لبنان... عندما يستعيد الانقسام "عافيته"

"حزب الله" يحاول نفي هزيمته العسكرية من خلال حركته السياسية

 أ ف ب
أ ف ب
صورة لزعيم "حزب الله" السابق حسن نصر الله على انقاض مبنى في منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية في 10 أكتوبر

لبنان... عندما يستعيد الانقسام "عافيته"

يدور كلام كثير محفوف بالأسئلة عما إذا كان "حزب الله" قد رمم قواه واستعاد عافيته بعد الضربات القاسية التي تلقاها خلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وهي أسئلة فاقمها سقوط حليف "الحزب" بشار الأسد باعتبار أن سوريا كانت معبرا رئيسا للسلاح من إيران إلى لبنان. لكن واقع الحال أنه وفي ظلّ عدم وجود إجابة واضحة وكافية عما إذا كان "حزب الله" قد أعاد فعلا بناء نفسه، وكيف فعل ذلك وبأي حدود، وما المقصود أصلا بذلك، هل قوته السياسية في الداخل اللبناني أم ترسانته العسكرية التي من المستحيل أن يكون قادرا على إعادتها كما كانت قبل الحرب، في ظل ذلك كله فإن الأكيد أن الانقسام اللبناني الذي شهد تحولات كثيرة خلال الحرب استعاد عافيته بقوة بعدها خصوصا مع اقتراب الجلسة البرلمانية المخصصة لانتخاب رئيس في التاسع من يناير/كانون الثاني الحالي.

من الواضح أن "حزب الله" يحاول التأكيد من خلال تفعيل ماكينته السياسية والإعلامية عشية الجلسة أنه أعاد ترميم قوته لا بل إنه أقوى مما كان بوصفه حزبا "حديديا" كما قال أحد مسؤوليه الأحد الماضي. بذلك أصبح البرهان الافتراضي على ترميم "الحزب" لقوته هو حضوره على المسرح السياسي اللبناني دون أرض المعركة في جنوب لبنان، وهي معركة لم تطو صفحتها نهائيا بعد، في ظل استمرار إسرائيل في قصف مواقع تقول إنها لـ"حزب الله" واستمرارها في تفجير المنازل وتجريف الحقول وإعادة تموضع قواتها، في وقت لم تنقض مهلة الستين يوما المحددة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" والذي تم التوصل إليه في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

بالتالي فإن السؤال المطروح هو عن أهداف إسرائيل من وراء "حركتها" المتواصلة في جنوب لبنان ليس جنوب نهر الليطاني وحسب، بل أيضا للشمال منه حيث استهدفت مواقع الخميس الماضي قالت إنها منصات صواريخ لـ"حزب الله". فهل سينسحب الجيش الإسرائيلي من القرى الجنوبية بحلول مهلة الستين يوما لاتفاق وقف النار؟ وما مدى دقة التسريبات عن مسعى إسرائيلي- أميركي لتمديد هذه المهلة لتصبح 90 يوما؟ هذا فضلا عن التسريبات الإسرائيلية عن نية الجيش الإسرائيلي البقاء في نقاط محددة بجنوب لبنان، وإقامة منطقة عازلة على الحدود بعمق ثلاثة كيلومترات؟ ولعل السؤال الأبرز هو كيف سيتصرف "حزب الله" في حال ماطل الجيش الإسرائيلي في انسحابه من الجنوب اللبناني، وفي حال اقترح تمديد مهلة هذا الانسحاب؟ مع العلم أن زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين إلى بيروت الإثنين تزامنت مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من بلدة الناقورة، وهو ما قد يحمل رسالة إسرائيلية أميركية مزدوجة حول نية إسرائيل الانسحاب في غضون المهلة المحددة للاتفاق، لكن في المقابل فإن تصريحات هوكستين من بيروت تترك مجالا للتشكيك في توقيت هذا الانسحاب، إذ لم يكن جازما في أنه سيحصل في مواقيته المحددة.

حتى الآن قال "حزب الله" على لسان أمينه العام نعيم قاسم ما مفاده إنه يحتفظ لنفسه بتوقيت التحرك ضد الخروقات الإسرائيلية سواء قبل انقضاء مهلة الستين يوما أو بعدها، وهو ما يذكر بمعادلة الرد في المكان والزمان المناسبين والتي اشتهر بها "محور الممانعة" قبل انهياره. بيد أنه ومقابل اتهام "الحزب" لإسرائيل بخرق اتفاق وقف إطلاق النار فإن تل أبيب أيضا تتهمه بالمثل وبالأخص بالمماطلة في الانسحاب من جنوب الليطاني وتسليم أسلحته للجيش اللبناني.

