبر من السوريين تكتفي بتلقي معلوماتها من المصادر التي يديرها النظام، ويضخ فيها تعليماته ومعلوماته. فضلا عن دور الدراما السورية الشهيرة والبرامج التلفزيونية التي كانت تستضيف فنانين سوريين، والتي كان دورها يقتصر على مدح سوريا بصفتها النظام المؤبد وليس الوطن، وينحصر بإضفاء الشرعية على سياسات الأسدين الرؤيوية وحكمتهما في قيادة الشعب والبلاد.
كانت هذه "البروباغندا" مدروسة ومنسقة من قبل أجهزة الاستخبارات التابعة للنظام، إلى درجة أنها نجحت في إقناع الرأي العام أن الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي مرت بها سوريا في العقد الأخير، سببها عوامل خارجية أو مكونات ومجموعات داخلية مأجورة أو مغرر بها، وظل فيها النظام معفيا من أي نوع من المساءلة أو النقد، ومباركا ممدوحا في كل خياراته، سواء تحالفاته السياسية أو أساليب بطشه بمعارضيه.
تعمل "البروباغندا" الموجهة على إعادة إنتاج واقع اجتماعي وسياسي بطريقة درامية، تتناسب ورغبات السلطة، وتفرضه على الرأي العام. عملية إعادة الإنتاج هذه، تكون ضخمة ومهيمنة بحيث تطغى على الواقع الحقيقي الذي هو تجربة الناس، ليحل محله نوع من "الواقع الثانوي" أو "الواقع الافتراضي" المعدّ سلفا. في هذه الحالة ينساق وعي الناس نحو مشاهدة البرامج وسماع الأخبار الحكومية فقط، مما يجعلهم يعتقدون أن الحقيقة هي ما تقدمه لهم هذه الشاشات فقط.
يلجأ "الحزب" في هذه الأيام، إلى التركيز على "عروض الشارع"، ويستخدمها كسلاح أيديولوجي لمواصلة تحكمه بالطائفة الشيعية والسيطرة عليها
على سبيل المثال، في المجتمع الشيعي، يؤدي تكرار عرض خطابات الأمين العام الراحل حسن نصرالله، إلى تضخم إحساس الأشخاص الذين يدعمون "خيار المقاومة" بالقوة والحضور، مما ينتج واقعا مزيفا لا يتوافق والنكبة التي حلت بالطائفة إثر الحرب الأخيرة، كما لا ينسجم مع الحالة المزرية التي يعيشها النازحون من قرى الشريط الحدودي، ولا مع الأزمات الاقتصادية والمعاناة اليومية التي يعيشها من خسروا بيوتهم وأرزاقهم.
من أهم نقاط نظرية "مجتمع المشهد" التي تشير إلى "البعد عن الواقع"، أن ينأى الناس بأنفسهم عن الحقيقة، ويصبحوا مستهلكين سلبيين للصور والمعلومات. تحدث هذه السلبية لأن العروض بمرور الوقت تقمع رغبتهم في المساءلة والمحاسبة، وتدفعهم إلى تقبل المعلومات بشكل آلي. وهذا ما يجعلهم غير قادرين على التعرف على الواقع بشكل صحيح، فيصابون بنوع من اللامبالاة السياسية، ويتجنبون التفكير النقدي أو الاحتجاج.
علاوة على ذلك، تُعتبر "عروض الشارع" أداة فعالة لقمع المعارضين والتشكيك بانتمائهم، فهي عندما تطغى على المشهد العام أو تحتكره، تسلب المعارضين مساحة التعبير عن آرائهم، مما يفقدهم تدريجياً حقهم في ممارسة السياسة.
من هنا، لا يُسمح للأصوات المعارضة في المجتمع الشيعي بالتعبير عن نفسها، خصوصا تلك المعترضة على الحرب الأخيرة وأسبابها ومآلاتها، هناك آلة قمع جبارة تتحرك بسرعة ضد المحتجين، وتصور أي نقد أو حتى امتعاض أو شعور بالوهن على أنه مؤامرة صهيونية.
لذلك يلجأ "الحزب" في هذه الأيام، إلى التركيز على "عروض الشارع"، ويستخدمها كسلاح أيديولوجي لمواصلة تحكمه بالطائفة الشيعية والسيطرة عليها، من جهة، ولقمع معارضيه أو المختلفين معه وتشويه حراكهم السياسي، من جهة أخرى.