لا يمكن توقع تحول في استراتيجية إيران الإقليمية بين عشية وضحاها، أي إنه لا يتوقع أن يكون "حزب الله" مستعدا بسرعة إلى تسليم سلاحه والتحول إلى مجرد حزب سياسي يشارك في اللعبة السياسية اللبنانية من دون سطوة السلاح

وتبادل الاتهامات هذا وإن كان يوفر "شرعية" لإسرائيل لاستئناف تصعيدها ضدّ "حزب الله" فإنه يرخي بظلاله على الداخل اللبناني لناحية أن أحد أهداف "الحركة" الإسرائيلية جنوبا هو الضغط على الحكومة اللبنانية وقواها العسكرية للضغط أكثر على "حزب الله" ودفعه إلى "التعاون أكثر"، وإلا فإن تجربة الحرب المريرة قد تكون قابلة للتكرار. وهو ما تتجنبه الحكومية اللبنانية حكما وإن كان موقف "الحزب" من كل ذلك لا يزال يكتنفه الغموض مع أن غالب الظن أنه غير مستعد لا هو ولا جمهوره لتكرار تلك التجربة القاسية.

رويترز
مشهد لعودة النازحين إلى الضاحية الجنوبية لبيروت بعد دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" حيز التنفيذ، 27 نوفمبر 2024

وهذا ملف شائك ومعقد لأن القرار فيه لا يعود  إلى الحكومة اللبنانية بطبيعة الحال بل إن مجرياته تتوقف بشكل رئيس على استراتيجية إيران للتعامل مع المرحلة المقبلة عشية دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. أي إن مقدار تعاون "حزب الله" مع الجيش اللبناني يتوقف على مقدار استعداد إيران للتخلي عن استراتيجية "الدفاع المتقدم" والتي تقوم على تجهيز وتقوية أذرعها الإقليمية بوصفها خط الدفاع الأول عنها. وهذا أمر يخضع، وفق التسريبات، لتقييمات وتجاذبات داخل أطر الحكم في إيران، بين فريق الرئيس مسعود بزشكيان و"الحرس الثوري".

في هذا السياق كان لافتا تصريح وزير الخارجية الإيراني الأحد عن أنه لا انفصال بين الدبلوماسية والأنشطة الميدانية وذلك في إشارة إلى الاتفاق بين وزارة الخارجية الإيرانية و"الحرس الثوري" على التنسيق الكامل بين الأنشطة الميدانية الإقليمية والدبلوماسية وعدم الفصل بينهما. وهذا تصريح يؤكد حقيقة النقاشات الدائرة في إيران حول كيفية التعامل مع المرحلة المقبلة، لكنه قد يعني أيضا أن "الأنشطة الميدانية" قد تكون خاضعة للأولويات الدبلوماسية وليس العكس، وهو ما يعكس استعدادا إيرانيا لإعطاء فرصة للدبلوماسية مع اقتراب تسلم دونالد ترمب لمهامه، فيما لم يتضح بعد كيف سيتعامل "ترمب الثاني" مع الملف الإيراني، وهو ما يزيد في الحيرة الإيرانية بطبيعة الحال.

أيا يكن من أمر فإنه لا يمكن توقع تحول في الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية بين عشية وضحاها، أي إنه لا يتوقع أن يكون "حزب الله" مستعدا أو مضطرا إلى تسليم أسلحته الثقيلة على وجه السرعة والتحول إلى مجرد حزب سياسي يشارك في اللعبة السياسية اللبنانية من دون سطوة السلاح والتلويح باستخدامه وحتى استخدامه. وهل يمكن تصور أن يقدم "حزب الله" على تسليم صواريخ بالستية إيرانية بحوزته إلى الجيش اللبناني؟ 

ما هو مؤكد حتى الآن وفق ما تشي به تصريحات مسؤولي "حزب الله" وحركتهم السياسية، ولاسيما عشية جلسة انتخاب الرئيس، أن "الحزب" لا يريد الظهور وكأنه انكسر جراء الحرب وأنه أصبح تبعا لذلك مضطرا لتقديم تنازلات سياسية في الداخل اللبناني. بمفردات أخرى فإن "حزب الله" يدفع باتجاه منع تثبيت معادلات سياسية جديدة في لبنان بناء على نتائج الحرب الأخيرة كما لو أنه سلم بهزيمته، ولذلك كانت لافتة إشارة الأمين العام لـ"الحزب" الأسبوع الماضي إلى تجربة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والتي انتهت إلى طرد "منظمة التحرير الفلسطينية" من بيروت وانتخاب قائد "القوات اللبنانية" بشير الجميل رئيسا للجمهورية.

ما يريده "حزب الله" هو العكس تماما، أي إثبات أنه ليس للحرب مفاعيل سياسية في الداخل اللبناني. لكن في واقع الحال فإن "حزب الله" الذي كان متمسكا بمرشحه سليمان فرنجية قبل الحرب أصبح الآن يتحدث مع حليفه رئيس البرلمان نبيه بري عن رئيس توافقي، في وقت كانت قوى "المعارضة" هي من تدعو "الحزب" قبل الحرب إلى التخلي عن مرشحه والقبول بمرشح توافقي.

"حزب الله" يحاول أن يبرهن أنه لم يهزم خلال الحرب وبالتالي فإن الحرب لن تكون لها مفاعيل سياسية في الداخل اللبناني

هذا متغيّر غير بسيط في سياق معركة رئاسة الجمهورية اللبنانية، يضاف إليه متغير آخر وهو بروز اسم رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع كمرشح للرئاسة، في وقت كان اسمه خارج التداول تقريبا قبل الحرب. لا يعني ذلك أن حظوظ جعجع قد ارتفعت بعد الحرب، لكن قياسا بمرحلة ما قبل الحرب فإن مجرد بروز اسمه على هذا النحو يعتبر متغيرا سياسيا ضد "حزب الله"، إذ يدل على جرأة أكبر لدى قوى "المعارضة" لتحدي الخطوط الحمراء لـ"الحزب" في الملف الرئاسي. لكن في المقابل فإن هجوم "حزب الله" على جعجع، وعلى لسان وفيق صفا أبرز مسؤوليه حاليا، يؤشر إلى أنّ "الحزب" يحضّر لاعتبار منع انتخاب جعجع إنجازا سياسيا، تماما كما فعل خلال الحرب عندما روج أن عدم تقدم الجيش الإسرائيلي أكثر في الجنوب اللبناني وصولا إلى بيروت هو إنجاز عسكري، ولا يزال يعتد به. في وقت أن مسؤولي "الحزب" كانوا يقولون خلال الحرب إن إسرائيل لم تحتل أي قرية لبنانية. وهكذا الأمر نفسه ينطبق على الملف الرئاسي باعتبار أن هدف "الحزب" في الأساس ليس منع انتخاب جعجع وإنما انتخاب مرشحه أو الأقرب إليه بين المرشحين.

رويترز
البرلمان اللبناني منعقدا لانتخاب رئيس للجمهورية في 14 يونيو 2023

بالتالي وفي تلخيص للمعادلات القائمة بين الجنوب وبيروت، فإن "حزب الله" يحاول أن يبرهن أنه لم يهزم خلال الحرب وبالتالي فإن الحرب لن تكون لها مفاعيل سياسية في الداخل اللبناني. لكن ما يجدر التوقف عنده أن سعي "الحزب" إلى هذا البرهان قد تحوّل إلى جوهر حركته السياسية وكأنه أجندته الكاملة، وهذا ينطوي على اختلال في حركته وعلى تشكيك بمدى إعادة بنائه لنفسه. وفي المقابل فإنّ إسرائيل تحاول من خلال "حركتها" المتمادية في الجنوب البرهان على انتصارها في الحرب مع أن مفاعيل هذه الحرب غير مكتملة بالنسبة إليها. ولعل جزءا أساسيا من المشهد اللبناني الحالي يتوقف على مدى ذهاب "الحزب" بعيدا في تأكيد عدم خسارته وعلى مدى ذهاب إسرائيل بعيدا في تأكيد انتصارها. وبين هذا وذاك يستعيد الانقسام اللبناني عافيته دون لبنان الذي لا يزال يرزح تحت أعباء الحرب ومخلفاتها والذي لا يزال مستقبله رهن الحسابات الدولية والإقليمية وقد زادها الحدث السوري تعقيدا، خصوصا أن أطرافا عديدة تريد أن توازن المشهد السوري الجديد انطلاقا من لبنان، إما تعويضا عن خساراتها كما هي حال إيران، أو تعزيزا لنفوذها في بيروت لموازنة النفوذ التركي في دمشق أو الحد من توسعه نحو العاصمة اللبنانية.

font change

مقالات ذات صلة